دراسة سعودية: التنامي المتسارع عبر تقنيات الاتصال الشبكي أدى إلى تراجع المكون النخبوي التقليدي وضعف تأثيره وحضوره في المجتمع السعودي بصورة ملحوظة
كشفت دراسة أكاديمية حديثة أن المشاهير لا يقدمون أي محتوى جاد أو عميق، وإنما ينحصر تأثيرهم في السلوك الاستهلاكي للجمهور، من خلال المحتوى الترفيهي أو التسويقي، مع عدم الثبات والتحول المستمر، واصفةً إياهم بأنهم أفراد وتجميعات فردية لا رابطة أو كتلة أيديولوجية لها، في حين أن المؤثرين نخب رقمية تنضوي تحت كتلة أيديولوجية وتباشر دوراً معرفياً ذا رسالة. في الوقت الذي تراجع فيه المكون النخبوي التقليدي، وضعف تأثيره وحضوره في المجتمع السعودي بصورة ملحوظة، مع فقد النخبة فكرتها المحورية وهي فكرة القيادة أمام واقع الكثرة المتنامية. جاء ذلك في دراسة بعنوان (السلوك الاتصالي للنخب الثقافية السعودية عبر شبكات التواصل الاجتماعي) للباحث السعودي سعيد بن أحمد الدحيه الزهراني، نال من خلالها درجة الدكتوراه في فلسفة الاتصال الرقمي من كلية الإعلام والاتصال في جامعة الإمام محمد بن سعود.
تراجع النخب التقليدية
قدم الزهراني في رسالته تأصيلاً فلسفياً لفكرة الاتصالية الرقمية وحضور النخب في الوسائط التشاركية وتبلور السلوك الاتصالي الرقمي، مستحضراً اتساع الطبقة الرمزية عبر شبكات التواصل الاجتماعي ودخول مكون المشاهير ضمنها، ما أدى إلى تراجع دور النخب التقليدية.
كما أسهمت الرسالة في تقديم تأطير منهجي حول التاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمع السعودي ضمن شبكة الإنترنت، بدءاً بالمنتديات ووصولاً إلى شبكات التواصل الاجتماعي، على مدى أكثر من عقدين من الزمن. فيما قدمت نموذجاً حمل اسم «نموذج التحليل الشبكي لحسابات النخب على شبكة تويتر» لإيجاد مؤشرات يمكن من خلالها تتبع السلوك الاتصالي لمستخدمي الشبكة من النخب وقراءته وتأويله.
النخبة الموازية
وخلص الزهراني إلى مجموعة من النتائج من أبرزها: أن الحضارة الرقمية شهدت ولادة شكل نخبوي مضاد جديد، أكثر تغولاً وأوسع شمولاً وبأدوات تأثير ونفوذ عابرة للأزمنة والأمكنة والثقافات والأجيال والمجالات، وهو (نخبوية النظام الرقمي) المتمثلة في شركات ومؤسسات تكنولوجيا المعلومات والاتصال بأنظمتها الخوارزمية من جهة، وملاك تلك الشركات والمؤسسات من جهة أخرى، والحكومات التي تقع في إطارها تلك الشركات والمؤسسات وملاكها من جهة ثالثة، مشكلةً نظاماً جديداً للهيمنة والنفوذ في بيئات الاتصال الرقمي وعوالم الحضارة الرقمية، بوصفها مركز قوة جديد يضاف لمنظومة مراكز القوى الفاعلة والمؤثرة في السياقات المحلية والدولية، كما بينت النتائج بروز فعل نخبوي جديد عبر عنه الباحث بمفهوم (النخبة الموازية) عبر صيغ البنية التكنوـ رقمية والسلوك الاتصالي المتضافر لدى الأفراد.
نموذج حضاري جديد
وأكدت الدراسة أن شبكات التواصل الاجتماعي، وبيئات الاتصالية الرقمية، تعد نموذجاً حضارياً جديداً يقدم رؤية جديدة للكون وللحياة وللإنسان، وهو نموذج ناسف لبنية الأنساق التقليدية السابقة. وأن التنامي المتسارع عبر تقنيات الاتصال الشبكي، ولاسيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى تراجع المكون النخبوي التقليدي، وضعف تأثيره وحضوره في المجتمع السعودي بصورة ملحوظة، مع عدم تلاشيه تماماً مثلما يتردد من قبيل (موت النخب) كما اتسع مكون النخب، من حيث الكم والشرائح والمستويات والتخصصات، لدرجة ذاب عندها مفهوم النخبة ذاته بعد أن أصبحت النخب جماهير واسعة، وبالتالي فقدت النخبة فكرتها المحورية وهي فكرة القيادة أمام واقع الكثرة المتنامية.
المرحلة السعودية الجديدة
وعنيت الدراسة باستقراء المرجعيات الفكرية للنخب السعودية، التي يفترض أن توجه السلوك الاتصالي، حيث توزع أفراد العينة إلى فئتين؛ الفئة الأول تنتمي إلى التيار الفكري المستقل أو المحايد أو الفني غير المعني بالتصنيفات الفكرية، أو تجاذباتها، أما الفئة الثانية فهي فئة التيارات الفكرية المتضادة ممثلة في التيار المحافظ من جهة، والتيار الليبرالي من جهة أخرى، وهما الفئتان اللتان يحضر تمثيلهما في المجتمع بنسبة أقل إلا أن صوتهما هو الأعلى، مع الإشارة إلى ميل الكفة إلى فئة التيار الليبرالي، ولاسيما المعني بالهموم الوطنية، وهي نتيجة يؤولها الزهراني بالاتساق المرحلي، الذي تشهده المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده حيال تغليب صوت التسامح والانفتاح المتزن، ومحاربة التشدد والتطرف، حيث تمثل في حالة الاعتراف التي لم تكن مشهوده في الفترات السابقة حيال مصطلح (ليبرالي) إلى جانب القبول بالتوصيف أو التصنيف بمصطلح (ليبرالي).
المشاهير بديلاً للنخب
وكشفت الدراسة عن بروز فئة التيار الرقمي، أو المدرسة الرقمية، حيث لاحظ الباحث أن ثمة ما يُؤشر إلى تيار فكري جديد آخذ في التشكل والحضور والبروز بصورة لافتة، ولم يجد له تصنيفاً فكرياً مستقراً في التراث المعرفي التقليدي، ولهذا ولَّدت الاتصالية الرقمية التيار الفكري الجديد الخاص بها، وهو (التيار الرقموي) الذي يأتي بوصفه اتجاهاً فكرياً، وليس مهنياً أو تطبيقياً. وتظهر النتائج وجود اتجاه فكري يرى أن المستقبل سيشهد اندثار مصطلح النخب، مقابل ازدهار مصطلح المشاهير، أي أن ثمة انقلاباً في دلالة المصطلح، لأن مصطلح النخب في أصله مصطلح موروث من الحضارة التقليدية، وحين تفارق الأجيال التقليدية الحياة (الرقميون المهاجرون) فستواصل الأجيال الشبكية (الرقميون الأصليون) حياتها ومراحلها، وفقاً لمصطلح المشاهير الذي تولّد ضمن بيئتهم الرقمية.
أكثر من نصف النخب عينة الدراسة قل نشاطهم الاتصالي عبر تويتر في السنوات التي تلت عام 2015، مقارنة بالسنوات الخمس التي سبقت ذلك العام، وهو ما أدى إلى بروز مفهوم الملل في أداء السلوك الاتصالي الرقمي لدى النخب عينة الدراسة في تناقض للذهنية العامة من حيث إدمان الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
وعني الزهراني باستجلاء مدى إيمان النخب بحرية الرأي، التي أتاحتها الشبكات الاجتماعية، عبر السؤال حول مدى استخدام النخب لتقنية الحظر (بلوك) حيث برز اتجاه يرى أن مفهوم الحرية يأخذ شكلاً جديداً في بيئات الاتصال الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي، فحين تقوم بحظر مستخدم ما، فأنت لم تصادر حريته في التعبير والظهور، وإنما مارست حريتك الخاصة في إبعاد شخص غير مرغوب فيه عن مساحتك الرقمية الخاصة، في حين له كامل الحرية والقدرة على الظهور والتعبير من منبره وحسابه الشخصي، وبهذا يتشكل مفهوم الحرية بصورة مغايرة وجديدة ولافتة، يُحسب تحققها وتجسيدها بصورة لم تتجسد من خلالها في أي من العصور الحضارية السابقة مثلما تجسدت في هذا العصر الحضاري الاتصالي الرقمي، ففي السابق كانت المنصات محدودة وحرية التعبير مرهونة بها فقط، أما اليوم وعبر بيئات الاتصال الرقمي فالحرية متاحة للجميع، ومسؤولية رعاية تلك الحرية ملقاة على عاتق الجميع من خلال كل فرد بعينه، وعلى هذا الأساس يؤكد الزهراني أن الاتصالية الرقمية مكنت الحرية ومسؤولية الحرية من أن تكونا متاحتين معاً بصورة لم يشهدها التاريخ من قبل.
مأزق النخب التقليدية
وفي ما يتعلق بمدى قبول النخب السعودية لمبدأ استثمار النخبوي لحساباته على شبكات التواصل الاجتماعي لنشر الإعلانات، يشير الباحث إلى بروز ملمحين: أولهما خطورة ارتهان السلوك الاتصالي الرقمي لمُهدد الصورة الرمزية التي تعد رأس مال النخبوي، حين الزج بها في مجارف الاحتمالات عبر قبول مال إعلاني تسويقي تجاري، حيث عادة ما يرتبط بفرض الرؤية الخاصة التي تحقق أرباح المُعلن، ما سيؤدي إلى اختلال صورة النخبوي وخسارة المتابعين الذي يعدون الثروة الفعلية في الاتصالية الرقمية، أما الملمح الثاني فينتمي لمرجعية قيمية رقمية ترى أن الأجيال الشبكية لا ترى شائبة في إتاحة النخبوي حسابه عبر شبكات التواصل الاجتماعي للإعلان والتسويق التجاري مدفوع الثمن، استناداً إلى الفكرة الرقمية (الذات تحضر في بيئات الاتصال الرقمي بوصفها رقماً، والمحتوى ينشأ ضمن نظام رقمي، والتفاعل ينشأ عبر أرقام المتابعين ومرات الاستجابة، ونحوها).
وكشف نموذج التحليل الشبكي وفقاً لنتائج الدراسة التحليلية للبيانات، أن أكثر من نصف النخب عينة الدراسة قل نشاطهم الاتصالي عبر تويتر في السنوات التي تلت عام 2015، مقارنة بالسنوات الخمس التي سبقت ذلك العام، وهو ما أدى إلى بروز مفهوم الملل في أداء السلوك الاتصالي الرقمي لدى النخب عينة الدراسة في تناقض للذهنية العامة من حيث إدمان الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي. وعنيت الدراسة بتقصي البعد الإقناعي الاستمالي في خطاب النخب السعودية، وبرز أسلوب الصدمة الذي يقوم على تقديم معلومات، أو آراء صادمة للمتابعين للفت نظرهم وإقناعهم بالأفكار، بما يُحقق لهم لفت الانتباه والجذب وبالتالي الانتشار والتأثير.
المصدر/ جريدة عكاظ