صحتك بالدنيا

“المخ” و”القلب”.. تناغم وتناسق وتكامل

اندهش كثير من الناس عندما ظهر خبر يقول أنه تم اكتشاف وجود خلايا وألياف عصبية في القلب، واستنتج البعض بناءً على هذا أن القلب ليس مجرد عضو عادي في الجسم، لكنه يشعر ويحس وتخرج منه المشاعر، بل يفكر ويهتدي أو يضل، كما يفعل العقل تماما.

تقول الآية الكريمة: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

(الحج – 46).

فهل القلوب “تعقل” وتفكر، فتهتدي وتؤمن أو تضل وتكفر؟! وهل القلوب لها “عيون” تعرف بها طريق الحق والعدل؟!، وهل لها “إرادة” فتختار الحق أو الضلال؟!

أي طالب في كلية الطب يعرف أنه يوجد في القلب، أو بالأحرى يوجد عليه، خلايا وألياف عصبية، ما يمكن أن نعتبره “جهازا عصبيا مصغرا” خاصا بالقلب.

يوجد على الأذين الأيمن للقلب مجموعتان من ما يشبه الخلايا العصبية، تُسمى المجموعة الأولى العقدة الجيبية الأذينية (Sino-atrial Node – SA Node)، وتُسمى المجموعة الثانية العقدة الأذينية البطينية (Atrio-ventricular Node – AV Node).

العقدة الجيبية الأذينية (SA) يمكن أن نعتبرها مخ القلب، أو ما يسمى الـ Pacemaker أو منظم القلب، فهي ترسل نبضات أو شحنات كهربائية إلى عضلات الأذينين فتجعلهما ينقبضان، وهذه النبضات تصل إلى العقدة الأذينية البطينية (AV)، ومنها إلى عضلات البطينين عن طريق حزمة من الألياف العضلية تسمى “حزمة هيس” (Bundle of His)  لينقبضا بدوريهما، وتتم إعادة ضبط كل جزء من أجزاء القلب كهربائيا، فينقبض الأذينان في الوقت الذي يرتخي فيه البطينان، ثم يحدث العكس فيرتخي الأذينان وينقبض البطينان، فتبقى عضلات القلب وحجراته تعمل باستمرار.

أي أن العقدتين مسؤولتان عن عمل القلب طوال حياة الإنسان، ومتى توقفتا عن إرسال تلك النبضات الكهربائية، توقفت عضلة القلب وحجراته عن الانقباض والانبساط، وبالتالي يتوقف عمل القلب ويموت الإنسان.

الحقيقة أن الإنسان لا يموت عندما يتوقف عمل القلب، لكنه يموت عندما يتوقف عمل المخ، فعندما يتوقف القلب عن العمل، لا يصل الدم إلى المخ، وبالتالي لا يصل إليه الأكسجين اللازم لعمله، فيتوقف نشاط المراكز الحيوية في المخ المسؤولة عن عمل كل أعضاء الجسم، ومنها مركز التنفس، ومتى حدث هذا يحدث الموت الحقيقي، أو ما يُسمى “الموت الإكلينيكي”.

إذن.. هل يمكن أن نعتبر هذا الجهاز العصبي “القلبي” له مشاعر وعوطف، وله أفكار وآراء وتوجهات، سواء ناحية الدين والإيمان مثلا أو الأخلاق أو القيم أو المبادئ …الخ؟!

الحقيقة أن هذا الجهاز العصبي  المصغر يعمل كـ”مخ” للقلب، ولكن ليس كـ”عقل” له.

ما الفرق بين المخ (Brain) والعقل (Mind)؟

المخ هو الوصف المادي أو التشريحي للعضو الذي يوجد داخل الرأس أو الدماغ، وهو الموقع الذي يحتوي على المراكز الحيوية التي تسيطر على جسم الإنسان ووظائفه المختلفة، مثل مراكز الإبصار والسمع والكلام والتنفس والإحساس والذاكرة… الخ.

بينما العقل هو الوصف المعنوي أو الروحي لهذا العضو، الذي يكون الأفكار والآراء والمعتقدات والتوجهات والمشاعر والعواطف… الخ، أي أن “المخ” يصف شكل وموقع هذا العضو، بينما “العقل” يصف ويشرح ويفسر طريقة عمله.

المخ هو “بطارية” الجسم كله، والمسئول عن إرسال النبضات والشحنات الكهربائية وبالتالي الأوامر الحركية والنفسية عن طريق الحبل الشوكي (Spinal Cord) والموجود داخل العمود الفقري، فتصل تلك التبضات الكهربائية عن طريق الأعصاب الطرفية (Peripheral Nerves) التي تخرج من الحبل الشوكي، إلى كل عضو من أعضاء الجسم بلا استثناء، فيعمل كل عضو بكفاءة وتناسق.

أما العقل فهو “كينونة” الجسم، وهو المسؤول عن المشاعر والعواطف والأفكار والمعتقدات والآراء والتوجهات والمبادئ والقيم والأخلاق…الخ.

ينسق المخ حركات الجسم ووظائفه المختلفة، بينما يُكّون العقل ضمير الشخص وفهمه وعملية تفكيره، والجدل حول الاختلاف بين المخ والعقل استمر منذ زمن الفيلسوف “أرسطو”، فهو كان يعتبر العقل طاقة حيوية خالصة، بينما اعتبر المخ مظهرا ماديا للعقل.

نحن يمكننا أن نرى ونلمس ونمسك “المخ”، لكن لا يمكننا بالطبع أن نرى ونلمس ونمسك “العقل”، لأنه شيء غير ملموس وغير مادي، ولا يعبر عن “شكل” إنما يعبر عن “معنى” أو وظيفة أو مسؤولية أو مهمة.

أنا أحب جدا أن آكل “سندوتشات مخ بانيه” .. لكنني بالطبع لا يمكنني أن آكل “سندوتشات عقل بانيه”!

لو عدنا للقلب وجهازه العصبي المصغر والمكون من العقدة الجيبية الأذينية والعقدة البطينية وحزمة هيس، نجده يعمل كمخ لقلب، أي يعمل ميكانيكيا أو كهربائيا فقط  ليضمن استمرار عضلة القلب في الانقباض والانبساط، وبالتالي يستمر عمل القلب ما استمرت حياة الإنسان، لكنه لا يحمل مشاعرا ولا أفكارا ولا آراءً ولا قيما ولا مبادئ.

الجهاز العصبي المصغر للقلب يتحكم في حركته التلقائية “الأتوماتيكية أو الميكانيكية)، لكنه في نفس الوقت يخضع لسيطرة وأوامر الجهاز العصبي العام الذي يتحكم في كل أعضاء الجسم.

لو تعرض الإنسان مثلا إلى مواقف أو ظروف تستدعي مشاعر معينة، كالحب أو الكره أو الفرح أو الخوف أو الغضب، فهنا يعمل العقل والمخ والقلب كلهم معا، فالعقل هو مصدر هذه المشاعر، وعندما يريد أن يعبر عنها جسديا يقوم بتنبيه المخ، فيرسل المخ إلى القلب إشارات أو نبضات كهربائية، خارجة عن النبضات التي تصدر من القلب نفسه عن طريق جهازه العصبي المصغر، فيبدأ القلب بالاستجابة لهذه المشاعر، فتتسارع حركته بطريقة مختلفة عن المعدل الطبيعي الذي يتحكم فيه جهازه العصبي المصغر، ويظهر هذا على هيئة نبض سريع، فيشعر الإنسان أن حركة قلبه قد تسارعت عندما يشعر بهذه المشاعرالمختلفة.

إذن المخ والقلب يعملان بصورة متناغمة أو متناسقة أو متكاملة، لكن في وظائف معينة يعملان  إلى “حد ما” بمعزل عن بعضهما، والاثنان يسيطر عليهما العقل.

وبناءً على هذا، هل القرآن الكريم عندما يذكر القلب، يعني القلب فعلا أم يعني العقل؟!

د/ هاني سليمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى