الأطباء يعتبرونه “العدو الصديق” بامتياز.. ملح الطعام.. داء و دواء !
اعتبر باحثون في علم النفس بجامعة “أيوا” الأمريكية أن الملح يمكن أن يكون دواء طبيعيا للاكتئاب، بعدما اكتشفوا أن إضافة الملح إلى الطعام يُحسن المزاج، حيث أظهرت تجارب أجراها الباحثون على مجموعة من الجرذان التي تعاني من نقص في الملح، أنها بدت منزوية وغير مهتمة بالنشاطات التي عادة ما تُعنى بها الجرذان، ما يعتبر دليلا على الاكتئاب.
وقالت الدكتورة “كيم جونسون” – رئيسة فريق البحث – إن “النشاطات التي عادة ما تتمتع بها الجرذان، بدت وكأنها غير مثيرة أبدا للجرذان التي تعاني من نقص في الملح، ما أدى بنا إلى الربط بين النقص في الملح والاكتئاب”.
وأضافت جونسون أن فقدان الرغبة في ممارسة نشاطات تكون عادة ممتعة، هو من أهم مؤشرات الاكتئاب، مشيرة إلى أن هناك إمكانية بأن يصبح الإنسان مدمناً على الملح.
وتشير الدراسات إلى أن جسم الإنسان بحاجة للصوديوم، وهي المادة الاساسية في التركيبة الكيميائية للملح إلى جانب الكلور، ولكن الأطباء والخبراء يحذرون من الإفراط في تناول الملح لتسببه في ارتفاع ضغط الدم، كما يرتبط الإسراف في تناول الملح بزيادة خطر التعرض للجلطات والنوبات القلبية.
والملح هو عبارة عن معدن شفاف هش اُستخدم منذ العصور القديمة لحفظ الطعام وإعطائه مذاقه ، وهو يتركب من عنصري الصوديوم والكلور، ويعرف علمياً بكلوريد الصوديوم وصيغته الكيميائية (Nacl) واسمه المعدني “الهاليت”.
ويكون الملح عادة بلورات صافية في شكل مكعبات كاملة التكوين تقريباً، والشوائب فيه تعطيه اللون الذي قد يكون أبيض أو رمادياً أو أصفر أو أحمر، ويبدو الملح أبيض اللون ولكنه في الحقيقة يتكون من مكعبات صغيرة شفافة.
والمصدر الأساسي للملح هو “الأجاج” أي المياه المالحة في البحار، وقد تكونت ترسبات الملح الموجودة الآن تحت الأرض بتبخر مياه البحر منذ ملايين السنين، وتعد الولايات المتحدة والصين أكبر منتجين للملح في العالم، ومن الدول الرائدة في إنتاج الملح أيضاً ألمانيا وكندا والهند والمكسيك.
ووفق “وكالة المعايير الغذائية” في بريطانيا فإن على الراشدين تناول 6 غرامات من الملح فقط يوميا، لكنها أكدت أن معدل تناول الملح للشخص الواحد انخفضت، ولكنها لا تزال 8.6 غرامات أي فوق التقدير المثالي.
العدو الصديق
أظهرت دراسة أمريكية حديثة أن الاعتقاد السائد بأن الأطعمة التي تحتوي علي نسبة عالية من الملح ضارة بالصحة, ليس بالضرورة صحيحاً، مؤكدة أن أكثر من80% من الأشخاص قد يموتون بسبب الأمراض القلبية الوعائية الناتجة عن الإصابة بأمراض السكري وارتفاع ضغط الدم والتدخين, في حين أن الذين يموتون بسبب تناول أطعمة تحتوي علي نسبة عالية من الصوديوم تصل نسبتهم إلي الربع فقط.
وأشارت الدراسة الصادرة عن جامعة “ياشيفا” الأمريكية, إلى أن الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن الثلاثين عاماً, وتم إخضاعهم لنظام غذائي يحتوي علي كميات قليلة من الملح, ارتفعت لديهم معدلات الوفاة الناتجة عن الأمراض القلبية المرتبطة بانخفاض نسبة الصوديوم في غذائهم.
