“ولادة الطب السريري”.. سياسات الحياة والموت وفق ميشيل فوكو
في المقدمة، يقول فوكو إن بحثه هذا يتضمن مشروعًا يُقصدُ به أن يكون تاريخيًا ونقديًا معًا، من باب أن الأمر منوطٌ، خارج كل مقصد موجَه، بتحديد شروطِ إمكان الخبرة الطبية مثلما أدركها العصر الحديث.
ويجب القول بوضوح إن هذا الكتاب لم يُكتب لمصلحة طبّ دون آخر، أو ضدّ الطب لمصلحة غيابه، إنّما المقصود دراسة تسعى إلى أن تستخلص من سماكة الخطاب شروطَ تأريخه.
يرى فوكو أن المرض، قبل أن يخرج من البدن، يتخذ تنظيمًا تراتبيًا ضمن عائلات وأجناس وأنواع، وقد يبدو في الظاهر أن الأمر لا يعدو كونه لوحة تساعد في تعلُّم ميدان تكامل الأمراض. لكن الطب التصنيفي يفترض تمظهرًا معينًا للمرض: لم يتم تشكله قط من أجل ذاته، لكن يمكنى تحديد مستلزماته الأساس.
يقول فوكو إن الوباء يملك نوعًا من الفردانية التاريخية، ويجب أن نستخدم معه طريقة معقدة في الملاحظة. فهو كظاهرة جماعية يتطلب معاينة متعددة، وكعملية مفردة، يجب وصفها بما لها من فرادةٍ وحدث عرضيين وطارئين
يتكلم فوكو على ظاهرة الالتقاء بين متطلبات الأيديولوجيا السياسية ومتطلبات التكنولوجيا الطبية. فقد طالب الأطباء ورجال الدولة، في جهد موحّد وبتعبير متشابه أحيانًا، لكن لأسباب متفاوتة في جذورها، بإلغاء ما يمكن أن يعيق تأسيس فضاء جديد: ثمة مستشفيات تُغيِّر القوانين الخاصة المتحكمة بالمرض، وتُفسِد القوانين التي لا تقل صرامة، والتي تحدد الصلات بين السلطة الملكية والغنى، وبين الفقر والعمل، وهناك الطوائف المهنية للأطباء التي تمنع تشكل وعي طبي متمركز، وتمنع ممارسة الخبرة على نحو حرّ ومن دون حدود، حيث تؤدي بنفسها إلى العالمية، كذلك ثمة كليات طب لا تعترف بالحقيقي إلا ضمن بُنيات نظرية، وتصنع من المعرفة امتيازًا اجتماعيًا.
يرى فوكو أن الطب بدأ منذ القرن الثامن عشر يميل صوب سرد تاريخه الخاص كما لو أن سرير المرضى كان مكانًا ثابتًا ومستقرًا للتجربة، خلافًا للنظريات والمنظومات التي بدت عرضةً لتبدلٍ مستمر وتخفي تحت تأملها صفاء الوضوح السريري
يجد فوكو أن لا غرابة في أن تصير ثيمةُ الطبّ المنظم بكامله حول السرير أشد طغيانًا على ثيمة الطب الذي أعيد إلى الحرية. ليس ما حصل ردة فعل على الرغم من أن عواقبه الاجتماعية كانت بشكل عام رجعية ولا تقدمًا، على الرغم من أن الطب أفاد منه على أكثر من صعيد، إنما المقصود إعادة بناء ثيمة الطب في الحرية، ضمن سياق تاريخي محدد. ففي ميدان متحرر، ستحدِّد الحاجةُ إلى الحقيقة المفروضة على المعاينة، بنياتِه المؤسساتية والعلمية.
ينظر فوكو إلى المرض من جهة الموت، فيجد أنه يملك أرضًا، موطنًا مُحدَدًا، مكانًا مُحكمًا مخفيًا، تنعقد فيه قراباتُه وعواقبه، وتحدد القيمُ الموضعية (المحلية) أشكالَه، “وانطلاقًا من الجثة نراه، من باب المفارقة، حيًا”، هي حياة تمتلك صورها وقوانينها الخاصة. يضيف أن الطب بحث عن الصلات بين المرض والحياة، وحده مصطلح ثالث استطاع أن يقدم لالتقائهما، هو الموت. فانطلاقًا منه، يتجسد المرض ضمن حيز يتوافق مع حيز في الجسم البشري، يتبع خطوطها ويُقطِّعها، ينتظم تبعًا لهندستها العامة، وينعطف كذلك نحو صفاتها الفريدة.
عنوان: الكتاب ولادة الطب السريري
المؤلف: ترجمة إياس حسن لكتاب ميشيل فوكو
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
البلد: الدوحة
تاريخ النشر: 2019
عدد الصفحات: 336