الحكيم

حسن عشماوي.. الطبيب والداعية ومسيرة 30 عاماً في زيمبابوي

عندما تهيأت لي فرصة الدراسة في دبلومة الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في معهد الدراسات الأفريقية (كلية الدراسات الأفريقية العليا حالياً) بجامعة القاهرة، وتحديدًا عندما بدأت في العام الأول دراسة تاريخ الفكر الأنثروبولوجي، تفتحت عيني على دور الآلاف من الأفراد الذين جاءوا من بلدان الغرب، على مدار قرون، إلى بلاد الجنوب والشرق وتحديدا قارتي آسيا وأفريقيا، إما أنهم جاءوا في صورة سائحين، أو موظفين، أو مبشرين، أو مستكشفين.

وكثير منهم جابوا بلادنا إما يلاحظون ويدرسون أحوالنا أو يجمعون مدوناتنا ومخطوطاتنا. كانت وراء الكثير منهم مؤسسات، أكاديمية، أو سياسية، أو دينية، إما أن تستفيد من كتاباتهم ومما جمعوه بعد العودة، أو تقوم من الأساس على تدريبهم وتأهيلهم قبل السفر.

وفي النهاية فإن هؤلاء الأفراد، وتلك المؤسسات كان وراءها مشاريع تصب في مصالح الأمم والبلدان التي جاءوا منها.

وفي مصر، أسس يوما ما الدكتور بطرس بطرس غالي الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا، والذي مارس عمله من خلال إرسال مبتعثين من ذوي المهن المختلفة، ومن بينهم الأطباء.

بالطبع لا أستطيع الحكم على تجربة الصندوق، فليس في يدي دراسة تقيم المحصلة النهائية لعمله. لكنني ربما أستطيع أن أزعم من خلال احتكاكي بمجتمع الأطباء، أن النموذج الذي يمثله الدكتور حسن عشماوي، الطبيب المصري الذي ابتعثه الصندوق عام 1992 إلى زيمبابوي، والتي يعيش فيها منذ ذلك الحين، أي ما يقرب من 30 عاما هو نموذج نادر.

ولد الدكتور حسن عشماوي لأسرة مستورة من سكان القاهرة، وتخرج من كلية طب قصر العيني عام 1981، وتخصص في جراحة المسالك البولية، وكغيره من الشباب كان يحلم بالحصول على البورد الأمريكي والسفر للامتحان والعمل الطبي في الولايات المتحدة، لكن الله كان يدخر له خيرا كثيرا في مكان آخر.

تمثل حياة الدكتور حسن عشماوي وما أنجزه طوال 30 عاما نموذجا للتناغم السهل البسيط وغير المتكلف لدوائر الانتماء الأربع، دائرة الإنسانية، ودائرة الإسلام، ودائرة العروبة، ودائرة الوطنية، كل ذلك دون تشنج ولا شعارات، وإنما أعمال وإنجازات، دون عنها كتابه “مذكرات طبيب في أفريقيا” والصادر عام 2020.

يبدو مما دونه الدكتور حسن عشماوي في كتابه أن دور والديه في تكوينه النفسي والسلوكي أثر كبير، وأعني هنا تحديدا نزعة الخير المتأصلة في نفسه، والتي رباها فيه والداه بالقدوة قبل الكلام، فضلا عن الانتماء الديني الفطري دون تزيد، والذكاء الاجتماعي الذي يؤهله للعلاقات المنفتحة والسوية مع جميع الدوائر المحيطة به، والحكمة في إدارة الأمور.

ففي مدينة بولاوايو العاصمة الاقتصادية لزيمبابوي، كانت حياته المهنية هناك، حيث استكمل تأهيله المهني بالحصول على زمالة كلية الجراحين بإدنبرة في تخصصه.

وبعد انتهاء مدة بعثته رسميا (بعد 4 سنوات) اختار المكث، حيث أحب البلد والناس، وأحبوه، ثم كان أن شرع عام 2006 في تأسيس الجمعية الطبية الإسلامية في زيمبابوي Islamic Medical Association of Zimbabwe التي فضل لها هذا الاسم ليقدم من خلالها نموذجا عمليا لدينه، وتجلى هذا النموذج منذ البداية في أن جعل أهل البلاد شركاء في التأسيس، كما توجه إليهم جميعا دون تفرقة بالخدمة.

وهكذا من خلال عيادات الشفا وتحت شعار رحمة للعالمين، كان افتتاح أول مقر في يناير 2007، ومن خلاله قام بتنظيم قوافل طبية قدمت خدماتها لـ 65 ألف إنسان، وقدم كارت الشفا لتوفير الخدمات الطبية للمحتاجين، وقوافل العيون التي بفحص عيون 25 ألف إنسان، وأجرت 3 آلاف من جراحات المياه البيضاء، وقوافل ختان الذكور، وذلك فضلا عن حملات التبرع بالدم، وحملات التوعية الصحية، وأعمال الإغاثة الطبية في حالات الكوارث.

فضلا عن ذلك فقد بدأت فروع لعيادات الشفا في الانتشار في مدن زيمبابوي، مثل هراري (العاصمة)، وكويكوي، فضلاً عن 3 فروع أخرى قيد الإنشاء في 3 مدن أخرى، فضلا عن تأسيس مستشفى الشفا في هراري، فضلا عن الشروع في تأسيس مركز لزراعة الكلى كنواة لمركز متخصص في زراعة الأعضاء.

لكن الجميل في هذه التجربة أن تداول السلطة في إدارتها، وتسليمها وتمليكها لأهل البلاد الأصليين جرى بسلاسة كبيرة.

ومن الدور الطبي إلى الدور الدعوي، الذي يقول الدكتور حسن عشماوي أنه لم يكن يفكر فيه باعتباره ليس مؤهلا له، لكن حبه للقراءة، وحبه لمشاركة ما لديه من خير، وحبه لرسول الله دفعه لبدء محاضرات عن السيرة النبوية، كان الإقبال عليها في البداية بسيطا، ثم ما لبث أن زاد بفضل أسلوب التشويق الذي استخدمه فيها، وهو ما جعل مساجد المدينة، وغيرها من مساجد زيمبابوي تدعوه لتكرار محاضراته فيها.

ثم ما لبث أن أضاف إليها قصص الصحابة بادئا بالعشرة المبشرين بالجنة، و70 من الصحابة، والصحابيات، ما لبث أن طاف بها أيضا في مساجد زيمبابوي، ومن إلقاء تلك المحاضرات شفاهة إلى تسجيلها كشرائط سي دي وجمعها في موقع، وفي كتب بالعربية جاري ترجمتها للإنجليزية.

الدكتور حسن عشماوي في دوريه الطبي منهما والدعوي، لم ينقطع عن الانفتاح على المجتمع والحكومة الزيمبابوية، ولا عن السفارة والجالية المصرية والعربية، حتى لقب بيته بـ”بيت الأمة”، ولم ينس الدكتور حسن انتماء للغة العربية، فقد حرص على تربية أبنائه وأبناء الجالية المصرية والعربية على تعلم اللغة العربية حتى لا ينسوها في غمرة دراستهم وتحدثهم بالإنجليزية في تعليمهم وفي المجتمع.

على الرغم من أنني كنت أتوقع من الدكتور حسن عشماوي أن يتوسع ويتعمق أكثر مما فعل في مذكراته في سرد جوانب الحياة في زيمبابوي، وجوانب تجربته وخبرته، لتكون نواة وأساسا لمن يريد البناء عليها، إلا أن ذلك لا ينفي تقديري لما كتب، كون غيره ممن بقوا في غيرها من البلدان الأفريقية، وممن يملكون من الخبرات والتجارب مثل ما له لم يتحلوا بفضيلة “توثيق الخبرات والتجارب”، فعلى الأقل فإنه فعل، وعذره وعذرنا جميعا أننا ليس لدينا نماذج إرشادية لهذا التوثيق، يستطيع عموم أصحاب المهن ممن يتعرضون لتجارب مماثلة في أي من بلدان العالم أن يسترشدوا بها، وعذرنا وعذر الدكتور حسن، أنه ليس لدينا مشروع للأمة ولا للدولة في هذه المجالات يمكن أن يرجع إليه الناس فيدلهم، في إطار من بناء الجسور الثقافية، وبناء القوة الناعمة للأمة والبلاد.

د. مجدي سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى