“الجلطة التى أنارت بصيرتي”.. تفاصيل رحلة مذهلة، تمزج بين التجربة الإنسانية والمعارف العلمية
(استناداً إلى تجربتي الشخصية بالإصابة في الفصّ الأيسر من المخ، فإنني أؤمن إيماناً قلبياً تاماً بأن الشعور بالسلام الداخلي العميق هو عبارة عن دائرة عصبية تقع في الفصّ الأيمن من المخ. وهذه الدائرة العصبية تظل تدور باستمرار، وتظل متاحة لنا لنعلق في إيقاعها. الشعور بالسلام عبارة عن حالة تحدث في اللحظة الآنية، وليس شيئاً نجلبه معنا من الماضي أو يتراءى لنا في المستقبل. الخطوة الأولى لتجريب السلام الداخلي تتمثل في الإصرار على أن تكون حاضراً هنا والآن).
بهذا المدخل استهلت عالمة المخ والأعصاب الدكتورة “جيل بولتي تيلور”, كتابها الرائع, “الجلطة التى أنارت بصيرتي” الصادر ترجمته العربية عن دار مسعى.
وفى الكتاب الذى ترجمته نجمة إدريس، تسجل تايلور تفاصيل هذه الرحلة المذهلة، حيث تمزج التجربة الإنسانية بالمعارف العلمية، وبما أهدته إليها هذه الجلطة من البصيرة الداخلية.
في مقدمة الكتاب تقول نجمة إدريس “بعض الكتب قد نهتدي إليها بالمصادفة المحضة، لتقرع في الرأس جرسا صغيرا يحرضنا على ألا نتركها في هامش المصادفات، هكذا تعرفتُ على كتاب (الجلطة التي أنارت بصيرتي) للدكتورة جيل تيلور، وأنا أتجول في إحدى مكتبات ضاحية نائية من ضواحي لوس أنجلوس ذات صيف بعيد. جذبني العنوان الذي يبدأ بصدمة الإصابة بجلطة في المخ، لينتهي إلى طريق مُغر نحو الروحانية الخالصة وتفتق بصيرة وقادة”.
وتواصل قائلة «قرأتُ الكتاب في حينها، ثم أنمته في مكتبتي لسنوات، إلى أن حدث ما أيقظه من سباته، وذلك حين أصيبت إحدى قريباتي العزيزات بجلطة مفاجئة في المخ، فالتم حولها الأبناء والمقربون وهم يضربون أخماسا في أسداس، يحاولون أن يستوعبوا ويتأقلموا ويعينوا قدر علمهم واستطاعتهم. تذكرتُ حينها هذا الكتاب».
د. جيل تايلور عالمة في مجال المخ والأعصاب من مواليد 1959 بولاية إنديانا الأميركية، في عام 1996 أصيبت بجلطة في الفص الأيسر من المخ، وفي غضون 4 ساعات لم تعد قادرة على شيء، لا المشي ولا الكلام ولا القراءة والكتابة، كانت تقف على حافة الموت، في كتاب «الجلطة التي أنارت بصيرتي» تسجل تايلور تفاصيل هذه الرحلة المذهلة، حيث تمزج التجربة الإنسانية بالمعارف العلمية، وبما أهدته إليها هذه الجلطة من البصيرة الداخلية.
كتاب تايلور ليس عن الجلطة وإنما عن البصيرة المتيقظة التي جاءت من وراء هذه الإصابة، كما تقول في مقدمة كتابها، بسبب هذا الكتاب الملهم تم اختيار تايلور عام 2008 من بين 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم، وأصبح الكتاب لأسابيع طويلة على قائمة الأكثر مبيعا، وترجم إلى 30 لغة حول العالم.
عالم المابين
الكتاب يبدأ بعبارة لافتة كتبتها مؤلفته وهي تقف على الحد الفاصل بين الحياة والموت وبين الجلطة والبصيرة تقول فيها «حاليا أعيش في عالم المابين، لم تنطفئ حياتي بعد، لكنني لم أعد أنتمي إلى الآخرين من حولي، إنني كيان غريب في أعين أولئك المحيطين بي، وفي أعماقي أطفو غريبة عن ذاتي».
الفصان الأيسر والأيمن
وتروي تايلور هذه الرحلة اللافتة في 20 فصلا اختارت عناوينها بعناية، وتنهيه بملحقين الأول «مقترحات للتشافي»، والثاني «الاحتياجات الأربعون للمصاب بالجلطة»، تتحدث تايلور في جزء من الكتاب عن فصي المخ الأيمن والأيسر المتباينين، فالفص الأيمن يعمل كآلة إنتاج موازية ومصمم لتذكر الأشياء، ولقد صمم ليكون منطلقا ورهينا للخيال المبدع، ولا وجود للزمن فيه إلا للحظة الراهنة، وعلى النقيض يقوم الفص الأيسر بربط تلك اللحظات الغنية والمعقدة التي ولدها الفص الأيمن وترتيبها زمنيا، وهو الذي يرينا مفهوم الزمن.
البراءة البازغة
جلطة تايلور كانت في الفص الايسر، وتشير إلى أنها قبل الجلطة كان الفص الأيسر لديها قادرا على السيطرة على الفص الأيمن، ولذا تصف نفسها بأنها كانت عنيدة، الجلطة علمتها كيف تستفيد من مميزات الفص الأيمن والبراءة البازغة فيه فجاء السلام الداخلي العميق والعواطف المحبة، ومن ثم انارت بصيرتها التي ساعدت في شفائها تماما من الجلطة، وكأنها تريد أن ترسل رسالة بأن الحياة ممكنة مع فص أيسر جريح وصامت.
عندما تكرمت د. نجمة إدريس وأهدتني الترجمة العربية لكتاب د. جيل بولتي تيلور «الجلطة التي أنارت بصيرتي» كتبت في الإهداء: «هذه تجربة إنسانية تستحق الاحتفاء ترجمة وقراءة وتأملا»، وهذا الكتاب الملهم كذلك بالفعل، إنه كتاب يحتفي بالجلطة وبالحياة.