دراسة حديثة تمهد الطريق لتطوير علاجات فعالة للتخلص من وباء الوحدة
عندما كان الأكاديمي البريطاني وأستاذ التاريخ الاجتماعي ديفيد فنسنت يؤلف كتابه “تاريخ العزلة” لم يكن لديه أي فكرة أنه سينشر في العام 2020 بالتزامن مع تفشي جائحة كورونا التي فرضت على مئات الملايين من البشر ما يشبه العزلة الذاتية، ضمن إجراءات الوقاية ومنع تفشي الفيروس المستجد.
ومدفوعا بمخاوفه من تنامي “وباء الوحدة”، كان فنسنت يسعى لتأريخ تطور العزلة على مدى القرون الثلاثة الماضية من منزله الريفي قرب ويلز البريطانية، مستكشفا كيف تصرف الناس في غياب الصحبة والرفقة الاجتماعية.
وفي كتابه الذي يعد سرداً كاملاً لتاريخ العزلة المعاصرة، قال فنسنت إن المثقفين في العصر الرومانسي الأوروبي -الذي تميز بالعناية بالمشاعر والعواطف والخيال- كانوا يرون الوحدة فترة راحة للمواطنين الذين يعيشون في مجتمعات حديثة ومعقدة، وبينما كان ينظر للوحدة أنها من سمات الحياة الحديثة، اعتبرت أيضا مرضا خطيرا قد يؤدي للاضطراب النفسي والسلوك المعادي للمجتمع.
وأصبحت هذه الطبيعة المتناقضة للعزلة مصدر قلق كبير في العصر الحديث مع ظهور ما يسمى بوباء الوحدة؛ ولهذا أصبحت كشفت دراسة نشرها فريق بحثي أمريكي من كلية الطب بجامعة كاليفورنيا سان دييجو، في العدد الأخير من دورية سيريبرال كورتيكس (Cerebral Cortex) أن مناطق معينة من الدماغ تستجيب للمنبهات العاطفية المتعلقة بالوحدة والحكمة بطرق متعارضة، تقول جيوتي ميشرا، قائد فريق البحث، والأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا سان دييجو: إن النتيجة الرئيسية للدراسة هي أننا وجدنا استجابات دماغية متعارضة مرتبطة بالعواطف تجاه الشعور بالوحدة مقابل التمتع بالحكمة.
تشدد “ميشرا” في تصريحات لموقع “للعلم”، على أن “هذه النتائج ذات صلة بالصحة العقلية والجسدية للأفراد؛ لأنها تعطينا أساسًا بيولوجيًّا عصبيًّا موضوعيًّا حول كيفية معالجة الأشخاص الأكثر وحدةً أو الأكثر حكمةً للمعلومات”.
وتابعت أن “وجود علامات بيولوجية دالة على هاتين الحالتين يمكننا قياسها في الدماغ قد يساعدنا في تطوير علاجات فعالة للوحدة، وربما يُمكّننا ذلك من الإجابة عن سؤال: هل يمكنك جعل الشخص أكثر حكمةً أو أقل شعورًا بالوحدة؟ الجواب يمكن أن يساعد في التخفيف من مخاطر الشعور بالوحدة”.
مشاعر متباينة
للوصول إلى نتائج الدراسة، تابع الفريق 147 مشاركًا، تتراوح أعمارهم بين 18 و85 عامًا، وكانوا يتمتعون بصحة جيدة، وأخضعوهم لاختبار يتمثل في عرض صور وجوه ذات مشاعر مختلفة، تتضمن 4 مجموعات من المشاعر هي: محايدة وسعيدة (إيجابية) وغاضبة وحزينة (سلبية أو مهددة)، في سياق ما يُعرف بالتحيز العاطفي.
وفي هذه الأثناء خضع المشاركون لمهمة معرفية بسيطة، تتمثل في تحديد الاتجاه الذي يتم توجيه “السهم” إليه، في أثناء عرض وجوه ذات مشاعر مختلفة على شاشة كمبيوتر جلس أمامها المشاركون.
