الحكيم

تيتسو ناكامورا.. الطبيب والناشط الإنساني الياباني الذي عشق الشعب الأفغانى وأغاثه

في الرابع من ديسمبر عام 2019 فجع العالم بتعرض الطبيب والناشط الإنساني الياباني تيتسو ناكامورا Tetsu Nakamura للاعتداء المسلح من قبل أفراد مجهولين، ما أسفر عن مصرعه وعدد من مرافقيه.

كان سبب الفجيعة هو أن هذا الرجل أفنى 28 عاما من عمره في خدمة الشعب الأفغاني وإغاثته، سواء من خلال علاج المرضى أو من خلال مشاريع إعادة بناء أفغانستان مثل شق قنوات الماء التي تسقي الأرض وتنبت الزرع ويشرب منها البشر والحيوانات.

وحتى الآن لم تعرف الجهة التي وقفت وراء هذا الاغتيال، وإن كانت حكومة الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني والناشطين في منظمات المجتمع المدني قد اتهموا حينها حركة طالبان بالضلوع في الأمر، إلا أن الحركة أنكرت ذلك قائلة إن لديها علاقات جيدة مع المنظمات التي تعمل في إعادة بناء أفغانستان.

واليوم وفي ظل ما شهدته أفغانستان منذ منتصف أغسطس 2021 الجاري من تغيرات درامية، لعل سلطة طالبان تنتبه لإحياء ذكرى الرجل، والكشف عن حقيقة اغتياله.

ومن ثم رأيت أن من الواجب التعريف بالرجل، والذي تحل ذكرى ميلاده في الخامس عشر من سبتمبر الجاري، حيث ولد في ذلك اليوم من عام 1946 بمدينة فوكوكا اليابانية، في المحافظة التي تحمل نفس الاسم، وتقع على الشاطئ الشمالي لجزيرة كيوشو.

انتقل تيتسو وهو في سن السادسة إلى مدينة كوجا سيتي في نفس المحافظة، وفي مرحلة مبكرة من دراسته بالمدرسة العليا تحول إلى المسيحية، وفي عام 1973 أنهى دراسة الطب في جامعة كيوشو.

وفي عام 1978 كانت أول تجربة لناكامورا في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان، عندما عمل كطبيب لفريق تسلق الجبال التابع لجمعية تسلق الجبال في فوكوكا خلال رحلة استكشافية لتسلق تيريش مير Tirich Mir في غرب باكستان. وهناك، انجذب إلى المنطقة لمتابعة حبه لتسلق الجبال وهوايته في جمع الحشرات.

وبناءً على طلب وزارة السياحة الباكستانية، قدم ناكامورا الرعاية الطبية للسكان بالقرب من قاعدة تسلق الجبال البعيدة، والتي كانت تقع بالقرب من بيشاور، باكستان. حيث عالج ناكامورا العديد من المرضى الذين يعانون من مرضي السل والجذام.

وفي عام 1984 عاد إلى بيشاور كمتطوع في الخدمة الطبية التعاونية المسيحية عبر البحار اليابانية في مستشفى الإرسالية في بيشاور. وهناك عالج مرة أخرى مرضى الجذام وكذلك اللاجئين الأفغان الذين فروا من الحرب السوفيتية الأفغانية.

وعلى الرغم من أن العيادة كانت تركز على الجذام، إلا أن ناكامورا رأى أن المناطق المعرضة للجذام بها نسبة عالية من الأمراض المعدية الأخرى مثل الملاريا وحمى التيفود وحمى الضنك والسل. ومن أجل توفير العلاج للمرضى الذين يعانون من أمراض أخرى، بدأ في تقديم خدماته الطبية المستقلة عن مستشفى الإرسالية.

وفي منتصف التسعينيات، بدأت منظمة الصحة العالمية في توفير العلاج بالعقاقير المتعددة (MDT) مجانا لمرضى الجذام في برنامج تموله في الأصل مؤسسة نيبون Nippon Foundation اليابانية. وبينما ازداد الاهتمام الدولي والمساعدات لمكافحة الجذام، لاحظ ناكامورا أن عدد المرضى الأفغان المصابين بأمراض معدية أخرى مستمر في الزيادة دون مساعدة مماثلة، مما دفعه إلى إنشاء مستشفى جديد وتوسيع جهوده.

وبداية من عام 1991، افتتح ناكامورا 3 عيادات لتقديم الخدمة الطبية في مقاطعة ننجرهار بأفغانستان، حيث حدد سوء التغذية كسبب جذري للمشكلات الصحية في المنطقة، ووصل عدد العيادات التي أسسها وأشرف عليها 10 عيادات قدمت الرعاية الصحية لعشرات الآلاف من المرضى، كما قدمت التدريب والتثقيف الطبي للأطقم الطبية.

ومنذ ذلك الحين فصاعدا، وسع نطاق عمله ليشمل الزراعة والري، وركز على بناء مشاريع القنوات في شرق أفغانستان. ففي عام 2000، ضرب الجفاف المنطقة، ونتيجة لهذا الجفاف تكاثرت الأمراض بسبب سوء التغذية ونقص المياه، وصرح ناكامورا عن هذا الموقف قائلا إن “قناة ري واحدة ستفيد أكثر مما يفيد 100 طبيب”، وقال أيضا: “يعالج المستشفى المرضى واحدا تلو الآخر، لكن هذا (يقصد مشروع شق القناة) يساعد قرية بأكملها. أحب رؤية قرية وقد عادت للحياة”.

وقد قام الدكتور ناكامورا فضلا عن ذلك ومن خلال “الصندوق الأفغاني للحياة Afghan Fund for Life” الذي أسسه عام 2001 بعشرات المشاريع في هذا الاتجاه شملت حفر عشرات الآبار وإحياء عشرات المساقي المائية، فضلا عن إطعام اللاجئين الأفغان الذين تدفقوا على العاصمة كابول هربا من الحرب والجفاف.

ومنذ ذلك الحين اتجه ناكامورا لشق قنوات المياه بادئا بشق قناة من نهر كونار Kunar River، يبلغ طولها 25.5 كيلومترا. وقد استوحى الإلهام بشقها من قنوات الري التي تم بناؤها في موطنه الأصلي فوكوكا منذ أكثر من 200 عام، دون الحاجة إلى استخدام المعدات الحديثة.

وفضلا عن ذلك قام ناكامورا ببناء أو ترميم 8 قنوات إضافية، لري 16000 هكتار من الأرض، ودعم معيشة 600 ألف شخص في صحراء جامبيري Gamberi desert في ضواحي جلال أباد في مقاطعة ننجرهار، كما قام ببناء أحد عشر سدا على نهر كونار، وصرح قائلا إن “الأسلحة والدبابات لا تحل المشاكل، وإن إحياء الزراعة هو حجر الزاوية في انتعاش أفغانستان”.

وقد خاطر ناكامورا بحياته في أفغانستان عدة مرات، حيث نجا مرة بأعجوبة من نيران مدفع رشاش من مروحية عسكرية أمريكية، وفي مناسبة أخرى، سارع إلى حماية السدود من نهر يفيض بشكل خطير، قائلا “سأكون سعيدا أن أموت هنا”.

ونتيجة لأعماله الإنسانية حصل ناكامورا على عدد من الجوائز والأوسمة سواء قبل موته أو بعده، ففي عام 2003، حصل على جائزة رامون ماجسايساي Ramon Magsaysay Award الفلبينية – التي يطلق عليها غالبا جائزة نوبل الآسيوية – للسلام والتفاهم الدولي.

ومن بلده اليابان، حصل على جائزة فوكوكا Fukouka Prize (الجائزة الكبرى) عام 2013. كما حصل في نفس العام على جائزة كيكوتشي كان Kikuchi Kan Prize من جمعية الترويج للأدب الياباني. وفي عام 2016، تم تكريمه في قاعة مشاهير الأرض في كيوتو، وفي نفس العام حصل على وسام الشمس المشرقة Order of Rising Sun (أشعة الذهب والفضة).

كما نشرت شبكة إن إتش كيه NHK اليابانية وثائقيا عنه وعن جهوده في إعمار أفغانستان في الرابع من فبراير عام 2017 حمل عنوان “الماء وليس الأسلحة: تخضير أفغانستانWater, Not Weapons: The Greening of Afghanistan “، وهو الوثائقي الذي قالت عنه إحدى القنوات على اليوتيوب: بين الحين والآخر يشهد المرء حدثًا رائعًا في التاريخ يلامس قلب الإنسان وروحه بشكل يفوق التوقعات ويترك انطباعًا طويل الأمد، وقصة الدكتور تيتسو ناكامورا هي مثل هذا الحدث لجهود لا هوادة فيها لرجل واحد، ومثابرته وصبره رغم كل الصعاب (..) ليس الحجم المادي للشخص الذي يجعل المستحيل ممكنا، لكنه بالأحرى حجم قلب الرجل وروحه وعقله ممزوجان بشخصية لا تتزعزع هي التي تصنع الفارق.

وفي أفغانستان حصل الدكتور ناكامورا على الميدالية الوطنية الأفغانية عام 2018. كما منح في 7 أكتوبر 2019 الجنسية الفخرية لأفغانستان لخدماته الطويلة في البلاد. أما في الهند فقد حصل على جائزة بادما شري Padma Shri، رابع أعلى جائزة مدنية في الهند، مُنحت له بعد وفاته في 26 يناير 2020.

أظن أن من أولويات إعادة بناء وترميم أفغانستان مما سبق وعاشته على مدى 20 عاما من الاحتلال الأمريكي، وقبلها سنوات من الاحتلال السوفيتي والاقتتال الداخلي، كل ذلك يقتضي ترميما للعلاقات مع من أفنوا حياتهم في العمل الإنساني في أفغانستان، خاصة أولئك الذين فقدوا حياتهم وهم يفعلون ذلك أيا كانت الأسباب والدوافع والجهات التي وقفت وراء ذلك.

د. مجدى سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى