بيرم التونسي.. رؤية فنية وإبداعية
ربما لا تقل خطورة الدور الذي لعبه محمود بيرم التونسي فنان الشعب، عن الدور الذي لعبه الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي، أو الدور الذي لعبه سماحة شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين التونسى، أو الدور الذي لعبه قديما ابن خلدون أو حديثا أبو القاسم الشابي، التوانسة المصلحون
ذلك أن محمود بيرم التونسي كان أكبر من كونه شاعراً أو زجالاً أو كاتباً للأغاني، حيث كان الرجل قطعة حية من المشاغبة والاشتباك، والثورة علي كل عوج، في كل شأن اجتماعي دارت خلاله حياة الناس في تلك الفترة.. رئاسة ومرؤوسين، حكاما ومحكومين، أجانب ووطنيين..
بيرم التونسي.. رؤية فنية وإبداعية
كذلك كان الرجل صاحب رؤية فنية إبداعية إصلاحية، علي كل مستويات الدوائر الاجتماعية التي تناولها.. فتكلم في الحكم، والعدالة، والنظام، والنظافة، والسلوك، والجوار، والآداب العامة والخاصة، والتربية والتعليم، والتجارة، والصناعة، والصحافة، والسياحة، والنقد الاجتماعي، والبناء السياسي.
لم يترك محمود بيرم التونسي شيئا، إلا وكان فيه له لذعة، ولديه لوعة، ومنه قطعة تملؤها الجماليات والروعة.
بيرم التونسي.. المولد والنشأة
محمود ابن محمد ابن مصطفى ابن بيرم الحريري الشهير (ببيرم التونسي) المولود في( 23مارس1٨٩٣م -٥ يناير ١٩٦١) والذي طبقت شهرته الآفاق.. ذلك الغلام المولود لجد تونسي، من سلالة جارية أهديت إليه من الحاكم التركي، سقط على أرض الواقع في حي (الأنفوشي ) بالإسكندرية في شارع البوريني، له أخت واحدة من والده تكبره بعشرين عاما، جرب كل الحرف وتبهدل في كل الأعمال، وكانت النتيجة التي يتحصل عليها دائما.. الخسارة والفشل.. بل والبوار والضياع في الطرقات، حتى عندما دخل الكتاب، وهو إبن أربع سنوات، كان حظه الضرب المروع، ففر من الكتاب، فأجبر على دخول المعهد الديني، بالسكندرية، فلم يكن له نصيب إلا فتات العلم، في تلكم السنوات القلائل التى اجبر فيها علي طلبه، قبل ان بنتبه الي نفسه وموهبته وثقافته وفنه، ذلك أنه كانت تلتصق المشاكل في أقدامه، وتتساقط على رأسه، حتى عندما فر من التعليم الي التجارات الصغيرة التي جرب حظه فيها، داهمه ذلك الجبار الظلوم الغشوم.. المسمي بـ (المجلس البلدي) فأتي على تجارته من القواعد،حتي أغلق أبوابها، فانفجر بقارعة النقد الاجتماعي، لاعنا خاش أهل ذلك (المجلس البلدي) الذي دمر تلك التجارة الضيقة في (السمن).. إحدى بضاعات الأزمة في تلك الفترة الحالكة من تاريخ المحروسة، حيث كان كل موظفي، المجلس البلدي من الأجانب فأغلق الرجل الدكان، وخسر الذي كان..
الشرارة الأولى لقنبلة النقد الاجتماعي
وكانت الشرارة الأولى لقنبلة النقد الاجتماعي التي ألقاها بيرم التونسي في الشارع السياسي في ذلك الحين
قد أوقع القلب في الأحزان والكمد
هوى حبيب يسمى المجلس البلدي
إلى أن ينتهي بيرم إلى قوله:
يابائع الفجل بالمليم واحدة
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
ذلك المجلس البلدي، إحدى دوائر مجمع الظلم في تلك الفترة يمارس على الناس الضرائب، ويجلب عليهم المصائب، حتى يغلق الأبواب، ويعلن الناس الإفلاس.
