مرتبطة بزيادة خطر الإصابة بالسرطان وتلف الكبد.. فريق دولي يتمكن من إزالة المركبات السامة التي تملأ بيئة كوكب الأرض
تمكن فريق علمي دولي, (بمشاركة باحث مصري) من التوصل إلى طريقة كيميائية (نتاج جهود مشتركة بين 3 جامعات، هي: نورث وسترن في شيكاغو، وكاليفورنيا في لوس أنجلوس، وتيانجين في الصين) من إزالة بعض أبرز المركبات السامة التي تملأ بيئة كوكب الأرض، والتي تم ربطها بمخاطر صحية محتملة مثل زيادة خطر الإصابة بالسرطان وتلف الكبد؛ وذلك بطريقة بسيطة وباستخدام مركبات غير مكلفة وفي درجات حرارة منخفضة نسبيا. نتائج الدراسة نشرت مؤخرا على موقع دورية “ساينس” (Science) العلمية.
المركبات الكيميائية الأبدية
أكثر من 9000 مركب كيميائي تندرج تحت عائلة تسمى “المركبات الكيميائية الأبدية”، التي تعرف اختصارا باسم “بي إف إيه إس” (PFAS)، والتي تدخل في تصنيع كثير من المواد والأدوات التي يستخدمها البشر حول العالم، مثل أواني وحاويات الطعام غير القابلة للالتصاق، والأقمشة المضادة لامتصاص المياه التي اكتسبت اسمها من قوة الرابطة الكيميائية بين عناصرها (الكربون والفلورين)، والتي توصف بأنها الأقصر والأقوى على الإطلاق.
وفي مكالمة هاتفية مع موقع (الجزيرة نت) قال الباحث المصري محمد عطية، (أحد أعضاء الفريق العلمي للدراسة) الذي يعمل حالياً باحثا في الوكالة الأمريكية لحماية البيئة؛ شرح مدى خطورة هذه العائلة من المركبات التي اكتشفت قبل 8 عقود فقط، والتي ظهرت أخطارها الشديدة على البيئة والحياة والصحة.
وتسربت هذه المواد إلى البيئة من مياه وتربة وهواء، سواء عن طريق الاستخدام غير المسؤول للمواد التي تحتوي عليها أو عن طريق مخلفات المصانع أو النفايات التي يتم التخلص منها، وخطورة هذه المواد تعد من أهم أسباب تميزها؛ فقوة الرابطة الكيميائية فيها تجعلها غير قابلة للتحلل الطبيعي وتتحمل درجات الحرارة العالية.
يؤكد الباحث المصري أن هذه المركبات تم استخدامها أول مرة في الصناعة في أربعينيات القرن الماضي لتصنيع أواني طبخ غير لاصقة للطعام، وكانت تستخدم أيضا في صناعة القنابل الذرية؛ مما يشير إلى مدى قوة الرابطة الكيميائية فيها، وكذلك في تصنيع الرغوة المقاومة للحرائق التي كانت تستخدم أيضا في التدريبات الدورية للوحدات العسكرية؛ وهذا من أهم أسباب تسرب هذه المواد في المياه والتربة.
الحدود الآمنة
وعن الحدود الآمنة لوجود هذه المركبات في التربة والمياه، يذكر البيان الصحفي -الذي نشره موقع “يورك أليرت” (Eurek Alert)- فإنه لا توجد حدود آمنة لوجود هذه المواد، إذ قررت وكالة حماية البيئة مراجعة توصياتها بشأن التركيزات الآمنة للمركبات الكيميائية الأبدية بشكل أساسي إلى الصفر. ويقول عطية “تكمن خطورة هذه المواد في التراكم البيولوجي الذي يؤدي في النهاية للعديد من الأمراض”.
وللدلالة على مدى خطورة الوضع الذي صارت تمثله تلك المركبات، فقد أفاد فريق من العلماء في دراسة أخرى حديثة -نشرت في الثاني من أغسطس 2022 في دورية “تكنولوجي آند إنفيرومنتال ساينس” (Environmental Science & Technology)- أنهم تمكنوا من العثور على هذه المواد في قطرات المطر المتساقطة على التبت والقارة القطبية الجنوبية، وأن العديد من العينات التي قاموا بتحليلها تحتوي على تركيزات من المركبات الكيميائية الأبدية، وأنه لم تعد الأمطار في أي مكان في العالم تخلو منها.
إنجاز غير مسبوق
البحث الجديد نتاج مجهود مشترك بين 3 جامعات، هي: نورث وسترن في شيكاغو، وكاليفورنيا في لوس أنجلوس، وتيانجين في الصين، ويعد إنجازا غير مسبوق؛ إذ إنه يختلف عن سابقيه في أن الفريق استطاع تكسير رابطة الكربون-الفلور باستخدام مركبين شائعين، هما ثنائي ميثيل سلفوكسيد وهيدروكسيد الصوديوم، وذلك عند درجة حرارة منخفضة مقارنة بالأبحاث السابقة التي كانت تعتمد استخدام درجات حرارة وضغط عاليين أو على استخدام محفزات مرتفعة التكلفة.
ويضيف محمد عطية في تصريحه للجزيرة نت قائلا إن “الإنجاز في هذا البحث لا يقف عند تكسير المركب فقط، بل يتعداه إلى تتبع عملية التكسير وشرح خطواتها، وهذا هو الجزء الذي شارك فيه طالب الدكتوراه يولي لي من جامعة تيانجين وكين هوك من جامعة كاليفورنيا”.
عزل ثم تكسير
ثم يشرح عطية سبب الاهتمام بهذا الجزء من البحث “هناك كثير من العمل الذي يتم لمحاولة تطهير البيئة من هذه المركبات السامة، ولكن لكي يتم التطهير لا بد لنا من عزل هذه المركبات أولا من المياه والتربة والهواء، وهذا ما كنت أعمل عليه من جهة في وظيفتي في الوكالة الأميركية لسلامة البيئة من ناحية، والدكتور ويليام ديشتيل في جامعة نورث ويسترن والمؤلف المشارك للدراسة وفريقه، حيث نقوم بالعمل على تطوير ما تسمى “الماصّات الانتقائية” التي تتحد مع المركبات الكيميائية الأبدية وتعزلها من الوسط الذي تتواجد فيه، ثم كان هناك التساؤل الذي لا إجابة له: ما الخطوة التالية؟”
ويستكمل الدكتور محمد قائلا “كنا في حاجة لإيجاد حل جذري لمشكلة هذه المركبات، فمجرد عزلها فقط من الماء أو التربة دون أن يكون لدينا آلية لتكسيرها كان يعني أننا سنعيدها مرة أخرى للبيئة ولكن في شكل آخر، والآن يمكننا القول إن الدائرة اكتملت، وأصبحت لدينا آلية للتخلص الآمن منها بشكل نهائي”.
الخطوة التالية
وعند سؤاله عن الخطوة التالية والتطبيقات العملية لهذا البحث ومتى يمكن أن تتوافر وسائل التطهير على نحو تجاري؛ أجاب عطية “في سبيل تطهير البيئة من هذه المركبات السامة لا بد أن نبدأ أولا بعزلها، حيث لا يمكننا تكسيرها بشكل مباشر في البيئة، ولكن يجب عزلها أولا، ونحن حققنا تقدما في هذه الجزئية حتى أنه توجد بعض الماصات الانتقائية التي وصلت لمرحلة الإنتاج التجاري، ونحن الآن وبعد اكتشافنا هذه الطريقة في تكسير هذه السميات بشكل آمن وفعال فإن الأبحاث ستتركز في الفترة القادمة على التطبيقات العملية لهذه التقنية”.
إلا أن الدكتور محمد كان حريصا على تأكيد أن “البحث في موضوع المركبات الكيميائية الأبدية هو عمل مستمر، فنحن نتعلم كل يوم شيئا جديدا، ولا نزال نحتاج إلى مزيد من البحث على أنواع أخرى من هذه المركبات، فهي عائلة كبيرة يتجاوز عدد أفرادها 9000 مركب تختلف في ما بينها في التركيب والخصائص الكيميائية”.