الحكيم

الزهراوي.. واضع أسس الجراحة الحديثة ومبتكر عشرات الأدوات الجراحية التي ما زالت تستخدم إلى يومنا

يعد العالم المسلم الكبير خلف بن عباس أبو القاسم الزهراوى الأندلسى, من أعظم الجراحين الذين أنجبتهم البشرية عبر العصور الماضية, إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، لما لا وهو الذى تمكن من اختراع أولى أدوات الجراحة، كالمشرط والمقص الجراحى، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، والتى من أهمها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة.

قال عنه ابن أبي أصيبعة: “كان طبيبًا فاضلاً خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام في معناه.» ووصفه غوستاف لوبون بأنه: “أشهر جراحي العرب، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص، فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غيرِ حقٍّ”.

ولد أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، عام 936م، في مدينة الزهراء التي بناها أمويّو الأندلس شمال غرب مدينة قرطبة، وتوفي بها عام 1013م.

يُعرف في الغرب باسم “Abulcasis”. وكان من أعظم أطباء العصر؛ نابغة تخصص في الجراحة… أيام لم يكن أحد يضاهي العرب في الطب!

نذر حياته، بصغير تفاصيلها وكبيرها، لهذا العلم وللكتابة فيه… كان طبيب الخليفة عبد الرحمن الناصر، وابنه المستنصر، ومع ذلك… لم يستهوه البلاط!

واجهة غلاف النسخة اللاتينية لكتاب التصريف للزهراوي طبعة سنة 1541.

طبيب المساكين

حتى إن بعض المصادر التاريخية تصفه بـ”طبيب الفقراء”، إذ كان يُخصص نصف نهاره لمعالجة الفقراء من المرضى… مجانا؛ تقرّبا من الله.

أولى الإشارات عن الزهراوي وردت في كتابات ابن حزم الأندلسي، الذي عاصره في أواخر حياته فعدّه من أعظم أطباء الأندلس.

في سيرة مثل هذه، لن يبدو غريبا شحّ ما بلغنا عن نشأة الزهراوي وكيف أخذ ينبغ… لكن، يكفي القول إنه عاش بقرطبة في أوج حضارتها.

التصريف لمن عجز عن التأليف

أتم الزهراوي كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف» عام 1000 م، وهو من ثلاثين مجلد من الممارسات الطبية والذي جمع فيه العلوم الطبية والصيدلانية في زمانه، والذي غطى نطاق واسع من الموضوعات الطبية منها طب الأسنان والولادة التي جمع معلوماته على مدى 50 عامًا من ممارسته للطب، واحتوي على وصف تشريحي وتصنيف لأعراض حوالي 325 مرض وعلاجاتها، والجوانب الطبية المتعلقة بالجراحة والجراحات التجبيرية والصيدلة وغيرها، إلا أن محتواه الأبرز كان في الجراحة. الذي قال عنه ابن حزم: «ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنصدقن»، والذي ترجمه جيراردو الكريموني إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، والذي ظل يستخدم لخمسة قرون في أوروبا العصور الوسطى، وكان المصدر الأساسي للمعرفة الطبية بأوروبا، واستخدمه الأطباء والجراحون كمرجع لهم، وظل الكتاب متداولاً ويعاد طبعه حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

كما ألّف الزهراوي كُتبا عديدة مثل “نور العين”، “تفسير الأكيال والأوزان”، “المقالة في عمل اليد”… ومع ذلك، ظلت موسوعته تلك الأشهر.

أتت هذه الكتب  على تفصيل نحو 325 مرضا، مع طرق علاجها.

غير أن أبرز ما تضمّنته وما أكسبه لقب “أب الجراحة الحديثة” ذاك، ما ورد فيها عن الجراحة من تفاصيل وتوسعه في ما ينجحها ويفسدها؛ ناهيك عن رسوم توضح أدوات جراحية ابتكرها وصمّمها بنفسه…

ظلت هذه الموسوعة، بعد ترجمتها إلى اللاتينية في القرن الـ12م، المصدر الأساسي للمعرفة الطبية والجراحية في أوروبا لأزيد من خمسة قرون.

صفحة من نسخة لترجمة لاتينية من كتاب التصريف ترجع لعام 1531 م.

ابتكاراته

ابتكر الزهراوي أكثر من 200 أداة جراحية، وقد رسم تصاميمها بدقة في كتبه لمن أراد أن يصنعها…

بعض هذه الأدوات ما زال يُستعمل إلى يومنا هذا، ومن أشهرها: الحقنة، ملقط التوليد، الإبرة والخيط الجراحي، اللاصق الطبي…

كما له ابتكارات أخرى ينهجها الجراحون إلى اليوم، مثل استخدام الحبر لتحديد موضع الشف على جسم المريض قبيل الجراحة…

كان أيضا أول من استخدم الحرير في خياطة الجروح، وأول من اعتمد القطن كضمادة توضع على الجرح… جبر الكسور بالجبس كذلك من ابتكارات الزهراوي.

أوّل من

لن تكفي بضعة أسطر للإشارة إلى كل ما كان الزهراوي سبّاقا إليه في الجراحة… حتى إن بعض ما صار الغرب يفتخر باختراعه، كان أبو القاسم قد أشار إليه قرونا قبل ذلك…

يُنسب إلى الطبيب الفرنسي غوستاف لوبون قوله إن “الزهراوي أشهر جراحي العرب، وصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص، فعُدّت من اختراعات العصر الحاضر على غير حق”.

فالزهراوي، كما يثبت ذلك كتابه “التصريف”، كان أول من توصل إلى طريقة لربط الأوعية الدموية النازفة… وأول من وصف عملية قسطرة القلب وابتكر أدوات إجرائها…

… وأول من مارس التخييط الداخلي بإبرتين وخيط واحد… وأول من عالج البواسير الشرجية، وأول من ابتكر مقصلة لاستئصال اللوزتين… وتوسع على نحو غير مسبوق في طب الأسنان وجراحة الفكين…

… وأول من ابتكر آلة لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة… وأول من توسع في التوليد وطرق تدبير الولادات العسيرة، وكيفية إخراج المشيمة الملتصقة (وهو عضو داخلي يتصل بالجنين عن طريق الحبل السري)، والحمل خارج الرحم، والجنين الميت، وأول من استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم…

يعد الزهراوي أكبر المرجعيات الجراحية في العصور الوسطى. وصف دونالد كامبل مؤرخ الطب العربي تأثير الزهراوي على أوروبا: «ألغت طرق الزهراوي طرق جالينوس، وحافظت على مركز متميز في أوروبا لخمسمائة عام. … كما ساعد على رفع مكانة الجراحة في أوروبا المسيحية، …» وفي القرن الرابع عشر، استشهد الجراح الفرنسي (غي دي شولياك) بكتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» أكثر من 200 مرة.

ووصف بيترو أرغالاتا (المتوفي عام 1453 م) الزهراوي بقوله «بلا شك هو رئيس كل الجراحين». وقد ظل تأثير الزهراوي حتى عصر النهضة، حيث استشهد الجراح الفرنسي جاك ديلشامب بكتابه التصريف. وقد كرمته إسبانيا بإطلاق اسمه على أحد شوارع قرطبة القريبة من جامع قرطبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى