عالم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتمتة، وكيف يجب أن نستجيب
من النول الميكانيكي إلى محرك الاحتراق إلى أجهزة الكمبيوتر الأولى، أثارت التقنيات الجديدة دائمًا الذعر بشأن استبدال العمال بالآلات. لعدة قرون، كانت هذه المخاوف في غير محلها، ويؤكد العديد من الاقتصاديين أنها لا تزال كذلك حتى اليوم. لكن كما يوضح دانيال ساسكيند، فى كتابه (عالم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتمتة، وكيف يجب أن نستجيب) هذه المرة مختلفة حقًا. الاختراقات في الذكاء الاصطناعي تعني أن جميع أنواع الوظائف معرضة للخطر بشكل متزايد.
بالاعتماد على ما يقرب من عقد من البحث في هذا المجال، يجادل سسكيند بأن الآلات لم تعد بحاجة إلى التفكير مثلنا حتى تتفوق علينا، كما كان يعتقد على نطاق واسع. ونتيجة لذلك، فإن المزيد والمزيد من المهام التي كانت تتجاوز قدرة أجهزة الكمبيوتر -من تشخيص الأمراض إلى صياغة العقود القانونية، ومن كتابة التقارير الإخبارية إلى تأليف الموسيقى- أصبحت في متناول أيديهم. إن تهديد البطالة التكنولوجية حقيقي الآن.
يؤكد ساسكيند أن هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. يمكن أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى ازدهار غير مسبوق، وحل واحدة من أقدم مشاكل البشرية: كيفية التأكد من أن كل شخص لديه ما يكفي للعيش. ستتمثل التحديات في توزيع هذا الازدهار بشكل عادل، لتقييد القوة الناشئة للتكنولوجيا الكبيرة، وتوفير معنى في عالم لم يعد العمل فيه مركز حياتنا. يُظهر عالم بلا عمل الطريق، إدراكًا وواقعيًا وفي النهاية يبعث على الأمل .
البطالة التكنولوجية
يرى الكاتب “دانيال ساسكيند”، بأن عصر الأمان الوظيفي قد شارف على الانتهاء، موضحًا حدود تهديد التكنولوجيا للوظائف التي يقوم بها الإنسان، وهل يمكن أن يؤدي الاعتماد المتزايد على الأتمتة إلى تحقيق الرخاء البشري؟.
يؤكد “المؤلف” في كتابه أن تقنيات الذكاء الاصطناعي قد غيَّرت كل شيء؛ فلم تعد الآلة تقوم بالمهام الروتينية التي يقوم بها الإنسان فحسب، بل إنها غيّرت مفهوم “الروتين” نفسه وأصبحت تقوم بالمهام غير التقليدية. فدومًا كان يُفترض أن المهمة تتطلب إنسانًا للقيام بها حتى تأتي الآلة وتثبت العكس، ودون الحاجة إلى محاكاة الإدراك البشري.
كذلك كان من المعتاد القول إن العمال الذين فقدوا وظائفهم ذات المهارات المتدنية يجب أن ينسحبوا للقيام بأدوار أكثر تحديًا، لكن ماذا يحدث عندما تأتي الروبوتات، أو الطائرات بدون طيار، أو السيارات بدون سائق؟ بطبيعة الحال ستختلف التنبؤات، خاصة أن ما يصل إلى نصف الوظائف يُعدّ مُعرّضًا جزئيًّا على الأقل للإحلال بتقنيات الذكاء الاصطناعي، بدءًا من قيادة الشاحنات وتجارة التجزئة والمستودعات إلى الطب والقانون والمحاسبة.
وقد افترض علماء الاقتصاد أن أتمتة جميع هذه الوظائف من شأنه أن يخلق نوعًا من البطالة التكنولوجية، وهي البطالة الناتجة عن اكتشافنا لوسائل الاقتصاد في استخدام العمالة بما يفوق الوتيرة التي يمكن أن نجد بها استخدامات جديدة للعمل. بيْد أن “ساسكيند” يُفنِّد هذا الافتراض، مؤكدًا أنه الأتمتة حلَّت محل العمالة البشرية في المهام الروتينية دون تدمير مهن بأكملها، وحتى عندما تم القضاء على بعض المهن، تم إنشاء مهن جديدة.
ويستطرد “المؤلف” في هذا التفنيد، مشيرًا إلى أن الآلات قد استبدلت أحيانًا تمامًا كل ما يفعله العمال بينما في كثيرٍ من الأحيان تكمل وظائف العمال، وتتولى بعض المهام الروتينية التي يمكن التنبؤ بها، ولكن في النهاية تجعل العمال أكثر إنتاجية. إذ ربما تكون الآلات قد حلت محل النساجين؛ إلا أن النساجين المحتملين أمس يعملون الآن في وظائف لم يكن من الممكن أن يتصورها أجدادهم، كمديري تسويق ومبرمجي كمبيوتر ومصممي أزياء.
كذلك خشي صرافو البنوك من ظهور آلات الصراف الآلي، لكن شركة (A.T.M.S) عملت بالفعل على تحفيز العملاء على استخدام البنوك أكثر، وبالتالي زاد عدد فروع البنوك، وكذلك عدد صرافي البنوك الذين تم تحريرهم للقيام بمهام أخرى غير صرف الأموال للعملاء، وقلل في الوقت ذاته من المخاطر الناتجة عن مهمة الصرَّاف البشري كالتعرض للسرقة أو الفساد المالي وغيره.
