كيف يساعد الذكاء الاصطناعي في إحداث قفزة جديدة في الطب الدقيق؟
مصطلح “الطب الدقيق”، الذي يشار إليه أحيانا باسم “الطب الشخصي”، هو مصطلح جديد نسبياً في مجال الرعاية الصحية ويعرف بكونه “نهجاً ناشئاً لعلاج الأمراض والوقاية منها، يأخذ في الاعتبار التباين الفردي في الجينات والبيئة ونمط الحياة لكل شخص”.
يساعد الطب الدقيق الأطباء على تحديد علاجات أكثر تخصيصا للمرضى ويعزز الأساليب الفردية في العلاج بدلاً من النهج الشامل المستخدم حالياً لمعالجة جميع المرضى بنفس الأسلوب. لذلك ستصبح المعلومات المتعلقة بالتاريخ الجيني للمريض والعوامل البيئية التي يعيش فيها، وعاداته ونمط حياته ضمن خطة عمل للعلاج. لكن الحصول على هذه المعلومات يتطلب معالجة كميات ضخمة من البيانات قدرتها أحد الدراسات بحجم تلك الموجودة في 300 مليون كتاب، وتتطلب تقنيات متقدمة لمعالجتها بشكل سريع كالذكاء الصناعي.
حاجة الطب الدقيق للذكاء الصناعي
مع الذكاء الاصطناعي، ينتقل الطب الدقيق إلى المستوى التالي ويزيد من الدقة والتنبؤ بالنتائج للمرضى. ويعتقد البعض أن الطب الدقيق غير ممكن تمامًا دون إضافة خوارزميات التعلم الآلي للمساعدة في هذه العملية.
في مقال نشر في مجلة “عالم اكتشاف الأدوية”، استعرض الدكتور لطفي شوشان والدكتور جاويد شيخ، من كلية طب وايل كورنيل في قطر، الخطوط العريضة لآفاق تطور الطب الدقيق مدعوماً بتقنيات الذكاء الصناعي.
يقول المؤلفان إن أحد الأهداف الرئيسية للطب الدقيق يتمثل في حساب مخاطر إصابة الفرد بأي مرض وتحديد استراتيجيات الوقاية والعلاج الشخصية، كتحسين التشخيص وتصميم التدخلات العلاجية، وتقع تطورات حالة المريض اعتمادا على مجموعات البيانات المعقدة الكبيرة التي تتضمن الجينات الفردية والوظائف والتغيرات البيئية. ويمكن أن يؤدي تصميم العقاقير الموجهة والأكثر فعالية استنادا إلى تكامل مصادر متعددة للبيانات لكل فرد، إلى علاجات أكثر تخصيصًا.
لكن ظلت مشكلة تسخير مجموعات البيانات الضخمة الموجودة بالفعل من أجل إنتاج معلومات قابلة للاستخدام من طرف الأطباء داخل النظام الصحي، أحد أكبر التحديات التي تقف أمام تطور الطب الدقيق.
لذلك فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتعلم العميق وتحليل البيانات الضخمة ستكون، وفقا للباحثين، أداة مساعدة مهمة للطب الدقيق. إلى جانب تقنيات المعلومات والاتصالات بشكل عام وأجهزة الاستشعار التي يمكن استخدامها وتساعد حاليا على تحقيق مستوى أعلى من الدقة في الرعاية الصحية.
البنوك الحيوية وتجربة قطر
مكّن استخدام الخوارزميات الذكية لاستغلال المجموعات الضخمة من البيانات مقدمي الخدمات الصحية من الأدوات اللازمة لتصميم التدخلات الشخصية للمرضى بطريقة فردية. وأدت التطورات الأخيرة في سرعة جمع البيانات إلى زيادة هائلة في حجم البيانات البيولوجية والطبية التي تم جمعها من السكان من طرف بنوكاً حيوية أنشئت لهذا الغرض. مثل التعاون مع UK Biobank ، وبرنامج البحث “All of Us” و China Kadoorie
تُعد مبادرات الرعاية الصحية الشخصية في قطر، وفقا للباحثين، جزءا من استراتيجية الطب الدقيق المنسقة والشاملة لتقديم رعاية صحية ذات مستوى رفيع في المستقبل. ويُجري، في هذا الإطار، قطر بيوبنك Qatar Biobank دراسة جماعية واسعة على السكان، كانت مؤسسة قطر قد أطلقتها في عام 2012. تغطي مجموعات البيانات الواسعة للبنك الحيوي تسلسل الجينوم الكامل ل 20 ألف فرد والعوامل البيئية التي يتعرضون لها. ويخطط برنامج قطر جينوم Qatar Genome Programme لتحديد التسلسل الجينومي الكامل لحوالي 300 ألف قطري، مما سيوفر مصادر غنية من البيانات لتحقيق أهداف تطبيق الطب الدقيق في قطر وتطويره بدعم من الذكاء الاصطناعي.
وفي الآونة الأخيرة، أطلق الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي، وبرنامج قطر جينوم Qatar Genome Program برنامج أبحاث “الطريق نحو الطب الدقيق” «Path Towards Precision Medicine». لدعم أبحاث الجينوم بهدف تعزيز اكتشاف الأدوية واستخدام المتغيرات الجينية الخاصة بالمرضى في العلاجات المخصصة والشخصية للسكان القطريين.
