دور الفيزياء في مكافحة فيروس كورونا المستجد
يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على دور الفيزياء الأساسية وتقنياتها في استكشاف طرق مختلفة للتعرف على هيكل وسلوك فيروس سارس-كوفيد 2. لمزيد من التفاصيل بشأن الفيروس أو التقنيات المستخدمة.
تهدد الطفرات الحتمية لفيروس كورونا فعالية اللقاحات المستخدمة على نطاق واسع. وقد أظهرت الأبحاث بالفعل أن الأجسام المضادة التي ينتجها لقاحا فايزر- بيونتك واسترا زينيكا أقل فعالية بكثير ضد البديل المتحور من جنوب أفريقيا مقارنة بسلالات سارس- كوفيد-2 السابقة. وقد أكد الباحثون أن الفيروس المتحور قد اخترق بالفعل وبشكل مقلق في بعض الحالات، حماية اللقاحات.
يجب ألا يكون الهدف توفير لقاحات تستهدف بروتينات فيروس كوفيد-19 الأقل تحورا فحسب، بل يتطلب أيضًا أدوية لعلاج الأفراد المصابين. “تتطلب معالجة الفيروس نهجًا متعدد الجوانب بطريقة شمولية ليس فقط لامتلاك ترسانة للاستجابة مع تغير الفيروس بمرور الوقت، ولكن أيضًا الاعتراف بأن محاولة قتل شيء ليس على قيد الحياة حقًا مهمة صعبة للغاية ” .
من أجل السيطرة على الفيروس بإنتاج لقاحات أو علاجات أو غير ذلك، فإنه من الضروري جدا معرفته تركيبا وسلوكاً، وهذا يستلزم تصويره ورؤيته بشكل أكثر وضوحاً ودقة. ولهذا الغرض لابد أن يكون الضوء المستخدم للتصوير مناسب لأبعاد الفيروس.
كقاعدة عامة في الفيزياء، لاكتشاف أو ملاحظة أو تصوير شيء أو كائن مجهري، يحتاج المرء إلى استخدام مقذوفات (جسيمات أو موجات) بأطوال موجية من رتبة أبعاد الجسم المستهدف. تشير الأبحاث إلى أن أبعاد حجم فيروس سارس-كوفيد -2 هي من رتبة (0.02-0.3)µm or 20 – 300nm ( nm: nano meter)
وبالتالي لرؤيته نحتاج إلى استخدام مصدر أشعة (جسيمية أو موجية) بطول موجي في هذا المدى. ولا يخفى أن هذا الطول الموجي قصير جداً يتطلب تدخل الفيزياء الأساسية وتقنياتها للحصول عليه ومن ثمّ استخدامه، وهذا ما سنراه في هذا المقال.
هل ستساعد الفيزياء في البحث عن الهيكل الجزيئي للفيروس أو العثور على جزيء يمكن أن يفكك جزيء الفيروس ؟
يعد حيود الأشعة السينية وسيلة فعّالة في دراسة بنية المادة، ولكن عيبها متأصل في متطلباتها لعينات في حالة بلورية، وهذا يجعل التقنية أقل جاذبية عندما يتعلق الأمر بدراسة جزيئات مثل فيروس كوفيد-19 كما سنلاحظ لاحقًا.
سأقوم هنا بإدراج أربع طرق مهمة رئيسية لدراسة والتعرف على بُنية الفيروس، وهي:
المحاكاة الحاسوبية للهياكل الجزيئية
مصادر النيوترونات
ضوء السنكروترون: أشعة سينية عالية الطاقة
الميكروسكوب الإلكتروني المبرد
المحاكاة الحاسوبية للهياكل الجزيئية
تدعم أنظمة الكمبيوتر عالية القدرة مجموعة واسعة من الأبحاث للمساعدة في فهم تكوين الفيروس من أجل الاستجابة له ومقاومته. وتعدّ أنظمة الكمبيوتر هذه جزءًا مهمًا للغاية من أجل البحوث المتعلقة بفيروس كورونا(3) .