بيرم التونسي والنفي خارج البلاد
جرب بيرم حظه في عدة ميادين، ولما ضاقت به الأحوال، انفجر في الشارع السياسي، لاعنا أعلى رأس في البلد، بقصيدته الشهيرة جدا (البامية الملوكي والقرع السلطاني) التي طعن بها طعنا مبرحا جارحا في عرض الملك فؤاد، فأصدر الملك أمرا فوريا بنفيه خارج البلاد، فتم رميه إلى تونس التي أتى أجداده منها، واستمرت هذه البهدلة، ما بين تونس وفرنسا والتسلل إلى القاهرة ١٨عاما.. ذاق بيرم خلالها المذلة والفقر والمرض، إلي أن توسط الفنان النبيل سليمان نجيب مدير الأوبرا الملكية، لدى الملك فاروق، فأمر بعودته إلى مصر قابلا الشفاعة، وعاد بيرم الي مصر في 8-4-19٣٨ بعد وفاة الملك فؤاد، شريطة أن يمدح الملك فاروق مدحة مدوية، وأن يلحس كل ما قاله في حق والده، ( وأن يبدي الندم ويبوس القدم)
صنع ذلك بيرم، من تحت ضروسه.. وقال ما قاله في الملك فاروق
وهو مالا يصح أخذه عليه، كذلة في كل وقت وحين، فقد قاله وهو يكفر بكل حرف فيه، فمنذ متى وبيرم التونسي يقول للملك فاروق (وهات ترابك أبوسه)
ومنذ متى وبيرم التونسي يقول أنه ذليل ونادم على ما قال..
لو كان يعي أنه سيقول ذلك، ما قال قديما
بذلنا ولسة بنبذل نفوس
وقلنا ع سى الله يزول الكابوس
ما شفنا إللي عرشك ياتيس التيوس
لامصر استقلت ولا يحزنون
ولما عدمنا بمصر الملوك
جابوك الإنجليز يافؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك وفين يلقوا سافل نظيرك ودون
بيرم التونسي والعودة إلى مصر
عاد بيرم إلي مصر.. ولم تمر شهور قلائل حتى دوى اسم بيرم التونسي كشاعر غنائي كبير، بعد أن التقى بأم كلثوم عام 1940 ووابدع لها أغانيه، حيث كتب لها أكثر من 20 أغنية أشهرها (أنا في انتظارك، الٱهات، أهل الهوى، شمس الأصيل، الحب كده، هو صحيح الهوى غلاب، القلب يعشق كل جميل )
ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952 فأصبح بيرم أحد أهم أصواتها ومنشديها، وأشهر شعرائها ومروجيها، لكنه أيضا لم يمسك لسانه عن نقدها بشدة، في ذلك الزجل الشهير الذي بدأه بقوله: (سبقني الباقوري.. وقال مش ضروري ).. إلى آخر ماقال!!
التي ذكرت الناس بما قاله قديما:
أمشي وأكتم أنفاسي مخافة أن يعدها عامل للمجلس البلدي
ما شرد النوم عن جفني القريح سوي
طيف الخيال، خيال المجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف ٱكله والنصف أتركه للمجلس البلدي
وإن جلست فجيبي لست أتركه خوف اللصوص وخوف المجلس البلدي
وما كسوت عيالي في الشتاء ولا في الصيف إلا كسوت المجلس البلدي
كأن أمي بل الله تربتها
أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج إذا يوم الزفاف أتى أن ينبري لعروسي المجلس البلدي
وربما وهب الرحمن لي ولدا
في بطنها يدعيه المجلس البلدي
وإن أقمت صلاتي قلت مفتتحا
الله أكبر بسم المجلس البلدي
أستغفر الله حتى في الصلاة غدت
عبادتي نصفها للمجلس البلدي
يا بائع الفجل بالمليم واحدة
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
بيرم التونسي والعمل الصحفي
أيضا جرب بيرم حظه كصحفي.. ذلك الدور الذي انتهت به حياته كمحرر شهير بجريدة الجمهورية، صوت ثورة 23 يوليو.. لكنه كان كلما أنشأ جريدة أغلقوها، وكلما أنشأ صحيفة صادروها. بتفصيل تخريجات من قانون مصادرة الصحف والمجلات التي كانت تصنع خصيصا من أجله، حتى عندما ذهب إلى تونس طاردته حرفة الأدب، ولعنة المنفى فكتب :
الأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آه
الأوله آه قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني
والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير مصافاني
والثالثة باريس وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني
باريس التي ذهب إليها بعد فترة التيه والاستنكار التونسية، ففجرت أوجاعه، حيث كان يعمل بها شيالا للبراميل.. ينام وسط الشحم والدخان.. وهو الذي يعاني من الربو الشعبي، حتى هانت عليه نفسه فكتب:
ح اتجن يا ريت يااخوانا مارحوتش لندن ولا باريز
دي بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ
ذلك المونولوج الذي كان يتغنى به الشيخ زكريا أحمد بصورة مضحكة مبكية معا، وفي باريس أيضا كتب مسرحيته الشهيرة (السيد ومراته في فرنسا).
بيرم التونسي.. الشاعر المحتسب
انخرط بيرم بكليته، ليكون صوتا شعريا شعبيا للثورة، عسي أن يصلح العطار ما أفسد الدهر..
