“روث بفاو”.. الأم تريزا الباكستانية في ميزان الطب الإنساني
في العاشر من أغسطس الماضي (2018)، نشرت صفحة مركز ماري أديلايد للجذام فيديو قصير بمناسبة مرور عام على وفاة الدكتورة روث بفاو Ruth Pfau تلك الراهبة الألمانية الأصل التي كرست الـ 57 عام الأخيرة من حياتها الطويلة للقضاء على مرض الجذام في باكستان، فضلا عن خدماتها الطبية والاجتماعية الأخرى، وقبل مشاهدتي للفيديو، لم أكن قد سمعت أو قرأت عنها شيئا، وربما أنتم أيضا.
السيدة روث هي نموذج لآلاف الغربيين الذين يتسمون بالجلد الذي يدفعهم لتحمل مشقة الغربة الطويلة والعمل الشاق في كثير من بلاد العالم الثالث، في ظروف مناخية واجتماعية واقتصادية مختلفة عما ألفوه في بلادهم، دون كلل أو ملل، إما بدافع إنساني، أو لدافع مصلحة، المهم أنهم يحققون إنجازات تثير الإعجاب والغيرة في ذات الوقت، بما يجعلك تقول يا ليت لنا نماذج مثلها.
يمكننا أن نقسم حياة روث بفاو إلى مرحلتين كبيرتين: المرحلة الأولى تبدأ منذ ولادتها في التاسع من سبتمبر عام 1929 في ولاية لايبتسيش الألمانية لأسرة لوثرية بروتستانتية، وخلال تلك المرحلة عاشت عددا من الاضطرابات والتقلبات حتى بلغت الحادية والثلاثين من عمرها. فقد دمر منزل أسرتها في الحرب العالمية الثانية، ودخل الاحتلال السوفيتي الولاية التي ولدت فيها، فاضطرت للهرب مع أسرتها من ألمانيا الشرقية، إلى الغربية، وهناك درست الطب خلال عقد الخمسينيات في جامعة ماينز، وخلال تلك الفترة عرفت عددا من التقلبات الروحية والدينية، فخلال تلك الفترة التقت بسيدة هولندية مسيحية من الناجين من معسكرات الاعتقال، والتي كرست حياتها للدعوة للمحبة والغفران، فأثرت فيها كثيرا، فانخرطت في مناقشات حول الفلسفة والأدب الكلاسيكي بالجامعة، وبعد أن تعمدت على مذهب البروتستانت الإنجيليين عام 1951، عادت وتحولت إلى الكاثوليكية الرومانية عام 1953، وكما تقول عن نفسها فإنها في تلك الفترة تعلمت شجاعة أن تكون إنسانية، من خلال قراءتها عن القديس توما الإكويني، ومن ثم التحقت بأحد الأبرشيات الكاثوليكية، وفي 1957 سافرت إلى باريس وانضمت إلى نظام “بنات قلب ماري”، الذي أرسلها عام 1960 إلى جنوب الهند، لكن أمورا متعلقة بالتأشيرة جعلتها عالقة في كراتشي بباكستان، ومن هناك بدأت المرحلة الثانية والأطول في حياتها.