على المستوى الجزيئي، تقوم فرق البحث ببناء نماذج رقمية مفصّلة لفيروس كورونا الجديد وتشغيل عمليات محاكاة قائمة على مبادئ فيزيائية لاستكشاف كيفية تصرف الجزيئات، وما هي جوانب هيكلها الجزيئي التي ستعتبر أهدافًا محتملة للقاحات أو العلاج.
حالياً، تقوم إحدى الفرق البحثية من جامعة كاليفورنيا، سان دييغو ببناء مجسّم نموذج للقشرة الخارجية للفيروس (وهو الجزء الذي نحاول التخلص منه عندما نغسل أيدينا لمدة 20 ثانية)، ويخطط الباحثون أيضاً لمحاكاة التفاعلات بين ذرة وأخرى في منظومة مكونة من حوالي مئتين مليون ذرة تشكل غلاف الفيروس.
المصادر النيوترونية تنضم إلى البحث في مكونات وتركيب فيروس كوفيد-19
تعتبر النيوترونات مجسّات مفيدة للغاية للمواد وخصائصها وسلوكها، لأنها متعادلة كهربياً (أي لا شحنة لها)، فإن حزمة النيوترونات الموجهة إلى هدف ما، لها قدرة على اختراق مادة الهدف لأعماق أكبر بكثير مما تقوم به الحزم الأيونية أو الأشعة السينية. كذلك، ولأن النيوترون له خاصية مغزل الدوران النووي تجعل من حزمة النيوترون كمجسّ حسّاس لدراسات المغناطيسية في المادة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لكتلة النيوترون نقل الطاقة والزخم لنويات ذرات الهدف، مما يجعلها مفيدة لدراسة الاهتزازات الممثلة للروابط الكيميائية والتفاعلات المغناطيسية.
إن تحديد الهياكل البيولوجية التي تشكل فيروسًا مثل سارس-كوفيد-2 يسمح للباحثين برؤية شكلها في ثلاثة أبعاد وفهم كيفية عملها بشكل أفضل، والإسراع بتصميم الأدوية المضادة للفيروسات الأكثر فاعلية. معرفة تفاصيل التركيب الهيكلي يفتح المجال للتركيز على الأجزاء الأكثر أهمية، على سبيل المثال: بمجرد أن يعرف الباحثون كيف يبدو الموقع النشط في الإنزيم، يمكنهم محاولة تصميم أدوية تتلاءم جيدًا مع الموقع النشط – وهو ما يشبه توليف مفتاح لقفل مغلق.
هذا أيضًا مفيد لتطوير اللقاحات، حيث تعدّ معرفة المكونات الهيكلية التي يتكون منها الفيروس مهمة لأن اللقاحات غالبًا ما تُصنع من أشكال ضعيفة أو ميتة من الميكروب أو سمومه أو أحد بروتيناته السطحية.
من هنا، تعتبر أشعة النيوترونات أداة قوية بشكل خاص لدراسة الجزيئات البيولوجية الكبيرة في المحاليل والبلورات والأنظمة المرتبة جزئيًا، ولأن النيوترون لا شحنة له، هذا يعني أن النيوترونات يمكنها اختراق المادة بعمق أكبر دون إتلاف العينات، بحيث يمكن إجراء التجارب في درجة حرارة الغرفة، وهي قريبة من درجات الحرارة الفسيولوجية. علاوة على ذلك، وعلى عكس الأشعة السينية، التي تتشتت بواسطة الإلكترونات في العينة، فإن النيوترونات تتشتت بواسطة نويات الذرة، وبالتالي فإن أطوال تشتت النيوترونات لا تُظهر أي ارتباط مع عدد الإلكترونات، بل تعتمد على القوى النووية، والتي يمكن أن تختلف حتى بين النظائر المختلفة. فمثلاً، الهيدروجين يشتت الأشعة السينية بشكل ضعيف جدًا، والبروتونات (أيون الهيدروجين) لا تشتت الأشعة السينية على الإطلاق، بينما تشتت النيوترونات من الهيدروجين يكون على مستوى مماثل لتشتتها من العناصر الشائعة الأخرى ذات الجزيئات البيولوجية الكبيرة نسبيا مثل (كربون، نيتروجين، اوكسجين، كبريت، وفسفور)، مما يسمح بتحديد موقعها. علاوة على ذلك، نظرًا لأن الهيدروجين ونظيره الدوتيريوم يُظهران أطوالًا مختلفة للتشتت وكذلك اختلاف الشحنة، فيمكن استغلال ذلك في الدراسات النيوترونية لتعزيز رؤية السمات الهيكلية المحددة عن طريق استبدال أحد النظائر بالنظير الآخر. تتضمن الأمثلة على ذلك دراسات تشتت النيوترونات صغيرة الزاوية لهياكل الجزيئات الضخمة التي توفر معلومات ثلاثية الأبعاد منخفضة الدقة عن الشكل الجزيئي دون الحاجة إلى التبلور، ودراسات تشتت النيوترونات على بلورات البروتينات التي توفر هياكل عالية الدقة للبروتينات، بما في ذلك مواقع ذرات الهيدروجين الفردية التي تم استبدالها بالديوتيريوم لجعلها مرئية بشكل خاص.
علاج ومكافحة كوفيد -19
البروتياز protease (الإنزيمات) مثل المقص البيولوجي الذي يشق سلاسل البولي ببتيد – الهيكل الأساسي للبروتينات – في مواقع محددة، إذا تم منع الانقسام، على سبيل المثال، عن طريق الأدوية المضادة للفيروسات المناسبة، فإن ما يسمى بالبروتينات المتعددة تظل في حالتها الأصلية ويتم حظر آلية تكاثر الفيروس. لكي يكون العلاج فعالًا، يجب أن يكون أثر هذا الإجراء قويًا – أي أن الدواء الذي يشغل الموقع النشط يجب أن يكون مرتبطًا به بقوة، وبالأخص مرتبطاً بالذرات في السلسلة الرئيسية للبروتياز (الإنزيم). ستؤدي هذه النتيجة إلى زيادة كفاءة العلاجات الفعّالة على المدى الطويل، على الرغم من طفرات (التحول الفجائي) للإنزيم، لأن الطفرات تحدث فقط داخل السلاسل الجانبية للإنزيم. (7)
كما تضيف نتائج دراسة البلورات بالنيوترون معلومات هيكلية تكميلية لبيانات الأشعة السينية من خلال توفير تفاصيل أساسية بخصوص ذرات الهيدروجين والبروتونات، والتي تلعب دورًا مهمًا في ربط هذه الأدوية بالإنزيم المستهدف من خلال الروابط الهيدروجينية، وتكشف عن تفاصيل مهمة عن كيمياء البروتين التي تساعد الباحثين تحديد مسار الإنزيم التحفيزي الدقيق. بهذه الطريقة، يمكن أن تكون بيانات علم البلورات النيوترونية مفيدة للغاية لفهم كيفية عمل هذه الإنزيمات وتصميم أدوية أكثر فاعلية لاستهدافها(4).
أشعة السنكروترون: أشعة سينية عالية الطاقة
مصادر ضوء وأشعة السنكروترون Synchrotron هي معجلات جسيمات قادرة على إنتاج أشعة سينية ساطعة بشكل لا يصدق، عن طريق تعجيل الإلكترونات النسبية في مسارات منحنية. ويوجد حوالي 50 معجلاً (نظام سنكروترون) في جميع أنحاء العالم، مما يتيح إجراء دراسات في مجموعة واسعة من الموضوعات. في أكسفورد/ بريطانيا ينتشر بشكل محاذي مماس لحلقة تخزين معجل دياموند Diamond Light Source التي يبلغ محيطها 562 مترًا أكثر من 30 خطاً للأشعة مجهزة بأجهزة لخدمة العديد من التجارب. تعد كثافة الأشعة السينية الساطعة (المقابلة لحوالي 9 × 1012 فوتونًا في الثانية) ضرورية لتحديد التركيب الذري للبروتينات، بما في ذلك البروتينات التي تشكل الفيروسات(5). على هذا النحو ، أوقفت مصادر ضوء السنكروترون حول العالم عملياتها المعتادة للعمل على رسم خرائط لبنية فيروس سارس- كوفيد -2 .
