تكنولوجيا طبية

كبسولات يُمكنها “الإبحار عبر الدم” لعلاج سرطان القولون

تؤكد الأبحاث الطبية الحديثة، أنه عندما يصاب عضوٌ ما في جسم الإنسان بالضرر، يمكن لنا توجيه الأدوات المساعدة في العلاج إليه مباشرةً كوسيلة علاجية مباشرة وموجهة إلى العضو ذاته، كأن نضع كمادة على رُكبة مُصابة، أو قطرة لعين جافة، أو حتى جبيرة لذراع مكسور، وهو ما يُعد أحد الممارسات الطبية القديمة قِدَم الطب نفسه. ولكن في كثير من الأحيان لا يُمكن الوصول إلى أماكن الضرر، خاصةً حين يكون ذلك الضرر ناجمًا عن ورم سرطاني، يختبئ داخل خلايانا، وفي عمق أجسادنا.

في تلك الحالة يلجأ الأطباء إلى الإجراءات العنيفة، إما الجراحة التي تستهدف إزالة الورم عبر شق الأجساد والأعضاء، وإما العلاج الكيميائي الذي أثبت كفاءةً كبيرةً في علاج الأورام، لكن بآثار جانبية شديدة القسوة. فالعلاج الكيميائي يُدمر الخلايا سريعة النمو، ولا يُميز بين الخلايا السرطانية وغيرها، وهو أمر يُحدث ضررًا وخيمًا على سائر الأعضاء.

السفر عبر الدم

لكن، ماذا لو وجد العلماء طريقةً لابتكار نظامٍ ما لتوصيل الدواء إلى عمق الورم، ودون حقنه في مجرى الدم؟ يعمل العلماء منذ وقت طويل على ذلك الأمر، ويحاولون تصميم أدوية فعالة قادرة على الوصول إلى الأورام دون الإضرار بالخلايا الأخرى السليمة. إلا أنهم واجهوا العديد من المشكلات، من ضمنها الكيفية التي تتعرف بها الأدوية على الأورام؟ والطريقة التي يُمكن بها توصيل الدواء إلى الورم تحديدًا.

لذا تُسخر الكثير من الفرق البحثية مجهودها للوصول إلى “حامل” آمن وفعال للدواء، قادر على الوصول إلى محطته النهائية المقصودة دون غيرها. ومؤخراً تمكنت مجموعة بحثية من قسم هندسة الروبوتات في معهد “دايجو جيونجبوك” للعلوم والتكنولوجيا بكوريا الجنوبية من ابتكار روبوت صغير للغاية، مصمم للسفر عبر مجرى الدم البشري لتوصيل العلاج مباشرةً إلى الأعضاء التي تحتاج إليه. نشر الفريق البحثي الكوري نتائجه في دورية “نيتشر” عام 2016، واعتمد ذلك التصميم على محاكاة الطريقة التي تتحرك بها البكتيريا والميكروبات داخل الجسم، إلا أنه بمجرد حقن ذلك الروبوت داخل مجرى الدم، يفقد الفريق القدرة على التحكم به، لذا يُمكن أن يضل الروبوت طريقه ولا يصل مطلقًا إلى العضو المُصاب، أو حتى يُمكن أن يصل إلى المكان المراد ولا يُطلق الدواء في الموضع المستهدف.

وفي أول العام الجاري، قام فريق آخر من جامعة زيورخ بالتعاون مع قسم الرياضيات التطبيقية بجامعة كامبريدج من ابتكار روبوت مرن، يستطيع تغيير شكله وفقًا لمحيطه، بمعنى أن الروبوت الصغير قابل للطي، ويُمكنه السباحة بكفاءة أكبر في الأوعية الدموية الملتفة والضيقة، نشر الفريق تلك الدراسة في دورية “ساينس أدفانسيس”، وجاء في تلك الورقة أن الروبوت قادر على تعديل شكله، والحفاظ على سرعته وعلى قدرته على المناورة دون أن يفقد السيطرة على اتجاه الحركة. غير أنهم –شأنهم شأن الفريق الكوري الجنوبي- لم ينجحوا في السيطرة على الروبوت أو توجيهه بمجرد حقنه في الأنابيب الزجاجية الضيقة التي صُممت لمحاكاة الأوعية الدموية للبشر.

والآن، نجح فريق بحثي في ابتكار روبوت دقيق، له القدرة على حمل الدواء، والوصول إلى المكان المطلوب، وتفريغ الدواء على الأورام، عبر عمليات تحكُّم مدروسة وكاملة، وبسيطرة محكمة على الروبوت بعد حقنه داخل مجرى الدم، وهو ما وصفته نتائج الدراسة الجديدة بـ”الإشارة الواعدة بإمكانية توظيف تقنية الروبوتات فائقة الصغر في تقنيات العلاج الموجه في المستقبل القريب”.

يتكون الروبوت الجديد من كرات مجهرية مصنوعة من المغنيسيوم، ومغلفة بطبقات رقيقة من الذهب والباريلين –بولمير مقاوم للهضم- تترك الطبقات جزءًا دائريًّا من الكرة مكشوفًا، يشبه الفتحة الصغيرة، لإظهار جزء من المغنسيوم الذي يتفاعل مع السوائل في الجهاز الهضمي، مولدًا فقاعات صغيرة، يتدفق تيار من هذه الفقاعات باستمرار لتدفع الكرات المجهرية للأمام، حتى تصطدم بالأنسجة المجاورة لها.

بمفردها، قد تكون الكائنات المجهرية كروية المغنيسيوم التي يمكن تكبيرها مثيرةً للاهتمام، لكنها ليست مفيدةً بشكل خاص. لتحويلها من مجرد فكرة مبتكرة إلى وسيلة تقنية لإيصال الأدوية، أجرى باحثو الدراسة بعض التعديلات عليها.

فقد اعتمدت عملية تصنيع الروبوت على خطوتين: في الخطوة الأولى قام الباحثون بتصميم المحركات الصغيرة المصنوعة من المغنيسيوم، وضع معدُّو الدراسة جسيمات دقيقة بقطر 20 ميكرونًا من المغنسيوم على شرائح زجاجية، ثم قاموا بترسيب طبقة ذهبية ثم تم طلاء المحرك بطبقة من الهيدروجيل، وفي النهاية، تم ترسيب طبقة من الباريلين لتعمل كسقالة تضمن الثبات في أثناء الدفع. وفي الخطوة الثانية، قام العلماء بتغليف المحركات الصغيرة داخل كبسولات، تحتوي بداخلها على المادة الدوائية الفعالة.

إذًا، لدينا الآن روبوت دقيق، داخله طبقة من الدواء مُغلفة داخل كبسولات صغيرة مصنوعة من شمع البارافين، ومحصورة بين طبقتين مجهريتين من الذهب والباريلين، تهدف تلك الطبقات إلى حماية الدواء من البيئة القاسية للمعدة، ولدينا أيضًا فقاعات ناتجة عن تفاعل المغنيسيوم مع أحماض المعدة.. لكن كيف تعمل آلية التحكم بمسار الروبوت؟

التحكم بمسار الروبوت

استطاع الباحثون استخدام نوع من تقنيات التصوير المقطعي الضوئي -الصوتي، وهي تقنية تستخدم الليزر والموجات الصوتية لأخذ صور مقطعية للجسم، لدفع تلك الفقاعات في اتجاهات مُحددة بدقة، تجعلها تصل إلى الورم بسهولة. إذ تقوم هذه التقنية المعروفة بالتصوير المقطعي المحوسب PACT ببث ضوء ليزري إلى الأنسجة، تمتص جزيئات الهيموجلوبين الحاملة للأكسجين الضوء، ولأن الشعاع مُحمل بالطاقة، تُكسب تلك الطاقة الجزيئات الموجودة في خلايا الدم الحمراء قدرةً على إحداث اهتزازات، يتم التقاط تلك الاهتزازات بجهاز الموجات فوق الصوتية المتصل بأجهزة استشعار موضوعة على جلد المريض، يتم استخدام تلك البيانات المُستقاة من المجسات لإنشاء صورة هيكلية داخلية لجسم المريض.

يُستخدم التصوير المقطعي الضوئي على نطاق واسع في التطبيقات الطبية الحيوية، بسبب دقته العالية، وهو يختلف تمامًا عن تقنيات التصوير التقليدية التي تعجز عن الكشف عن الأنسجة العميقة، إذ إن حدودها لاختراق النسيج لا تزيد عن مليمترين في أحسن الأحوال. أما في التصوير المقطعي الضوئي فيتم تحويل طاقة الفوتونات التي تمتصها الأنسجة إلى موجات صوتية تخترق أعماق النسيج حتى 48 مليمترًا، لتصور خلايانا من الداخل بدقة تُعادل 125 ميكرونًا (1 سنتيمتر = 10000 ميكرومتر).

استخدم الباحثون تلك التقنية، ليس فقط لرسم الصور لأنسجة المريض وخلاياه، ولكن أيضًا لقيادة الروبوت الدقيق داخل الجسم والتحكم فيه، فجهاز التصوير قادر على استشعار الاهتزازات الناجمة عن تفاعل المغنيسيوم وأحماض المعدة، وحين تُرصد الفقاعات يرسل الأطباء شعاعًا ليزريًّا للتحكم في حركتها، على حد قول أستاذ الهندسة الطبية والكهربائية بمعهد كاليفورنيا “ليهونج وانج”، وهو مؤلف تلك الدراسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى