طب الشوارع.. وفن البناء على الخبرات وتطويرها ومأسستها
يقولون دائما إن الحاجة أم الاختراع، لكن قد يبقى الاختراع الذي نشأ استجابة للاحتياج مجرد ممارسات متفرقة، وخبرات متناثرة لا يربطها رابط، ولا تختلف من جيل إلى جيل عبر البناء عليها وتطويرها ومأسستها.
لكن الأمم الواعية تلتقط خيط ذلك الاختراع، لتنسج منه نسيجا تصنع منه العديد من المنتجات، ومن ثم يصبح عندها كل يوم إضافة، ليست فقط كمية، ولكن إضافة نوعية أيضا على ما كان يوما مجرد رد فعل انفعالي على احتياج من احتياجات المجتمع.
طب الشوارع Street Medicine هو ذلك الاختراع الذي نشأ في أكثر من مكان بالعالم نتيجة الاحتياج الناشئ عن وجود مشردين في أماكن كثيرة (إن لم يكن في كل بلدان العالم) وهو شبيه بطب الحروب في كونه يقدم الممارسة الطبية للناس الذين هم في ظروف وأحوال وأماكن استثنائية.
التاريخ المتناثر المكتوب لطب الشوارع يشير إلى نشأته كممارسات متفرقة في بلدين رئيسيين، وهما الهند من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، وربما في بلدان أخرى لا نعلمها. وفي كل بلد من تلك البلدان، كانت هناك تجارب وخبرات منفصلة داخل البلد الواحد.
ففي الولايات المتحدة مثلا، حيث يوجد بها وحدها بها ما يزيد عن نصف مليون إنسان مشرد، تزيد نسبة الوفيات بينهم 10 أضعاف عن عموم الناس. 35% منهم تقريبا بلا مأوى تماما، بينما يعيش الباقون في مآو خاصة بالمشردين. ويعاني كثيرون منهم من إدمان المخدرات، وارتفاع نسب الانتحار، فضلا عن ارتفاع نسب الأوبئة وأمراض الضغط والسكري والالتهاب الكبدي بأنواعه، وغير ذلك.
وبسبب الافتقار إلى الرعاية الصحية بين أمور كثيرة أخرى يفتقر إليها المشردون، وتحديدا في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس كان الدكتور جيمس جيه أوكونيل James J. O’Connell ربما هو أقدم من مارس ما صار يعرف لاحقا بطب الشوارع (بحسب ما بين أيدينا من مصادر)، فعندما أنهى أوكونيل عمله كطبيب مقيم عام 1985 بدأ على الفور العمل كطبيب أول لبرنامج الرعاية الصحية الجديد للمشردين في بوسطن.
ومنذ ذلك الحين وهو يمارس عمله، وفي كل عام يعتني البرنامج على مستوى المدينة بأكثر من 12 ألف من الرجال والنساء والأطفال المشردين المختلفين في بوسطن، على حد قوله. وقد دون الدكتور أوكونيل تجاربه وخبراته في كتاب صدر عام 2015 بعنوان “قصص من الظل: تأملات طبيب شوارع Stories from the Shadows: Reflections of Street Doctor“.
وفي مدينة بيتسبرج كان هناك طبيب آخر هو الدكتور جيم ويذرز Jim Withers يبدأ تجربته حينما ارتدى ملابس ممزقة في إحدى ليالي عام 1992، حيث بدأ في القيام بزيارات طبية للأشخاص الذين يعيشون في الشوارع في بيتسبرغ، بولاية بنسلفانيا، وكان معه شخص مشرد سابق يعمل كمرشد ومسؤول اتصال.
كان الدافع وراءه هو الرغبة في الوصول إلى أولئك الذين يبدو أنهم مستبعدون من أنظمة الرعاية الصحية السائدة على الرغم من ارتفاع معدلات المرض والوفاة المبكرة بينهم. ومن خلال الاستماع إلى قصصهم والشهادة الشخصية على معاناتهم، تأثر الدكتور ويذرز بشدة، واختار تكريس حياته المهنية لتغيير الطريقة التي نعتني بها بالمشردين الذين لا مأوى لهم وغيرهم من السكان المهمشين.
لقد استوحى الفكرة من حقيقة أن هذا العمل مع أفقر فقراء المدن يمكن أن يصبح “فصلا دراسيا في الشوارع”، وفرصة تعلم وخدمة فريدة للطلاب والأطباء الآخرين لمساعدتهم على فهم وممارسة فلسفة الرعاية التي أطلق عليها “الطب القائم على الواقع reality-based medicine“.
وعلى الرغم من أن آخرين قد خاضوا تجاربهم أيضا هنا وهناك، سواء في الولايات المتحدة أو غيرها. فقد كان هذا الرجل هو تحديدا من قاد بلورة وتطوير ومأسسة والبناء على خبرات طب الشوارع، وهو من صك هذا المصطلح. ويمكن أن نضع لهذا الذي قام به معالم محددة:
– تأسيس الندوة الدولية لطب الشوارع International Street Medicine Symposium عام 2005، والتي تعقد غدا (وتحديدا من 21 إلى 23 أكتوبر 2021) النسخة السابعة عشرة منها عبر تقنيات الإنترنت للملتقيات (بسبب جائحة كورونا)، وهي الحدث الأول في العالم المخصص للرعاية الصحية للمشردين الذين يعانون من عسر النوم كونهم بلا مأوى، حيث يلتقي ممارسو طب الشوارع من جميع أنحاء العالم للتعلم وتبادل الخبرات.
تعود قصة هذا الملتقى إلى جهود دكتور ويذرز للتعرف على تجارب طب الشوارع في العالم، حيث أدرك الدكتور ويذرز أن هناك آخرون مثله يعملون على تقديم الرعاية الطبية مباشرة للأشخاص الذين يعيشون في الشوارع في الولايات المتحدة وحول العالم.
وأقنعه أول لقاء له في الهند مع الدكتور جاك بريجر Jack Preger، أحد أبطال الرعاية الصحية “لسكان الأرصفة” في كلكتا بالهند بأن إيجاد طريقة للجمع بين رواد طب الشوارع ستكون الخطوة الأولى في إطلاق حركة عالمية لطب الشوارع. وعندما سافر الدكتور ويذرز إلى المجتمعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة وخارجها لزيارة البرامج المماثلة، صُدم لأن العديد من الممارسين كانوا يعملون في عزلة عن بعضهم البعض، وهم في الأساس “بلا مأوى” داخل المجتمع الطبي.
فلم يقتصر الأمر على عدم الاعتراف بممارساتهم في الشوارع من قبل أقرانهم في المجتمع الطبي، بل إن القيم التي يحملونها حول نوع الرعاية التي يستحقها سكان الشوارع لم يتم تبنيها أيضا من قبل أنظمة الرعاية الصحية السائدة. وهنا شعر ويذرز برغبة شديدة في الجمع بين هؤلاء الممارسين للتواصل معا لتبادل الأفكار وتلقي التشجيع من بعضهم البعض. ولهذه الغاية، تم تأسيس الندوة الدولية لطب الشوارع (ISMS) في بيتسبرغ عام 2005.
وقد عقدت الندوة بعدها في مدن مختلفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة مع أكثر من 500 إلى ألف مشارك في كل دورة من جميع أنحاء العالم يتبادلون فيما بينهم الرؤى حول أفضل الممارسات، ويتعلمون مهارات جديدة، ويعملون على بناء الاستراتيجيات، والتحقق من صحة المثل العليا لعملهم المشترك في الشوارع.
– تأسيس معهد طب الشوارع Street Medicine Institute عام 2009، فمن خلال جهود الدكتور ويذرز ومجموعة أساسية من قادة طب الشوارع الذين التقوا في الندوات السنوية، تم تأسيس معهد طب الشوارع (SMI) كمنظمة غير ربحية في عام 2009. كان القصد من ذلك إنشاء هيئة منفصلة وموحدة تعمل على تطوير واستدامة مجال طب الشوارع الناشئ، مع تدريب ودعم البرامج الجديدة والقائمة في جميع أنحاء العالم. وبمساعدة هذا الجهد المنسق،
تم تطوير شبكة من برامج طب الشوارع في أكثر من 85 مدينة عبر 15 دولة في 5 قارات وما زالت تنمو (طالع الخريطة المرفقة التي تبين أماكن ممارسة برامج طب الشوارع حاليا). ومن ثم أصبح طب الشوارع بفض تلك الجهود حركة عالمية قوية للمساواة في الرعاية الصحية والتغيير الاجتماعي من خلال المساعدة في إنشاء مجتمعات أكثر تعاطفا يتمتع كل شخص فيها بالقيمة والكرامة التي يستحقها.
– زمالة طب الشوارع Street Medicine Fellowship، وهو أول برنامج زمالة في العالم في مجال طب الشوارع، وقد بدأ في يوليو من عام 2019 في مدينة بيتسبرح، الزمالة مدتها عام واحد وتنظم بالتعاون بين جامعة بيتسبرج، ومؤسسة شبكة أمان بيتسبرج، وتحت إشراف الأستاذ الدكتور جيمس ويذرز مؤسس معهد طب الشوارع بالمدينة، والذي يمثل تحالف طلابه 35 كلية طبية في الولايات المتحدة وبورتوريكو.
وفي هذه الزمالة تتشارك شبكة أمان بيتسبرج مع العديد من الكليات والجامعات المرموقة في جميع أنحاء العالم لتزويد الطلاب المؤهلين في العالم الحقيقي بالتعلم التجريبي في طب الشوارع وفي بيئة رعاية وداعمة للأطباء الذين أكملوا الإقامة في أحد مجالات الطب الباطني أو طب الأسرة أو الطب النفسي. وتحت التوجيه الطبي للدكتور جيم ويذرز، يكتسب الملتحقون بالزمالة المعرفة بممارسات طب الشوارع ويتعلمون المهارات القيادية اللازمة لإنشاء وإدارة برامج طب الشوارع الخاصة بهم في مدنهم وبلدانهم. ويشمل جزء من الزمالة السفر إلى مدن أخرى ضمن شبكة طب الشوارع العالمية لتعميق فهم أفضل الممارسات في هذا المجال الطبي الجديد.
ثلاث خطوات كبرى إذا حتى الآن بنت على وجود خبرات مبعثرة في المجال:
– ملتقى لتبادل الخبرات وتعلم الناس من بعضهم البعض.
– معهد لرعاية نشر وتعميق وتطوير الفكرة والخبرة في أماكن أخرى، ودعم القائم من التجارب بالفعل.
– زمالة تضع أول برنامج تدريبي عملي وعلمي وإكلينيكي في الشوارع وفي المستشفيات لرعاية المشردين وساكني الشوارع.
وفي انتظار ربما كتاب توثيقي جامع يحكي تاريخ طب الشوارع في العالم ويجمع شتات خبراته الفردية، كما علمت من متابعة صفحة الدكتور جيم ويذرز على الفيسبوك.
الجميل أن كل ذلك يجري في إطار مؤسسي، لا يتمحور حول شخص، وإن كان يعترف له بريادته وجهده في بلورة كل تلك المنظومة التي تتطور عاما بعد عام، كما يعترف بأسبقية من سبق وفضل كل من ساهم في هذا الحركة العالمية.
مجدي سعيد