بدأت روث المرحلة الثانية من حياتها، عندما زارت مستعمرة الجذام في منطقة عشوائية بالقرب من محطة قطارات المدينة عام 1960، وهناك قررت أن تكرس حياتها لعلاج هؤلاء المرضى، كان العمل على مكافحة الجذام قد بدأ بمجموعة متطوعة منذ عام 1957، كانت الحالة معيشة في مستعمرة الجذام غير آدمية. فلا أدوية مناسبة، أو منشآت، أو كهرباء، أو مياه، فقط مستوصف صغير أقامته المجموعة باستخدام الصناديق الخشبية، وهناك بدأت روث مهمتها من ذلك الكوخ الصغير وسط المستعمرة، وفي عام 1962 أسس دكتور آي كيه جيل “مركز ماري أديلايد للجذام Marie Adelaide Leprosy Centre“، وتولت روث إدارته، حيث بدأ العمل في المركز اجتماعيا لدعم مرض الجذام وأسرهم، وفي العام التالي 1963 أسس المركز عيادة، كان المرضى يفدون إليها من كل أنحاء باكستان، ومن أفغانستان أيضا، وخلال عامين تحولت العيادة إلى مستشفى مجاني لعلاج وإعادة تأهيل مرضى الجذام، استعانت فيه روث بمرضى سابقين متطوعين دربتهم لتشخيص وعلاج المرض وتسجيل الحالات، بينما كانت دكتورة روث تقوم بوضع خريطة لتوزيعات المرضى على مقاطعات باكستان المختلفة، كخطوة أولى لبناء برنامج وطني باكستاني للقضاء على المرض. ومن ثم، وفي عام 1979، تم تعيينها كمستشار اتحادي للجذام في وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية لحكومة باكستان. وقد ذهبت روث إلى مناطق بعيدة من باكستان حيث لا توجد مرافق طبية لمرضى الجذام، وجمعت التبرعات في ألمانيا وباكستان وتعاونت مع مستشفيات روالبندي وكراتشي، وساهمت في تأسيس 157 عيادة، ساهمت في علاج ما يقرب من 57 ألف مريض جذام.
كما مدت خدمات مركز ماري أديلايد ليشمل علاج السل ومكافحة العمى في باكستان، وتقديرا لخدماتها للبلد، حصلت روث على الجنسية الباكستانية في عام 1988. وبسبب جهودها المستمرة، أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 1996 أن باكستان هي واحدة من أوائل الدول في آسيا التي تمكنت من مكافحة الجذام، حيث انخفض عدد حالات الجذام على الصعيد الوطني انخفاضا كبيرا من 19398 حالة في أوائل الثمانينات إلى 531 في عام 2016. وقد حظيت د. روث بفاو باحترام كبير من قبل المسلمين في باكستان، حيث أن المسلمين كانوا يمثلون غالبية المرضى في مركز ماري أديلايد للجذام. يقول سليم ماير أمير في دراسة عن روث نشرت في إيطاليا بعنوان “أن تكون مرسلا في باكستان” أنها لم تتحدث أبداً عن الأديان، لكن “إيمانها وخدمتها وحبها” أظهروا تمثيلاً حقيقياً للروح التي تحرك العلاقة بين أهل الأديان.
وفي الصباح الباكر من يوم 10 أغسطس 2017، توفيت روث في مستشفى جامعة الآغاخان في كراتشي بعد دخولها هناك بسبب مشاكل في الجهاز التنفسي في 4 أغسطس 2017. كانت روث تخضع للعلاج من العديد من المشاكل الصحية بسبب تقدمها في العمر، بما في ذلك أمراض الكلى والقلب، ومن ثم فإنها أسلمت الروح في النهاية في ذلك اليوم. وقد نعاها قادة باكستان، وحظيت يوم 19 من ذلك الشهر بجنازة رسمية، بثتها قناة التلفزيون الرسمي. كانت دكتورة روث قد حظيت خلال حياتها بالعديد من الجوائز سواء من باكستان أو ألمانيا أو على المستوى الآسيوي، وقد أطلق اسمها بعد وفاتها على المستشفى المدني في كراتشي. وقد دونت خبراتها وتجاربها في عدة كتب بالإنجليزية والألمانية منها “أن توقد شمعة..ذكريات وتأملات دكتورة روث بفاو عام 1987، و”الكلمة الأخيرة هي المحبة: المغامرة، والطب، والحرب، والله” عام 2017، وكتب عنها في حياتها ضيا مطهر Zia Mutaher كتابه “خدمة غير المخدومين..حياة دكتورة روث بفاو” عام 2004.
تبقى في النهاية حياة أمثال هؤلاء المغامرون، أصحاب الرسالة، والجلد، والمثابرة والإنجاز ملهمة مقارنة بأصحاب الكروش والعروش والخزائن والسفه في الإنفاق وفي أنماط الحياة، والسؤال هو من يفوز في ميزان نفع الناس؟
تقول الدكتورة روث بفاو – معبرة عن رسالتها في الحياة – “ربما لا نستطيع جميعا منع الحروب، لكن معظمنا يمكن أن يساعد في تخفيف معاناة الجسد والروح”.
د. مجدى سعيد