وعن أضرار الملح، كشفت دراسة طبية أن الملح يصبح “العدو الأول” للإنسان عند الإسراف في تناوله، مشيرة إلى أن كمية الملح الزائدة تؤدي إلى رفع ضغط الدم أي مضاعفة أخطار الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية.
وأوضحت الدراسة أن الملح قد يؤثر على الشرايين وصحة القلب بشكل يفوق ضغط الدم، مؤكدة أن الصوديوم الذي يوجد في ملح الطعام قد يجعل الأوعية الدموية أقل قدرة على الانبساط والانقباض أو يؤدي إلي تصلب خلايا القلب.
ولكن فائدة الملح في عدم الإكثار من تناوله، وفي هذا الصدد تشير الدكتورة زينب عباس – أستاذ الصحة العامة – إلى أن للملح الكثير من الفوائد التي لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها، رغم الأضرار المختلفة التي تنتج عن الإكثار من اضافته للطعام.
وتؤكد الدكتورة زينب أن الملح مهم في بناء خلايا الجسم وإفراز العرق، كما تلعب أيونات الصوديوم الموجودة فيه دورا مهما في كل حركات ونبضات الجسم وفي تنظيم الدورة الدموية، حيث تؤكد الدراسات أنه لا يوجد داع لخفض كمية الملح التي يتناولها الإنسان طالما أنه لا يعاني من ارتفاع ضغط الدم.
وللملح فوائد أخرى كثيرة، منها صحة اللثة والفم، حيث يمكن علاج نزيف اللثة من خلال عمل “غرغرة” بمحلول ملحي دافئ، كما أنه يساعد علي التخلص من الرائحة الكريهة بالفم ونقص اللعاب والتهاب الحلق.
التداوي بالملح
الملح مادة لا يمكن الاستغناء عنها أبداً في الحياة، فجسم الإنسان البالغ يحوي في المتوسط 100 غرام من الملح، يفقد منها يومياً عن طريق البول والعرق من 20 – 30 غراماً، فيحتاج إلى تعويض ما يفقده عن طريق الغذاء، ولمّا كان الملح يلعب دوراً أساسياً في تركيز الماء في الأنسجة، فإنه إذا نقص من الجسم قد تحدث اضطرابات عديدة خطيرة ، لذلك فإن سكان البلاد الاستوائية يتناولون مقداراً من الملح لتأمين الماء اللازم لدوام الحيوية في أجسامهم.
ومعظم الأغذية التي يتناولها الإنسان تحتوي – بالطبيعة- مقادير من الملح، ففي المئة غرام من اللحم يوجد ما بين 0.1 – 0.15 غراما من الملح، وفي البيض 0.3 غرام وفي السمك 0.15 غراما، وفي لتر الحليب 1.6 غراما، وفي الجبن من 1 – 2 غرام، وفي الخبز كما في الحليب، وفي اللحوم المقددة تصل النسبة إلى 6 غرامات.
وللملح بعض الفوائد في صنع الطعام، فهو يثبت طعم المأكولات ويعوض الأملاح التي تبخرت أثناء الطهي، ويفيد مزيجه مع عصير الليمون لتقوية اللثة وتنظيف الأسنان، وشرب محلول ملعقة من الملح في كأس ماء تفيد في وقف النزيف الرئوي.
كما أن غسل القدمين بماء مالح يفيد في حالات التعب أو الورم أو الالتواء أو خلع العضلات، والمصابون بمرض “أديسون” ومرض “برايت” والقيء يستفيدون من تناول الأطعمة المملحة، وفرك الجسم بملح مُذاب في ماء دافيء حتى يحمر ثم غسله بماء بارد يحفظ الجسم من الزكام، وفرك فروة الرأس بالملح الُمذاب بالماء يحفظ الشعر وينشط نموه.
ويوجد نوعان من الملح، أحدهما ملح بحري يستخرج من مياه البحر، حيث يوضع في أحواض واسعة تبنى على شواطئ البحار أو قربها، فيتبخر الماء بأشعة الشمس ويبقى الملح كتلاً بلورية، تنقل إلى معامل خاصة تنظفها وتطحنها وتعدها للاستهلاك. أما النوع الثاني فهو ما يعرف “بالملح الأندراني” والذي يوجد في مناجم على الأرض متبلوراً على هيئة كتل صخرية بلورية، تقطع وتنقل أيضاً إلى معامل خاصة لتصفيتها وطحنها قبل عرضها للبيع.
“بركة من السماء”
يرتبط تاريخ الملح ببدء تاريخ الحياة على الكرة الأرضية، فماء البحر الذي ظهرت فيه أول مظاهر الحياة البدائية في رأي البيولوجيين كان مالحاً جداً، وفي الليتر الواحد منه 30 غراماً من الملح، ولو أن ملح البحار نُثر على سطح الكرة الأرضية كلها لأوجد عليها طبقة سمكها 35 متراً.
ويقدر العلماء الملح المذاب في البحار بثمانية وثلاثين مليار طن، وإلى جانب ملح البحر الذي يعرف “بالملح البحري” توجد على سطح الأرض طبقات كثيرة من الملح الصخري أو “ملح المناجم” قد تعادل ملح البحر، وأهم هذه الطبقات موجودة في بولونيا قرب مدينة كراكوفيا، بحيث يمكن لفنانين معماريين أن ينحتوا في كثبان الملح هناك مبان ضخمة، ويرتفع من هذه الكثبان غبار الملح إلى علو يبلغ نحو 60 كيلومتراً.
وكان الملح في العصور القديمة من السلع الثمينة، حيث كان يُستبدل به الذهب أوقية مقابل أوقية، وكان الصينيون القدامى يستخدمون عملات مصنوعة من الملح في التداول، وفي مناطق كثيرة حول البحر الأبيض المتوسط كانت أقراص الملح تُستخدم كعملة متداولة، وفرضت عدة حضارات قديمة الضرائب أيضاً على الملح.
والملح كمادة ثمينة خضع طويلاً للاحتكار ولضرائب باهظة فُرضت عليه، ففي فرنسا مثلاً كانت تُفرض عليه ضريبة باهظة، واحتكار شديد لحساب الملوك الذين كانوا يطاردون مهربيه من مكان لآخر، ولم يُلغ الاحتكار إلا بعد ثورات واضطرابات دامية، كان آخرها الثورة الفرنسية الكبرى التي قضت على الملك لويس السادس عشر، ولكن الضريبة على الملح عادت إلى الوجود وظلت سارية حتى سنة 1946م.
وفي التاريخ الإسلامي، روى ابن ماجة في سننه من حديث أنس: “سيد إدامكم الملح” وسيد الشيء هو الذي يُصلحه ويقوم عليه، وفي “مسند البزار” مرفوعا:ً “سيوشك أن تكونوا في الناس كالملح في الطعام، ولا يصلح الطعام إلا بالملح”. وذكر البغوي في تفسيره عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً “أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض.. الحديد والنار، والماء والملح”.
وجاء في كتب الطب العربي القديم أن “الملح يصلح أجسام الناس وأطعمتهم ويُصلح كل شيء يخلطه حتى الذهب والفضة، وذلك أن فيه قوة تزيد الذهب صفرة والفضة بياضاً، وفيه جلاء وتحليل، واذهاب بالرطوبات الغليظة. وتنشيف لها، وتقوية للأبدان ومنع من عفونتها وفسادها وينفع من الجرب المتقرح. وإذا اكتُحل به قلع اللحم الزائد من العين ومنع القروح الخبيثة من الانتشار ، وإذا دُلك به بطون الاستسقاء نفعهم، وهو ينقي الأسنان ويدفع عنها العفونة ويشد اللثة ويقويها. وإذ خلط ومسح به الحكة في الجسم أزالها، ويعين على الإسهال والقيء ويقلع البلغم اللزج من المعدة والصدر، ويعين على هضم الطعام ويمنع من سريان العفونة على الدم، ويطرد الرياح، ويذهب بصفرة الوجه، وإذا حُل بالخل وتُمضمض به قطع الدم النازف من الضرس واللسان”.