انطباعات حول كتاب “ستون عامًا بين المتعبين” للخبير السعودي محمد الطريقي
سعيد ناشيد
باحث في الفلسفة وكاتب و مفكر مغربي
كانت نيّتي أن أكتفي بتصفح الصفحات الأولى من كتاب “ستون عاماً بين المتعبين”على أمل أن أجد وقتا لإتمامه لاحقاً، أوحين أصادف فسحة وسط زحمة الأوقات، غير أن الكتاب شدّني منذ الوهلة الأولى، فقرأته بلا توقف وبدون ملل ولا كلل.
يروي الكتاب بأسلوب سلس وبحس مرهف، رحلة الكاتب التي بدأت قبل نقطة البداية، قبل الولادة !أي نعم، صحيح أن بعض الناس يولدون بعد وفاتهم، وفق تعبير نيتشه، لكن الصحيح أيضا أن بعض الناس يولدون قبل ولادتهم، وهكذا هو حال الكاتب الذي تسلم من والده قبسا من روح خلاقة، تماما مثلما يتسلم المتسابقون العصا في سباق التتابع، على طريق المسافات الطويلة، وهي بقياسزمن الأعمار مسافة “ستون عاما بين المتعبين”، هو العنوان نفسه كما اختاره الكاتب السعودي محمد الطريقي لكتابه الذي هو أكبر من مجرد سيرة ذاتية، بل هو رحلة المجتمع السعودي في مسيرة التحديث المتعبة بفعل ضربات القوى المحافظة، والتي غالبا ما تتكالب على المتفوقين، ولا تتورع عن تسديدالضربات تحت الحزام.
نجاحات الكاتب، بصفته أحد أبرز خبراء هندسة تقويم الأعضاء و لتأهيل والتنمية المستدامة في المملكة العربية السعودية، في تصميم وإنجاز بعض أوراش التحديث الرائدة، لا سيما في الجوانب المتعلقة بالقيم الإنسانية وقيم التضامن الاجتماعي، ومحنه المتكررة في مواجهة أعداء النجاح، والذين ليس مصادفة أن يكونوا هم أنفسهم أعداء التحديث في جل مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كل ذلك يعكس حجم الأزمة الأخلاقية التي تعاني منها القوى المحافظة، والتي لا يمكننا أن نجد تعبيراً أكثر دلالة من وصفها بانعدام المروءة.
كان والد الكاتب تاجراً معروفا، وكان يتنقل في زمن الإبل بين أطراف شبه الجزيرة العربية، وذلك خلال النصف الأول من القرن الماضي، لكنه كان أيضا مسكونا بقوة دفع روحية جعلته يتطلع إلى الاستثمار فيما يخدم حركة التاريخ نحو التقدم، وهكذا أنشأ أول شركة للكهرباء في منطقة الزلفي، فضلا عن مساهماته في توصيل الماء وتعبيد أولى الطرق، وكان أثناء ذلك كله يواجه عقليات مجتمع محافظ يخاف من الأنوار، ويقاوم أي تطلع إلى الإبداع والتمدن والعمران، وأخشى ما كان يخشاه ذلك المجتمع هو أن يغادر”منطقة الأمان”، وهو الخوف الذي يمثل في آخر المطاف أحد أهم عوائق التحديث في مجتمعات الجنوب، رغم أنه مجرد وهم من أوهام الغرائز البدائية الكامنة في لاوعي الإنسان.
انطلق الكاتب في رحلة البحث عن علاج لآلامه التي وُلد بها، هكذا كانت البداية. ولأن الألم يدل على اتساع الجرح الذي ينفذ منه النور إلى أعماق الوجدان وفق رؤية جلال الدين الرومي، ولأن الطريق خير من الوصول وفق رؤية المتصوفة، ولأن طريق الألم هو طريق الحكمة أيضا، طريق النمو والتفوق والإنسان، فليس مستغربا أن تقود طريق الألم الدكتورمحمد الطريقي إلى أن يصبح أول سعودي حامل لشهادة الدكتوراه في الهندسة الطبية الحيوية والأطراف الاصطناعية، فضلا عن دوره في تطوير برنامج وطني لذوي الاحتياجات الخاصة، وإضافة إلى بعض اختراعاته الرائدة في هذا المجال، لكن، قبل ذلك كله، كانت هناك لحظات من المواجهة الصعبة مع مختلف أشكال الإعاقات المؤسساتية و”الذهنية” و”قوى الظلام” التي كانت تعمل على إفشال كل المبادرات التنموية والإنسانية في المملكة العربية السعودية، وذلك قبل أن يلجمها العهد الجديد ويرغمها من ثم على التراجع والتواضع، وهنا ستعلو آمال التحديث مجدّدا، ومعها ستعلو المخاوف أيضاً، والحال أن من طبيعة الآمال أن تأتي محفوفة بالمخاوف، وهنا يطول الكلام.