الميكرسكوب الالكتروني المُبرّد
تعمل المجاهر الإلكترونية على المبدأ الأساسي بأن الأطوال الموجية للإلكترون أقصر من تلك التي للفوتونات (الأشعة الكهرومغناطيسية)، وبالتالي فإن قدرة فصل المجاهر الإلكترونية أكبر، وعليه تكون تفاصيل الصورة الناتجة أكثر وضوحاً. لذلك، فإنه باستخدام المجهر الإلكتروني بدلاً من المجاهر الضوئية، يمكن للمرء أن يتعمق أكثر في تفاصيل الهياكل الخلوية والجزيئية – أعمق بحوالي خمسة آلاف مرة على وجه الدقة.
هناك أنواع مختلفة من المجهر الإلكتروني، ويعتبر المجهر الالكتروني المبرد(6) مجالًا جديدًا نسبيًا. يتطلب الفحص المجهري الإلكتروني العادي تحضير العينات بطرق معقدة – تشمل التقنيات طلاء العينات بمواد تحميها من الإشعاع، أو تقسيم العينات إلى شرائح صغيرة، أو تجفيفها لمنع التفاعل بين الإلكترونات وجزيئات الماء. أما عينات المجهر الالكتروني المبرد لا تتطلب هذا النوع من التحضير – يمكن ببساطة تجميد العينة ثم دراستها في حالتها الطبيعية. هذا يعني أنه يمكن للباحثين رؤية العناصر البيولوجية ككل وفي حالة نشطة. علاوة على ذلك، بدلاً من دراسة المكونات الفردية للعينة (تصويرها) ثم تجميعها معاً لتكوين صورة أوسع، فإن العينات في هذا النوع من المجاهر الالكترونية، تمكن الباحثين من النظر في الأنظمة البيولوجية الكبيرة والمعقدة. المجهر الإلكتروني بالتبريد، هو بالضبط ما يشير عليه اسمه مجهر مبرد تحت ظروف درجة حرارة منخفضة جداً، أي عند سالب 200 درجة مئوية باستخدام النيتروجين السائل.
يمكن أن تساعد هذه التقنية المدهشة المرء في اكتشاف المزيد من التفاصيل الدقيقة للعينة والمخفية في المادة. هذه الطريقة حققت تطورات واسعة في الطب والهندسة الحيوية. ولكن، المجهر الالكتروني المبرد ليس مثاليا أيضاً، لأن الصور الناتجة للعينة تكون أقل دقة من بعض التقنيات الأخرى، مثل البلورات بالأشعة السينية. لكن القوة الحقيقية للمجهر الالكتروني المبرد تكمن في تنوعها، إذ تسمح هذه التقنية للباحثين بدراسة الأشياء التي بسبب حجمها أو تعقيدها أو صعوبة التعامل معها سيكون من المستحيل عمليا فحصها باستخدام تقنيات أخرى، مقارنة بسهولة ومرونة التعامل مع المجهر الالكتروني المبرد. وعند استخدامها جنبًا إلى جنب مع تقنيات أخرى، فإن المجهر الالكتروني المبرد يعتبر أداة قوية للغاية. يتمتع المجهر الالكتروني المبرد بإمكانيات حقيقية كأداة للعلوم البيولوجية. إن قدرته على إلقاء الضوء على المكونات الكبيرة والمعقدة بسرعة وببساطة تجعله إضافة مفيدة للغاية إلى ترسانة التقنيات التي يستخدمها العلماء لاستكشاف هيكل كوفيد-19.
د.محمد راغب عيسى