“سارة دوورلي” .. أن تحمل آلام الناس على ظهرك
التطوع لخدمة الناس ثقافة تُغرس منذ الطفولة، وتتعمق في سن الشباب، وكلما تطوعت لخدمة الناس، خاصة إذا كنت تفعل ذلك من خلال تخصصك المهني، شَغُفْتَ بالتطوع، حتى يصير جزءاً من تكوينك ومن حياتك.
هكذا نتعلم من قصة “سارة دوورلي” Sara Doorley الطبيبة الأمريكية الشابة المتخرجة من كلية الطب بجامعة “رايت ستيت” Wright State University في ولاية “أوهايو”، والتي تعي عن والديها -عندما كانت تلميذة في المدرسة الإعدادية وقررت اختيار الطب مهنة لمستقبلها- أنهما أكدا لها على ضرورة اختيار المهنة التي تجسد معنى شخصيًّا مدمجاً مع خدمة الآخرين، وقد اختارت دخول كليتها تلك بجامعة رايت ستيت تأثراً بوكيلها “جاري ليروي” Gary LeRoy المسؤول عن شئون الطلاب والتزامه بخدمة المجتمع، وإعجاباً بدعم تلك الكلية للمبادرات الطلابية.
الخدمة التطوعية
ولأن عينيها كانت على الخدمة التطوعية منذ البداية، فقد شاركت في عامها الجامعي الأول عام 2000 في تأسيس مبادرة طلابية باسم مبادرة الصحة العالمية Global Health Initiative سافرت من خلالها في قوافل طبية لكل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وأوغندا وإلسلفادور -والتي كانت لمدة عام سمحت لها إدارة الكلية باقتطاعه من عام دراستها الرابع- وأدركت من خلال خبراتها تلك علاقة الفقر والتهميش ونقص الموارد والعنف بالحالة الصحية، وأدركت أهمية إدراك الاختلافات الثقافية عند تقديم الرعاية الصحية، وقد ساهمت المبادرة في سفر الطلاب لما يزيد عن 14 دولة مختلفة.
برنامج الطب الاجتماعي
خلال تدريبها في مجال الطب الباطني، اختارات “سارة” أن تتدرب في برنامج الطب الاجتماعي بمركز “مونتى فيوريه” الطبي Montefiore Medical Center في برونكس – نيويورك، وخلال تلك الفترة اختارت أن تخدم في تحسين الرعاية الصحية لمجتمع المهاجرين في جنوب برونكس، كما خدمت في برنامج للحقوق الصحية الدولية، يقدم الرعاية الصحية لطالبي اللجوء في الولايات المتحدة، وانتهى بـ”سارة” المطاف إلى العمل كمدير طبي لبرنامج فالي للرعاية الصحية للمشردين Valley Homeless Healthcare Program في مقاطعة سانتا كلارا بسان خوسية – كاليفورنيا، والذي تأسس عام 2004 ويقدم خدماته سنويا لسبعة آلاف محتاج، منهم المشردون والذين يبلغ عددهم في سان خوسيه 6500 مشرد، فضلا عن تقديمها خدمات للمزارعين المهاجرين بما يحفظ كرامتهم، ولتقديم تلك الرعاية لكل هذا العدد.
طب حقبة الظهر
يتم ذلك من خلال شبكة من العيادات ذات المواقع الثابتة، وعيادات متنقلة، وفرق لطب الشوارع. تقول “سارة”: واحد من أوائل الدروس التي تعلمناها هي ضرورة وأهمية الذهاب إلى الناس، فإذا كنت ستعمل في ميدان تطبيب الفقراء أو المرضى المعرضين للخطر، فإنك سوف تتعلم بسرعة أن بينهم وبين تلك الرعاية الطبية حواجز كثيرة، وقد وجدنا أننا نقلل تلك الحواجز كثيراً، إذا أصبحنا متحركين قدر الإمكان. يضم كل فريق يتحرك من البرنامج والذي يعرف بفريق “طب حقيبة الظهر Backpack medicine” أحد أفراد طاقم التمريض، وطبيب، وإخصائي اجتماعي، وأحد إخصائيي علم النفس.
وعلى الرغم من جهود البرنامج، فإن عمل “سارة” يواجه عدداً من الإحباطات والنابعة من معدل فقدان المرضى من المشردين، والذين يصل العمر الافتراضي لهم إلى 47 عاماً فقط، والذين تصل نسبة الوفاة لأصحاب الأمراض منهم إلى 3-6 أمثال من لديهم مأوى.
كما ينبع إحباط “سارة” أيضاً -على حسب تعبيرها- من عدم قدرة النظام القائم في الولايات المتحدة على رعاية الفئات الأكثر عرضة للخطر بشكل أفضل، وكما تعبر “حلمنا في البرنامج أن يأتي اليوم الذي لا نجد فيه عملاً لنا؛ لأن كل أفراد مجتمعنا وجدوا مأوى، وآمنين، لذلك فإنها وفريق البرنامج يعملون تحت شعار “الإسكان أولاً”، حيث إنهم يقدرون عدم فاعليتهم في علاج الأفراد طالما ظلوا بلا مأوى، لذا فإنهم -وبالتعاون مع أفراد المجتمع- ليس فقط على الانتقال إلى مسكن، بل أيضاً على الاحتفاظ به، تقول “سارة”: إن رؤية أحد المريض وهو يتسلّم مسكناً لأول مرة هي من أكثر اللحظات التي نشعر فيها بالبهجة وبأننا كوفئنا على أعمالنا.
حب التطوع
القصة لا تزال فصولها تجري، ومكافآتها أيضاً، فكما عبرت “سارة دوورلي”، فإن من عاجل جزاء فعل الخير الشعور الذي يكتنف فاعله لحظة إحساسه بأنه أزاح ألم الناس من على كواهلهم وكاهله، لذا فإن مجتمع بلا تطوع في فعل الخير، هو مجتمع شقي بلا شك، لذا فإن المجتمعات الواعية تغرس في أبنائها من الصغر حب التطوع من أجل الصالح العام وخدمة الناس، ولعل أفضل ذلك التطوع ما كان في تخصص الإنسان إن كان طبيباً.. ففي طب الشوارع أو طب الفقراء والمهمشين والمشردين، وإن كان مهندسا.. ففي تنمية المجتمعات المحلية الفقيرة من خلال التكنولوجيا الملائمة.. وهكذا.
لكن التطوع وفعل الخير وحدهما لا يغنيان عن السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع، خاصة في ظل أنظمة تتراكم فيها ثروات البعض حتى التخمة، وتنفق فيها المليارات على الحاجيات والتحسينيات -بتعبير علماء أمتنا- بينما لا يستطيع البعض الآخر أن يجد الضروريات التي تقيم أوده، ومهما كانت تلك البلدان متقدمة، أو حرة أو ديمقراطية، تظل عدم قدرة تلك الأنظمة عن توفير الضروريات لكافة الناس دون تفرقة عارًا يطالها. فما بالك بأنظمة لا تنعم بحسنات المجتمعات المتقدمة من تقدم وحرية وديمقراطية؟! وإنما تجمع سوءاتها جميعاً في قهر وطحن للفئات الفقيرة والمهمشة.. هنا لا بد للتطوع أن يكون عشرة أضعاف التطوع في النوع الأول من البلاد.
د/ مجدي سعيد