عانى منها الكثيرون.. بما فيهم مشاهير الأدباء.. كيف تتغلب على ظاهرة “نسيان” الكتب التي قرأتها؟!
“آلاف الساعات في طفولتي، وشبابي، وكهولتي، أمضيتها في القراءة. ولم أحتفظ منها إلا بنسيان شامل. ولو أن هذه الكارثة تضمحل، لا على العكس إنها تسوء، إذا قرأت اليوم كتابًا أنسی بدايته قبل أن أصل إلى نهايته. أحيانا لا تكفي قوة الذاكرة لمتابعة مطالعة صفحة واحدة”!
كانت هذه كلمات الأديب الألماني باتريك زوسكيند، صاحب رواية “العطر” الشهيرة في أحد الأيام، عندما وقف أمام مكتبته والتقط كتابًا جديدًا عليه، وقد أثار استغرابه ونفوره من تلك الخطوط والملاحظات التي امتلأت بها صفحات الكتاب، فتساءل: من ذلك القارئ الغريب الذي عبث في الصفحات بهذا الشكل؟
وبعد قراءته لعدد لا بأس به من الصفحات، تذكر “زوسكيند” أنه قد قرأ هذا الكتاب من قبل، وأن الملاحظات والخطوط التي أزعجته ما هي إلا ملاحظاته هو!
“منحنى النسيان” الذي يوضِّح تسارع فقدان الدماغ للمعلومات في أول 24 ساعة، وصولًا إلى الاحتفاظ بحوالي 20% منها فقط، ما لم يتم تكرارها مرة بعد مرة، فيحتفظ بها العقل إلى الأبد.
ويستشهد عدد كبير من القراء المخضرمين بتجربة زوسكيند، فما حدث معه قد يحدث معنا، بشكل مستمر، حيث يعيش النسيان داخل الحياة القرائية لأي قارئ نهم.
“منحنى النسيان”
في بداية القرن العشرين أوضح عالم النفس الألماني “هيرمان إبنجهاوس” كيف يعالج الدماغ المعلومات التي اختزنها، وكيف ينساها بشكل تدريجي. وقدّم “منحنى النسيان” الذي يوضِّح تسارع فقدان الدماغ للمعلومات في أول 24 ساعة، وصولًا إلى الاحتفاظ بحوالي 20% منها فقط، ما لم يتم تكرارها مرة بعد مرة، فيحتفظ بها العقل إلى الأبد.
أوضح “هيرمان” أن النسيان عملية نشطة يقوم بها الدماغ، إذ تكون معظم المعلومات التي نحفظها ذات أهمية قصيرة المدى، مثل تذكرنا لمكان وضع النظارة، ويكون المخ في حاجه لنسيان مثل تلك المعلومات بشكل متواصل ليستعدّ لتذكّر غيرها، وهكذا يكون المنحنى – الذي يعبر عن تذكرنا – في أعلاه في اليوم الأول، ويستمر في الانخفاض سريعًا، بحيث لا يبقى سوى نسبة ضئيلة منها في المخ في انتظار معلومات أخرى جديدة.
وفي رأي البعض، تكمن المشكلة في أن العقل لا يمكنه أن يفرق بين المعلومات ذات الأهمية قصيرة المدى، وتلك التي يحتاج الاحتفاظ بها طويلًا. وهنا تشير أبحاث هنري روديجر من جامعة واشنطن، إلى أن استدعاء المعلومات بعد ساعات، ثم بعد أيام من إدخالها، يزيد فرص تذكرها وينبه العقل إلى ضرورة الاحتفاظ بها طويلًا.
و”كلنا ننسى”، الجميع بلا استثناء لديه هذا الأمر، ربما تتفاوت الذاكرة القرائية من قارئ لآخر ولكن القراءة والنسيان أمر يمر به كل قارئ مهما بلغت خبرته القرائية.
وسواء سرّعت أو تمهلت في القراءة، ستجد نفسك بعد انتهائك من قراءة الكتاب بفترة زمنية تنسى أغلب أو جميع ما قرأته، لذا تنفس بارتياح أيها القارئ، فالنسيان من الأعراض الجانبية للقراءة، حتى أنه يطال أعظم الأدباء ويجعلهم لا يتذكرون ما خطته أقلامهم أيضًا، فلا يهم إن كانت قراءاتك نهمة تتعدى عشرة كتب في الشهر أو كتابًا واحدًا في السنة، ستتعرض للنسيان لا محالة عاجلا وليس آجلا!
تفتيح المدارك
لكل قارئ أسبابه المتعددة التي تدفعه إلى القراءة، فسواء كانت المتعة أو الفائدة أو حتى الهروب من الواقع أحد الأسباب وراء ذلك، ومهما كانت نوعية الكتب التي قرأتها، فإن اللاوعي لديك يتشرب ما قرأته لينعكس فيما بعد على شخصيتك وتصرفاتك، كما سيتطور وعيك وتزداد آلية فهم ما حولك أكثر لترى الأمور من زوايا جديدة مختلفة عن رؤيتك القديمة.
بجانب تفتيح المدارك، للقراءة الفضل في زيادة مخزون الكلمات ومرادفاتها لديك، خاصة عند قراءة الأدب، كذلك تجعلك القراءة تتعاطف مع الآخرين وذلك بوضع نفسك محلهم فعندما تقرأ عن شخصيةٍ ما في كتاب وتتفاعل معها تكون بذلك أثقلت جانب التقمص العاطفي في شخصيتك.
نصائح لتقوية الذاكرة
كن إيجابياً
فالقارئ الإيجابي هو القارئ النشط الذي يبدأ قراءة الكتاب دون أحكام مسبقة، ويُقبِل على ما فيه دون تحفز، أو رفض مسبق، أو تقديس مبالغ فيه للكاتب، وكأنه لا ينطق عن الهوى، بل يقرأ وجهة نظر الكاتب بحيادية، ويفكر فيها، ويبحث عن مواضع الصواب والخطأ فيها، ثم يكون وجهة نظره الشخصية التي قد تتفق أو تختلف – كليًا أو جزئيًا – مع الكاتب، وهذه المناقشة الفكرية المحتدمة في عقله ستُثَبِت الأفكار داخله، وستُصَعِب من عملية النسيان.
والقارئ الإيجابي يبحث عن تفسير النقاط التي يستعصي عليه فهمها، والكلمات التي لا يدرك معناها، وهذا أصبح أمرًا سهلًا في عصر الأنترنت، وكلما بذل الإنسان جهدًا أكبر في فهم وتفسير فكرة ما، كلما ثَبُتَت تلك الفكرة في عقله أكثر.
كتابة مراجعة عن الكتاب
من المفيد كثيرًا أن تكتب مراجعة عن الكتاب بعد الانتهاء من قراءته، وهذه المراجعة قد تحوي ملخص، ونبذة بسيطة عن الكتاب، وأفكاره، وما يطرحه من أسئلة، والإجابات التي يقدمها، وانطباعك عنه، ومميزات الكتاب، وسلبياته، ومدى مصداقيته، وجودة أسلوبه، ورجوعك لتلك المراجعة – فيما بعد – سيساعدك بشكل كبير على تذكر محتوى الكتاب بشكل كامل.
قراءة أكثر من كتاب عن الموضوع
وهذا أمر مفيد للجميع سواء ذوي الذاكرة القوية أو الضعيفة؛ لأن قراءة أكثر من كتاب عن نفس الموضوع يعطينا صورة شبه كاملة عنه خاصةً إذا كانت تلك الكتب تنتمي لتيارات مختلفة، وتحمل وجهات نظر متضادة، وهكذا بإمكانك وضع حجج كل طرف أمامك، وتصنيفها؛ أيها مقنع، وأيها ضعيف؛ لتُكَوِن في النهاية وجهة نظرك الخاصة عن الموضوع اعتمادًا على المعطيات التي لديك.