قاس الفريق سرعة استجابة المشاركين لتحديد اتجاه السهم بالـ”مِلِّي ثانِيَة” (وحدة زمنية تساوي جزءًا من الألف من الثانية)، واستغرق عرض كل صورة على الشاشة 500 مِلِّي ثانِيَة، في حين بلغ وقت ظهور السهم على الشاشة 300 مِلِّي ثانِيَة، واحتسبوا الوقت الذي استغرقه المشاركون لتحديد اتجاه السهم، وذلك لرصد تأثير عرض المشاعر المختلفة على سرعة استجابة الأشخاص للمعلومات.
جاء ذلك بالتزامن مع إخضاع المشاركين لمخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهو اختبار يكتشف النشاط الكهربائي في الدماغ باستخدام أقطاب كهربائية صغيرة متصلة بفروة الرأس، لرصد رد فعل الدماغ تجاه المشاعر المختلفة.
وعن نتائج هذا الاختبار قالت “ميشرا”: “وجدنا أنه عندما تم تقديم الوجوه التي تُعبّر عن الغضب على أنها عوامل تشتيت للانتباه، فإنها تبطئ بشكل كبير الاستجابات المعرفية البسيطة لدى الأفراد الذين يعانون من الوحدة؛ إذ ظهر ذلك في بطء تحديد اتجاه السهم في أثناء عرض صور الوجوه الغاضبة، وهذا يعني أن الأفراد الأكثر عزلةً يهتمون بمحفزات التهديد، مثل الوجوه الغاضبة”.
وأضافت: “من ناحية أخرى، وجدنا علاقة إيجابية مهمة بين الحكمة وسرعة الاستجابة في تحديد السهم عند إظهار الوجوه ذات المشاعر السعيدة، وتحديدًا الأفراد الذين أظهروا سمات أكثر حكمة، مثل التعاطف، وكان لديهم استجابات أسرع لتحديد اتجاه السهم في وجود منبهات سعيدة”، لقد كان الفريق البحثي مهتمًّا بكيفية ارتباط كلٍّ من الوحدة والحكمة بالتحيُّزات العاطفية، وكيف يستجيب البشر لمختلِف المشاعر الإيجابية والسلبية.
وقد أظهرت تسجيلات مخطط كهربية الدماغ أن منطقة الدماغ التي يُطلق عليها “الموصل الصدغي الجداري” (TPJ) كانت تنشط في الأفراد الأكثر عزلةً بشكل مختلف عن نشاطها في الأشخاص الأكثر حكمة، و”الموصل الصدغي الجداري” منطقة من الدماغ توجد عند ملتقى الفص الصدغي والجداري، في النهاية الخلفية الشق الجانبي في المخ، وهي مسؤولة عن جمع ومعالجة المعلومات من المهاد والجهاز الحُوفِيّ وكذلك من الأنظمة البصرية والسمعية والحسية الجسدية، وتؤدي هذه المنطقة دورًا حاسمًا فيما يُسمى بـ”نظرية العقل” (ToM)، وهي مصطلحٌ شائعٌ في مجال علم النفس يُستخدم لتقييم درجة قدرة الإنسان على التعاطف وفهم الآخرين، ووجدت الدراسة أن هذه المنطقة كانت أكثر نشاطًا في وجود مشاعر الغضب للأشخاص الأكثر عزلة، وأكثر نشاطًا في وجود المشاعر السعيدة للأشخاص الأكثر حكمة.
