من اختبارات الحمل إلى شرائح قياس الجلوكوز.. علم الموائع الدقيقة يفتح آفاقاً واسعة في الطب
نشأ علم الموائع Microfluidics في بدايات الثمانينات من القرن العشرين، وتم استخدامه حينئذ, في تطوير وتنمية رؤوس طباعة الحبر النفاث، رقاقات الدنا الدقيقة، تقانة المختبر على رقاقة، الدفع الدقيق (propulsion)، وتقنيات الديناميكا الحرارية الدقيقة.
يختص علم الموائع الدقيقة بالتعامل مع سلوك، الضبط الدقيق ومعالجة الموائع، المقيدة هندسياً بالأحجام الصغيرة وغالباً ما تكون في نطاق الملليمترات الفرعية. ومن المعروف أن صفة الدقيق (ميكرو) يُعْنَى بها الخصائص التالية: ( “الكميات الصغيرة (nl، pl، fl)”, “الأحجام الصغيرة“, “استهلاك منخفض للطاقة”, “تأثيرات المجال الدقيق“).
مؤخراً أصبحت فحوص “كوفيد – 19” تلعب دوراً محورياً في السيطرة على الوباء، حيص أضحت تعدّ هي الأخرى نوعاً من التقنيات المتناهية الصغر. يقدّم الكثير من فحوص “كوفيد – 19” نتائج أكيدة في غضون ساعات قليلة من دون الحاجة إلى إرسال عيّنة إلى المختبر، ويعتمد معظم هذه الفحوص على “علم الموائع الدقيقة”.
يقول الدكتور “ألبرت فولتش”, أستاذ الهندسة الحيوية بجامعة واشنطن: “بصفتي أستاذاً في الهندسة الحيوية وأعمل على “علم الموائع الدقيقة” في أبحاثي، أعرف أن هذه التقنية تدخل في كلّ شيء: من اختبارات الحمل إلى شرائح قياس الجلوكوز، والطابعات العاملة بالحبر والفحوص الجينية. تنتشر هذه التقنية، التي لا يعرف الكثيرون بوجودها، في كلّ مكان وتنطوي على أهميّة كبيرة في مجالات عدّة في عالمنا المستمرّ في التطوّر.
موائع دقيقة
ما هي الموائع الدقيقة؟ هي الأنظمة أو الأجهزة التي تعتمد في عملها على كميّات صغيرة من السوائل التي تنتقل عبر قنوات أرقّ من الشعرة، مزوّدة بصمّامات متناهية الصغر تستطيع تشغيل وتعطيل التدفّق. تُصنع هذه القنوات من مواد كالزجاج والبوليمرات والورق والمواد الهلامية، وتعتمد على الضخّ الميكانيكي كإحدى الوسائل لتحريك السوائل. وتستخدم أيضاً وسائل أخرى كتحريك الشحنات السطحية لبعض المواد، وما يُعرف بـ«النشاط الشَعري» الشهير بـ«حركة الفتل» التي تدفع السائل في الأماكن الضيّقة بمساعدة الطّاقة المخزّنة فيه.
تتحرّك السوائل بطرق غير عفوية في المقاسات الصغيرة، على عكس التدفّق الغزير والفوضوي للمياه من خرطوم الري في الحديقة أو مرشاش (دش) الحمّام. ففي تقنية الموائع الدقيقة، أي في المقاسات الصغيرة التي تحكم القنوات المتناهية الصغر، يكون التدفّق شديد الاستقرار والثبات، ويتحرّك نزولاً عبر القناة بمجاري منظّمة ومتوازية في عملية تسمّى التدفّق الصفحي، الذي يُعدّ أحد أروع عجائب أنظمة الموائع الدقيقة. تتبع السوائل والجسيمات في التدفّق الصفحي مسارات قابلة للتقدير الرياضي؛ الأمر الذي يعتبر شرطاً أساسياً في الهندسة الدقيقة وتصميم الأجهزة الطبية.
الخاصية الشَعرية
نشأت هذه المقاربة، التي تشكّل مصدر إلهامٍ للباحثين، منذ عقود. تنقل النباتات الأغذية من جذورها إلى الأعلى، أي أعلى الجذوع باستخدام الخاصية الشَعرية. اعتمدت هذه الفكرة كقاعدة لصناعة دوائر الموائع الدقيقة التي تزوّد نفسها بالطّاقة. نسخ علماء الكيمياء الخصائص الفيزيائية للأمطار وصمموا أجهزة تفكّك العيّنة إلى ملايين القطرات وتحلّلها بسرعات مذهلة. تلعبُ كلّ قطرة منها دور مختبرٍ كيميائي صغير يتيح للعلماء دراسة تطوّر الجزيئات الحيوية وإجراء تحليل جيني فائق السرعة، وغيرها من الأمور.
فوائد أخرى
يستخدم النّاس الموائع الدقيقة بكثرة في حياتهم اليومية؛ لأنّها تدخل في مجالات عدّة كالطابعات العاملة بالحبر مثلاً التي تنتج قطرات حبرٍ صغيرة أثناء عملها، والطابعات الثلاثية الأبعاد التي تستخدم بوليمراً مصهوراً في خرطوشة مصنوعة من الموائع الدقيقة، وأقلام الحبر العادية أو الحبر الجاف التي تفرز الحبر باعتماد مبادئ الموائع الدقيقة. تعمل بخاخات مرضى الربو أيضاً برشّ رذاذ من قطرات الدواء المجهرية. ويعتمد اختبار الحمل على تدفّق البول على شريحة ورقية مصنوعة من الموائع الدقيقة.
في البحث العلمي، تستطيع الموائع الدقيقة توجيه الأدوية والأغذية، أو أي سائل باتجاه أجزاء محدّدة من الكائنات الحيّة عبر عمليات بيولوجية محاكاة بدقّة. عمد الباحثون في إحدى التجارب العلمية إلى حبس ديدان في قنوات وتحفيزها بالروائح لمعرفة المزيد حول دوائرها العصبية. وعمل فريقٌ آخر على توجيه الأغذية باتجاه مناطق محدّدة من جذور نبتة لمراقبة التفاعلات المختلفة للمواد الكيميائية المستخدمة عادة لتسريع النموّ. وعملت مجموعات بحثية أخرى على ابتكار فخاخ مصنوعة من الموائع الدقيقة تلتقط خلايا ورم نادر في الدم.
وأخيراً وليس آخراً، استخدمت الرقائق الجينية المصنوعة من الموائع الدقيقة في تسريع أداء تسلسل الجينوم البشري وصناعة أدوات فحوص الحمض النووي كتلك التي تقدّمها شركة «23 أند مي». باختصار، ساهمت الموائع الدقيقة في تحويل هذه الأفكار إلى حقيقة.
عصر الحداثة والسرعة
تنطوي هذه التقنية على أهمية كبرى في دفع الطبّ نحو عصر من الحداثة والسرعة وانخفاض الكلفة. تعدّ الأجهزة القابلة للارتداء التي تقيس مكوّنات العرق بهدف متابعة التمارين الرياضية، والأجهزة المزروعة التي توصل أدوية السرطان لورم المريض بعضٌ من الحدود العلمية المستقبلية التي سترسمها الموائع الدقيقة.
يعمل الباحثون حالياً على تطوير أنظمة موائع دقيقة مركّبة اسمها «أعضاء على رقائق» organs – on – chips تهدف إلى محاكاة أشكالٍ متنوّعة من الفيزيولوجيا البشرية. تعمل الفرق العلمية، في مختبري ومختبرات أخرى حول العالم، على تطوير منصّات «ورم على رقاقة» لاختبار أدوية السرطان بفعالية أكبر. ومن المفترض أن تساعد هذه العناصر المحاكاة العلماء على اختبار علاجات جديدة بطريقة غير مكلفة وغير مؤلمة، وغير مثيرة للجدل من النّاحية الأخلاقية المتعلّقة باستغلال الحيوانات أو البشر. في مختبري، عمدنا إلى تشريح خزعة سرطانية أخذناها من مريض وقسّمناها إلى قطعٍ مجهرية أبقيناها حيّة. وساعدنا حجمها الصغير على استخدام الموائع الدقيقة لحبس قطع الورم الصغيرة في أوعية عدّة، واستخدام دواء مختلف في كلّ وعاء. تحفظ هذه العينات المحيط الخلوي المناسب للورم، ما يسمح لنا بالتوصّل إلى توقّعات أكثر دقّة حول تأثير الدواء على شخص محدّد.
تخيّلوا الذهاب إلى طبيب لينتزع منكم خزعة، وينجح في تحديد أي مزيج من الأدوية هو الأمثل للقضاء على الورم الذي تعانون منه في أقلّ من أسبوع. قد يكون هذا الإنجاز بعيداً عن متناولنا اليوم، ولكنّ الأكيد هو أنّ المستقبل سيكون للموائع الدقيقة.
الموائع الدقيقة في بخاخات الربو واختبارات الحمل
> يستخدم النّاس الموائع الدقيقة بكثرة في حياتهم اليومية؛ لأنّها تدخل في مجالات عدّة كالطابعات العاملة بالحبر مثلاً التي تنتج قطرات حبرٍ صغيرة أثناء عملها، والطابعات الثلاثية الأبعاد التي تستخدم بوليمراً مصهوراً في خرطوشة مصنوعة من الموائع الدقيقة، وأقلام الحبر العادية أو الحبر الجاف التي تفرز الحبر باعتماد مبادئ الموائع الدقيقة.
تعمل بخاخات مرضى الربو أيضاً برشّ رذاذ من قطرات الدواء المجهرية. ويعتمد اختبار الحمل على تدفّق البول على شريحة ورقية مصنوعة من الموائع الدقيقة.
في البحث العلمي، تستطيع الموائع الدقيقة توجيه الأدوية والأغذية، أو أي سائل باتجاه أجزاء محدّدة من الكائنات الحيّة عبر عمليات بيولوجية محاكاة بدقّة.
عمد الباحثون في إحدى التجارب العلمية إلى حبس ديدان في قنوات وتحفيزها بالروائح لمعرفة المزيد حول دوائرها العصبية. وعمل فريقٌ آخر على توجيه الأغذية باتجاه مناطق محدّدة من جذور نبتة لمراقبة التفاعلات المختلفة للمواد الكيميائية المستخدمة عادة لتسريع النموّ. وعملت مجموعات بحثية أخرى على ابتكار فخاخ مصنوعة من الموائع الدقيقة تلتقط خلايا ورم نادر في الدم.
وأخيراً وليس آخراً، استخدمت الرقائق الجينية المصنوعة من الموائع الدقيقة في تسريع أداء تسلسل الجينوم البشري وصناعة أدوات فحوص الحمض النووي كتلك التي تقدّمها شركة “23 أند مي”. باختصار، ساهمت الموائع الدقيقة في تحويل هذه الأفكار إلى حقيقة.