المشاركة في الندوات الأدبية
مناقشة موضوع الكتاب مع أشخاص آخرين له تأثير سحري على تثبيت معلوماته؛ لذا فوجود صديق يقرأ ما تقرأه من كتب، ويناقشك فيها نعمة كبيرة، وإذا لم تكن تمتلك هذا الصديق، وإذا لم تكن لديك الفرصة للذهاب إلى الصالونات الأدبية والندوات الثقافية الفعلية على أرض الواقع؛ فيمكنك بالطبع اللجوء للعالم الافتراضي الذي يحوي آلاف الندوات والصالونات الأدبية في مواقع تقييم الكتب، أو في مجموعات القراءة ومحبي الكتب التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يمكنك من خلالها العثور بسهولة على بضع أفراد، ممن قرأوا الكتاب، ومناقشته معهم.
الجمع بين المقروء والمسموع
من المفيد أن تنوع بين المقروء والمسموع، ونحن في زمان توجد فيه كتب مسموعة، وكلما أشرك الإنسان حواسا أكثر كانت الفائدة أكبر، فالذي يقرأ ويسجل النقاط المهمة وينطقها بلسانه أفضل ممن يقرأ بعينه، فالكتابة تصور المقروء في العقل، فكأنه بعد ذلك يشاهد ويتذكر، ونطمئنك بأن معظم ما تقرأه موجود في جزء من المخ لكنه لا يخرج إلا في وقته، والطلاب يعرفون هذا، وربما خيل لأحدهم أنه لم يقرأ ولا يتذكر شيئا فإذا جلس وأمامه ورقة الاختبار وتفاجأ بالأسئلة انهمرت المعلومات كالسيل المندفع، فلن يضيع تعبك كما يخيل إليك، ولكن قيد علمك بالكتابة ولو في شكل نقاط.
كتابة الأفكار الأساسية
أثناء قراءتك للكتاب، دوّن الأفكار الرئيسية فيه؛ فمثلًا لو كان الكتاب سيرة ذاتية؛ فقم بكتابة الأحداث المحورية البارزة فيها، دون الخوض في التفاصيل، وهكذا يمكنك العودة إليها لاحقًا؛ لتتذكر أهم المحطات المؤثرة في حياة صاحب هذه السيرة، أما لو كان الكتاب سياسيًا أو اقتصاديًا أو فلسفيًا أو دينيًا أو خلاف ذلك؛ فيمكنك كتابة نبذة مختصرة عن أهم الأفكار التي يناقشها، والأسئلة التي يطرحها، ويجيب عليها.
قراءة ملخصات الكتب
من المفيد أن تقرأ ملخصًا للكتاب بعد انتهائك من قراءة الكتاب ذاته؛ فالمُلَخَص يعبر عن رؤية وفهم شخص آخر هو المُلَخِص للكتاب، وهكذا فبقراءتك له، فكأنك تناقش صديقًا في الكتاب، كما أن المُلَخَص قد يلفت نظرك لأمور لم تلاحظها، أو يوضح أمورًا كانت غامضة بالنسبة لك، كما يعتبر المُلَخَص خاتمة جيدة تؤكد وتُثَبِت الأفكار الأساسية التي يدور حولها الكتاب. ويمكنك الاستعانة بالملخصات؛ لتنفيذ الطريقة السادسة سابقة الذكر؛ أي “قراءة أكثر من كتاب حول الموضوع “؛ فإذا كان وقتك ضيقًا، ولا تملك أن تقرأ عدة كتب في نفس الموضوع، فيمكنك – بدلًا من ذلك – أن تقرأ ملخصات تلك الكتب؛ مما سيوفر عليك الكثير من الوقت. والملخصات يجب أن تكون أمينة ومعبرة عن وجهة نظر الكاتب بحيادية، دون تدخل أو نقد من المُلَخِص.