ولاحظ الباحثون أيضًا نشاطًا أكبر للمنبهات المهددة للأفراد الأكثر عزلةً في القشرة الجدارية العلوية اليسرى (Left superior parietal cortex)، وهي منطقة الدماغ المهمة لتحديد الانتباه، في حين كانت الحكمة مرتبطة بشكل كبير بالنشاط المعزز الذي تحركه العاطفة في القشرة الجزيرية اليسرى للدماغ (Left insula)، وهي جزء من القشرة المخية ولكنها تكون مطمورةً في أعماق التلم الجانبي (الشق الذي يفصل بين الفص الصدغي من الفصين الجداري والجبهي)، وهي المسؤولة عن الخصائص الاجتماعية مثل التعاطف.
وأشارت “ميشرا” إلى أن الشعور بالوحدة ارتبط باهتمام أكبر بمحفزات الانفعالات الغاضبة أو المهددة مع استجابة متزايدة في “الموصل الصدغي الجداري” والقشرة الجدارية العلوية اليسرى لهذه المنبهات، وبينما قامت الحكمة بتنشيط الـ(TPJ) في وجود محفزات عاطفية سعيدة، فإن الأفراد الذين لديهم سمات أكثر حكمةً قاموا أيضًا بتنشيط الدوائر المهمة للتنظيم الذاتي العاطفي في “القشرة الجزيرية”.
وحول أهمية هذه النتائج، نوهت بأنها توفر مؤشرات معرفية ودماغية موضوعية لدراسة التركيبات الذاتية مثل الوحدة والحكمة، مضيفةً أن أبحاثهم المستقبلية ستركز على فهم المرونة في علامات النشاط المعرفي والدماغي، للبحث في إمكانية التحكم في الأنظمة العصبية والمعرفية المرتبطة بالحكمة، وبالتالي إنشاء حلول بيولوجية لوباء الوحدة؛ لأن هذه العلامات الدماغية المعرفية المستندة إلى الأدلة هي المفتاح لتطوير رعاية صحية أفضل للمستقبل، وقد تعالج وباء الوحدة.
علاج الوحدة
من جانبها، قالت باتريشيا كوريا، أستاذ علم الأعصاب السلوكي المساعد، بالجامعة الأمريكية في القاهرة: إن هذه الدراسة الحديثة توضح كيف تعدل العواطف الارتباطات المعرفية والعصبية للوحدة.
وأضافت لـ”للعلم” أن ما يميز النتائج أن الفريق استخدم عينةً كبيرةً من البشر، لا لدراسة الشعور بالوحدة فحسب، بل لرصد تأثير الحكمة على المشاعر والعواطف أيضًا.
وأوضحت أن الدراسة كشفت تأثيراتٍ مختلفةً للعواطف في الدوائر العصبية للوحدة والحكمة، وأن الشعور بالوحدة يرتبط بانخفاض سرعة معالجة المعلومات عندما يتم تقديم المنبهات العاطفية الغاضبة كمشتتات، أما الحكمة فترتبط بزيادة سرعة المعالجة عند تقديم محفزات عاطفية سعيدة.
وعن أهمية النتائج، أشارت “كوريا” إلى أنه من المؤكد أن أمامنا طريقًا طويلةً لنفهم تمامًا علم أعصاب الوحدة والحكمة، لكن الدراسة تسهم في تحديد الارتباطات المعرفية والعصبية بهما، وقد يكون لهذه النتائج تأثيرٌ في تطوير علاجات طبية للوحدة في المستقبل، رغم أننا ما زلنا بعيدين عن تطبيق هذه النتائج على العلاجات المباشرة في الوقت الراهن، وتابعت أنه من المهم التحقيق في البيولوجيا العصبية للوحدة، لا سيما ونحن نعيش أوقات العزلة الاجتماعية الحالية التي فرضتها ظروف وباء “كوفيد-19” على الناس في جميع أنحاء العالم.
تركيبة معقّدة
معتز عاصم -الباحث المشارك في وحدة الإدراك وعلوم الدماغ بمركز البحوث الطبية، كلية الطب السريري، جامعة كامبريدج في بريطانيا- اعتبر أن الوحدة والحكمة من التركيبات المعرفية المعقّدة، والتي قد تبدو غير مرتبطة، ولكنها في الواقع مرتبطة ارتباطًا سلبيًّا أو عكسيًّا، ويعني ذلك أنه كلما ارتفعت درجة الشعور بالوحدة لدى الشخص، انخفضت لديه درجة الحكمة.
وأضاف في حديث لـ”للعلم” أن التركيز الرئيسي للدراسة هو اختبار الإطار النظري المتعلق بالوحدة والحكمة، والذى يفترض أنه نظرًا إلى أن الشخص الوحيد ليس لديه دائرة حماية اجتماعية، فمن المرجح أن يكون أكثر انتباهًا للتهديدات السلبية، بينما يَرجُح أن يكون الشخص الحكيم أو المرتبط اجتماعيًّا أكثر يقظةً بشأن المشاعر الإيجابية.
وتابع أنه لاختبار تلك الفرضية، طلبت الدراسة من المشاركين المشاركة في اختبار معرفي على الكمبيوتر في أثناء مشاهدة وجوه سعيدة أو حزينة أو غاضبة، ومن المثير للاهتمام أن الدراسة وجدت أن الأشخاص الذين حصلوا على تصنيف أعلى على مقياس الوحدة كانوا أبطأ في النقر على زر عندما رأوا وجهًا غاضبًا، ولكن ليس عندما رأوا وجهًا سعيدًا أو حزينًا، من ناحية أخرى، فإن الأشخاص الذين حصلوا على تصنيف أعلى بمقياس الحكمة استجابوا بشكل أسرع للوجوه السعيدة، ولكن ليس على الوجوه الغاضبة أو الحزينة، وتوفر هذه النتائج بعض الدعم للفرضية الأصلية.
وأشار “عاصم” إلى أن الفريق أراد أن يرصد عمليات الدماغ التي تقف وراء هذه النتائج السلوكية، لذلك قام بقياس الموجات الكهربائية في الدماغ باستخدام مخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهو غطاء رأس مليء بأقطاب كهربائية تقيس تغيرات الجهد التي تحدث في الدماغ ولكنها قادرة على الوصول إلى فروة الرأس.
وتابع أن موجات الدماغ لها ترددات مختلفة، بعضها سريع والبعض الآخر بطيء، وركز الباحثون في هذه الدراسة على موجات الدماغ الأبطأ التي يُفترض أنها مرتبطة بالاتصال بعيد المدى بين مناطق الدماغ، ووجدوا أن موجات الدماغ البطيئة في نطاق ثيتا (هو نطاق التردد من 4- 8 هيرتز) في مناطق الدماغ الزمنية (جانب رأسك، خلف أذنيك مباشرة) مرتبطة بالوحدة والحكمة، إذ سجل المشاركون الذين احتلوا مرتبةً أعلى على مقياس الشعور بالوحدة نشاطًا أقوى لـ”نطاق ثيتا” في أثناء مشاهدة الوجوه الغاضبة، لكن المشاركين الذين احتلوا مرتبةً أعلى على مقياس الحكمة كان لديهم نشاط أقوى للثيتا في أثناء مشاهدة الوجوه السعيدة.
وعن أهمية تلك النتائج، نوه “عاصم” بأنها تشير إلى أن تنشيط “نطاق ثيتا” من مناطق الدماغ الزمنية يؤدي دورًا في النشاط الاجتماعي، ويتوافق هذا مع نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، التي أثبتت أن المناطق الزمنية مرتبطة بتقييم المواقف الاجتماعية.
واختتم حديثه بأن النتائج توفر تقاربًا لطيفًا للأدلة من طرائق مختلفة، وتفتح الطريق أمام تفكيك التركيبات المعقّدة للوحدة والحكمة في عملياتها العصبية الأساسية، ويمكن أن تجعلنا في النهاية نفهم الفروق الفردية في الشخصيات الاجتماعية.