اكتشاف الأدوية وتطويرها
تاريخيا، يُعد اكتشاف الأدوية عملية طويلة ومكلفة للغاية وعرضة للفشل بسبب السمّية غير المتوقعة للدواء أو حركيته الضعيفة أو النشاط غير الكافي للجزيئات العلاجية المحتملة. وتقدر تكاليف إطلاق عقار جديد في السوق ما بين عدة مليارات إلى عشرات المليارات من الدولارات، وعادة ما يستغرق ما بين ثلاث إلى 20 عاما. وجد مسح بحثي بين 106 عقار جديد طورتها 10 شركات أدوية أنها تكلف في المتوسط 2.7 مليار دولار.
في عصر تطبيق البيانات الضخمة استفاد تنفيذ الخوارزميات القائمة على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي من نموذج “جين واحد، هدف واحد، دواء واحد” في إطار من الأهداف غير الانتقائية، حتى بالنسبة لعقار واحد. في هذا السياق، يمكن لخوارزميات الذكاء الصناعي التعلم من مجموعات البيانات غير المتجانسة واكتشاف أهداف دوائية جديدة أو إعادة توظيف الأهداف الحالية أو توجيه بروتوكول اتخاذ القرار في النهاية.
في الآونة الأخيرة، تم إثبات ذلك من خلال برامج مشاركة البيانات السريرية الدولية لكوفيد-19، والتي فتحت رؤية مستنيرة يمكن أن يوجه فيها الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي الأطباء إلى التصنيف السريع لشدة العدوى وبالتالي إلى العلاج الأكثر فعالية.
الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في علم الأورام الدقيق
تعتمد علاجات الأورام الدقيقة بشكل كبير على البيانات الجينية للمريض لاتخاذ قرارات العلاج. فقد أدّى تسلسل الجينوم الكامل بالفعل إلى تحسين فهمنا للأورام. ومكنت التفاصيل الجزيئية غير المسبوقة من إتاحة العلاج الموجه عالي الكفاءة، إلى جانب تطوير جيل جديد من الأدوية.
في الوقت نفسه، يتواصل، بحسب المؤلفين، تطوير عقاقير السرطان بسرعة بفضل الطب الدقيق، مع تركيز الجهود على مطابقة الأدوية أو العلاجات بالتعبيرات المتوقعة لدى مرضى مختارين. لقد أثبت استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي بالفعل نجاحه في اختيار تركيبة الدواء بناءً على خزعة المريض (فحص عينة من خلاياه) biopsy ، وتقديم توصيات بشأن أدوية المناسبة. في علاج السرطان، من الضروري تحديد أهداف دوائية موثوقة والجينات الدافعة للطب الشخصي. بدأ الذكاء الاصطناعي / التعلم الآلي في لعب دور في توليد الأدوية المرشحة الجديدة وإعادة توظيف الأدوية الموجودة. أما بالنسبة لتطوير عقاقير السرطان، فلا مفر من وجود طلب حاسم على العوامل لاستهداف الطفرات منخفضة الحدوث.
التحديات والتوجهات المستقبلية
أحد التحديات الرئيسية في عملية تطوير الأدوية هو ضمان سلامة الدواء. إن ترجمة المعرفة بالآثار المعروفة للأدوية لتوقع آثارها الجانبية عملية صعبة. سعى العلماء والمهندسون من المؤسسات الأكاديمية والصناعات الدوائية مثل Roche و Pfizer إلى استخدام الذكاء الاصطناعي / ML لاستخراج المعرفة المفيدة من البيانات التي تم جمعها في التجارب السريرية. حاليا، هناك مجال نشط للبحث هو تحليل هذه البيانات في سياق سلامة الأدوية.
بحسب الدكتور لطفي شوشان والدكتور جاويد شيخ، فإن الطرق التي يمكن من خلالها للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة دعم الطب الدقيق تعتبر مبتكرة ويمكن أن تؤدي بالتأكيد إلى إنجازات علمية كبيرة. فالطب الدقيق يُحدث بالفعل تحسنا كبيرا في علاج الأمراض النادرة، إضافة إلى اكتشاف أمراض لم يتم تشخيصها سابقا، ويتمتع المرضى الذين يعانون من سرطانات قاتلة الآن بمتوسط عمر أعلى، ويصل في بعض الحالات إلى التعافي التام.
يتساءل الباحثان في نهاية المقال: هل سيثبت الذكاء الاصطناعي أنه السلاح الفعّال الذي سيقلب مجرى الأمور في هذه المعركة طويلة المدى بعد أن كافح البشر على مدى العقود العديدة الماضية، الأمراض المزمنة مثل السكري والسمنة والسرطان والأمراض النادرة.؟
قبل أن يجيبا أن العديد من البلدان والعاملين في هذا المجال يراهنون على ذلك. ففي البلدان ذات الدخل المرتفع، تم بالفعل تطبيق ممارسات الرعاية الصحية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
على سبيل المثال، تم تقديم مبادرات وطنية في المملكة المتحدة وسنغافورة، قائمة على الذكاء الاصطناعي للتعامل بفعالية مع عبء العديد من الأمراض. وتشارك قطر في هذه المعركة من خلال إطلاق مبادرات وطنية لتطبيق الطب الدقيق المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وهي في طريقها لأن تصبح مركزًا للتجارب وتأمل أن تقود الدول المجاورة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هذا المسعى الأكثر أهمية، وفقا للباحثين.