لذا يؤكد “ساسكيند” أنه على مدى القرون القليلة الماضية، ساعدت التكنولوجيا العمال البشر على أن يصبحوا أكثر إنتاجية من أي وقت مضى، مما أدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق، ورفع مستويات المعيشة العالمية. فعلى سبيل المثال، نما الاقتصاد الأمريكي 15241 ضعفًا بين 1700 و2000.
عصر الرخاء
يعتقد “ساسكيند” أنه برغم المخاوف الناتجة عن التطورات التكنولوجية، إلا أن هذا ليس بالأمر السيئ بالضرورة، فخلال المائة سنة القادمة، يمكن أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى تحقيق رخاء لم يسبق له مثيل، وسيقودنا إلى عالم ذي عمل أقل للعنصر البشري، كما سيحل واحدة من أقدم مشاكل الإنسانية وهي كيفية التأكد من أن كل شخص لديه ما يكفي للعيش، وتضييق الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون.
بيد أن هذا الرخاء سيُفرز ثلاث مشكلات أساسية؛ تتمثل المشكلة الأولى في عدم المساواة المرتبطة بكيفية توزيع هذا الرخاء الاقتصادي على كل فرد في المجتمع. أما المشكلة الثانية فتتعلق بالقوة السياسية لتحديد من الذي يتحكم في التقنيات المسؤولة عن هذا الرخاء وبأية شروط. فيما ترتبط المشكلة الثالثة بالمعنى، ومعرفة كيفية استخدام هذا الرخاء، ليس للعيش فقط دون عمل بل للعيش بشكل جيد.
حلول المشكلات
ويطرح “المؤلف” مجموعة من الحلول للمشكلات الناجمة عن التطور التكنولوجي المرتقب، والتي تدور أغلبها حول أمرين رئيسيين: أولًا- العمل المشترك على تقييد القوة الناشئة للتقدم التكنولوجي، وكبح جماح تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وثانيًا- تمكين دولة كبيرة قادرة على تقديم نموذج يواجه هذه المشكلات؛ وسيتعين على مثل هذه الدولة أن تتصدى ليس فقط لتحديات إعادة توزيع الكعكة التي تعد كبيرة بما يكفي لكنها غير موزعة جيدًا، ولكن أيضًا كيفية إنشاء معنى وتحديد قيمة لمساهمات المواطنين في عالم ما بعد العمل.
ويستطرد “ساسكيند” في العديد من الأفكار الجيدة المتداولة حول كيفية مواجهة مشكلة عدم المساواة وتوزيع مخرجات الرخاء والازدهار الاقتصادي على جميع المواطنين؛ بداية من إنشاء صناديق الثروة السيادية الرقمية، إلى إسناد القيمة الاقتصادية، إلى العمل غير المدفوع في الوقت الحالي، وغيره.
مستقبل الترفيه
من ناحية أخرى، أشار “المؤلف” إلى أنه بدلًا من التفكير حول مستقبل العمل في إطار البحث عن معنى، يمكن التفكير حول مستقبل الترفيه، مؤكدًا أنه لدينا سياسات لسوق العمل، والتي تُساهم في تشكيل كيف يعيش الناس حياتهم العملية. ومن ثم ربما نحتاج أيضًا إلى سياسات أوقات الفراغ لتشكيل كيفية قضاء الناس وقت فراغهم. ولدى الدول بالفعل نظم مختلفة للتقاعد الذي يُعد -في حد ذاته- سياسة ترفيه مدعومة بشدة من الحكومات المختلفة.
عصر الأمن الوظيفي
وفى ختام الكتاب يؤكد المؤلف, أنه في القرن الحادي والعشرين، سيتعين علينا تأسيس عصر جديد للأمن الوظيفي لا يعتمد على العمل مدفوع الأجر، وأنه يجب أن نبدأ هذه المهمة اليوم. وبرغم أننا لا نعلم تحديدًا متى سيأتي العالم ذو العمل الأقل للعنصر البشري، إلا أن هناك معالم واضحة بأننا نسير في الطريق إليه، وهو ما يستدعي ضرورة الأخذ في الاعتبار المشكلات الثلاثة المرتبطة بعدم المساواة والقوة والمعنى التي لا تختبئ في المستقبل المنتظر في هذا العالم، بل بدأت في الكشف عن نفسها مبكرًا، وأصبح لزامًا علينا تحديد كيفية الاستجابة لها.
عن المؤلف:
“دانيال ساسكيند”, هو مؤلف مشارك لكتاب “مستقبل المهن”، والذي تم اختياره كأحد أفضل كتب العام من قبل Financial Times و New Scientist وTimes Literary Supplement. وهو زميل في الاقتصاد بكلية باليول بأكسفورد. سابقاً، كان مستشارًا للسياسات لوحدة الإستراتيجية برئيس الوزراء ومستشارًا أقدم في مكتب مجلس الوزراء للحكومة البريطانية.
معلومات الكتاب:
– عالم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتمتة، وكيف يجب أن نستجيب
-المؤلف: دانيال ساسكيند
-الناشر: Metropolitan Books
تاريخ الإصدار: 2020
عدد الصفحات: 307