ورغم ذلك لم يغمض عينيه عن كل ميادين النقد الاجتماعي، التي كان يلهب بها ظهور التائهين، في كل ما يتعلق بمعايشهم، من الحركة في الشارع، إلى النظافة، إلي الزواج، إلى الطلاق، إلى عمل النصابين، إلى وهم الدجالين، إلى مواضعات الساسة الجائرين، إلى كواليس الصحافة، الي المنافقين من لصحفيين، إلى التجار الجشعين، إلى النساء اللاتي لا يقمن بأدوارهن في الحياة والتربية، إلى الرجال الغافلين، إلى الشباب المتفسخ في اللبس والحركة، إلى الأولاد المترسلين في التدني..
لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا نالتها سياطه، باعتباره، شاعراً محتسباً باسم الشعب بخصوص كل مايمس مصالح الشعب، وعاش كدفتر أحوال للنقد الاجتماعي، على مدى عمره كله، منذ بدأ ينظم وهو ابن الثالثة عشرة، إلى أن لقي ربه..
حتى إن البعض يقول إن بيرم كان شاعرا (لسانه متبري منه)
ولم يكن أمير الشعراء أحمد شوقي يعمل حسابا لجلال الفصحى، إلا من بيرم فنان الشعب، حتي كان يقول : ( لا أخشى على الفصحى إلا من ذلك الرجل)
وهناك طرفة جديرة بالذكر.. لما طلب من أحمد شوقي أن ينزل إلى مستوى الشعب، وأن يكتب بعض الأغاني بالعامية، فكتب أغنيته الشهيرة لعبد الوهاب (بلبل حيران على الغصون شجي معنى) هذا الكلام الجاف، الذي لا هو بالشعر الفصيح، ولا هو بالعامية السلسة.. أرسل بيرم برقية مزعجة جدا إلي أمير الشعراء تقول:
يا أمير الشعر غيرك
في الزجل يبقى أميرك
ومن الطرائف التي حدثني بها شخصيا عميد الزجالين السابق محمد عبد المنعم أبو بثينة، يقول: لما بويع زوج أمي حسين شفيق المصري أميرا للشعر الحلمنتيشي والزجل دون منازع، كتب بيرم بطول لسانه المعروف ، قصيدة نقدية ، منها قوله :
باريس خلاص صبحت خاربة
اللقمة فيها بمضاربة
وأناس ارتميت وسط مغاربة
الكرب والغرب قتلها
إلى أن قال:
والفن بايظ واهي باينة
خراب ما يحتاج لمعاينة
أميري جوز ام بثينة
وأنا الرعية مع عيالها
حتى إنه كتب في هذه القصيدة، ما يشبه عربون التصالح مع الملك، إلا أن الرسالة لم تصل، لما قال:
يا مصر هجرك يكفاني
يا عاملة قمع ونسياني
إلى أن قال:
أنا اللي ضليت في جهادي
وغشني سحر الوادي
حدفت للنيل اولادي
من بعد ما عمرو دخلها
بيرم التونسي كان فنان الشعب بكل معنى الكلمة.. فلم يترك أحدا في حاله، حتى كان يقول:
يا شرق فيك جو منور والفكر ضلام
وفيك حرارة يا خسارة وبرود أجسام
فيك سبعميت مليون زلمة لكن أغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم ولا بالإسلام
وعندما كان يتعرض للنقد الاجتماعي، كان لايتهيب أحدا.. بل ويتجاوز بعض المقامات والحدود بشكل مفزع.. كما صنع مع شيخ الإسلام العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي عندما قال:
يا بخيت يا بدومة
لاديك بالشومة
إلى آخر ما قال.. مما يجعلنا نقول: ان بيرم التونسى قد تغلغل في أعماق الشعب ، وأصبح صوت الشعب، ولسان الشعب، وكما قلنا في صدر المقال:
إن الدور الاجتماعي الذي لعبه بيرم، لا يقل أبدا عن الدور الذي لعبه أي واحد من التوانسة المصلحين، الذين قدموا إلى مصر ، فوسعتهم دارا وديارا.. وأدباً وفناً واشعاراً
فمنحتهم من روحها وريحانها
وفي الاخير .. تم منح بيرم التونسي الجنسية المصرية عام ١٩٥٤م
وانتقل شاعر الشعب المشاغب، إلى رحمة الله تعالى في 5-1-1961م
رحمة الله على الناقد الاجتماعي اللاذع، بيرم التونسي، ثائرا ساخرا، ورحمة الله على بيرم صوت الشعب، ورحمة الله ورسوله.. مدونا أنصع صفحات الإصلاح والتغيير والتوظيف الاجتماعي للشعر والفن والأدب الرسالي الجميل.
د. محمود خليل