مقالات

تعلموا العلم للقيام به وليس للتحدث عنه.. رؤية لتعزيز منظومة البحث العلمي في دول مجلس التعاون الخليجية

أجرينا احصائيات حديثة لعدد الأوراق العلمية المنشورة من دول المجلس، واعتبرنا عددها مؤشرا للنشاط البحثي في هذه البلدان. بلغ عدد الأوراق العلمية المنشورة من كل دول مجلس التعاون منذ 2001 إلى الآن (مايو 2022) ما يزيد عن 377 ألف ورقة في كل مجالات الرياضيات والعلوم الأساسية والتطبيقية وما يتعلق بها.

لقد ازداد الإنتاج البحثي بشكل مطرد خلال هذه السنوات بشكل ملحوظ، كما يظهر من الرسم البياني التالي. وهذا نتيجة لزيادة الاهتمام الحكومي وبناء المؤسسات البحثية والجامعات في كل دول المجلس.  فقد ازداد من أقل من 3000 ورقة عام 2001 إلى حوالي 67 ألف ورقة عام 2021 أي أنه تضاعف 23 مرة، وقد بدأت الزيادة منذ العام 2011 ثم ازدادت بشكل أكبر منذ 2019

وواضح من الرسم البياني أن التأثير الأكبر هو للسعودية. وهذا متوقع، فالسعودية هي أكبر دولة خليجية مساحة وعددا للسكان، وأكثرها انتاجا للبحوث، ليس على مستوى دول المجلس فقط، ولكن على مستوى الدول العربية كلها أيضا. وانتاجها الكلي يزيد على ثلثي الإنتاج الخليجي.

  الرسم البياني

 بصورة عامة، هذه الزيادة الكبيرة في انتاج الأوراق البحثية ونشرها في مجلات عالمية عالية المستوى، فهذه الإحصائية مأخوذة من قاعدة بيانات ISI والتي تشترط معايير خاصة للمجلات التي تدرج فيها، هذه البحوث المنشورة تعني في الخلفية، وجود مؤسسات ومختبرات وأجهزة وباحثين تم تأهيل الكثير منهم في أرقى الجامعات العالمية، وباحثين من غير أبناء دول المجلس أيضاً يعملون في هذه المؤسسات. وكل هذا من الناحية الاقتصادية، يعني إنفاق مبالغ كبيرة من ميزانيات هذه الدول، وهذا أمر جيد ومسعى محمود للحكومات في هذه الدول. وللحق، فالكثير من الباحثين في المؤسسات البحثية الخليجية يتميزون بمستوى عالٍ في التأهيل العلمي والأكاديمي والجودة والمثابرة في العمل.

أي أن هذه الدول تملك الآن أساس بشري ومادي لإحداث ثورة علمية ونهضة حضارية حقيقية.

ولكننا لا نرى وجود واضح وأثر ملموس لهذا المجتمع العلمي الخليجي وانتاجه على أرض الواقع رغم مرور سنوات عديدة على هذه القفزة العلمية الخليجية، فما هو السبب؟ وما الذي يعيق إحداث هذه الثورة والنهضة الحضارية العلمية في منظومة مجلس التعاون؟ وهل هي منظومة؟ أم منظومات؟

هل يوجد تعاون وتنسيق علمي أو سياسة علمية وخطة استراتيجية موحدة بين دول المجلس؟

ومن مسمى دول مجلس التعاون، لنتعرف على التعاون العلمي بينها:

لا تخفى عليكم أهمية التعاون والتكامل بين المؤسسات البحثية ومنتسبيها، فمعظم هذه الدول أصغر حجما وعددا وامكانيات من أن تقوم منفردة، بل إن الدول العظمى تتعاون وتتكامل فيما بينها، وليس بعيد عنا البرامج المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي أو حتى بين الولايات المتحدة وروسيا، تلك البرامج العلمية التي لا تخضع للأوضاع السياسية، بل ولا حتى الحروب بين تلك الدول.

فما هي برامج التكامل والتعاون العلمي بين دول مجلس (التعاون)؟ 

يهمنا هنا تسليط الضوء على التعاون العلمي بين دول مجلس التعاون، حيث إن التعاون العلمي والأكاديمي ركيزة مهمة للتعاون بين الدول، فما بالك بدول تحت منظومة مجلس (تعاون). وتظهر الاحصائيات أن نسبة التعاون البحثي بين دول المجلس ضعيفة للغاية، مما يدل على ندرة وجود برامج بحثية مشتركة بينها، مع الأسف.

فمن بين 377 ألف ورقة بحثية نشرت منذ 2001 من دول المجلس، يبين الجدول التالي تفصيل التعاون في تلك الأوراق:

نلاحظ هنا أن أكبر عدد للأوراق المشتركة هو بين السعودية والدول الأخرى، وهذا متوقع لأنها تنشر العدد الأكبر من الأوراق. ويظهر من الشكل أن أكثر أوراق مشتركة بين دولتين من دول المجلس هي بين السعودية والإمارات بواقع 4,667 ورقة. وهي تمثل أقل من 2 بالمئة من انتاج السعودية و 8 بالمئة من انتاج الإمارات. وقس على ذلك فيما هو أقل..

بعد أن استعرضنا أعداد الأوراق المنشورة من دول المجلس وهي نسبياً، ليست قليلة، 377 ألف ورقة بحثية منشورة، يحق لنا أن نتساءل، ماذا صنعت وما هو تأثير هذه الأوراق المنشورة على أرض الواقع؟ وهل المردود الأمني والاقتصادي يعادل ما أنفق عليها؟

ما هو أثر تلك البحوث والأوراق البحثية المنشورة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه المنظومة من الدول الخليجية، وأثرها في تحقيق الأمن القومي بمعناه الواسع، بما فيه الأمن السياسي والأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي والأمن الصحي، والأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن البيئي وغيرها. ما هو تأثيرها على مستقبل شعوب هذه البلدان؟ وكيف يمكن تعزيز هذا الأثر؟

دراسات موثقة

هل توجد دراسات موثقة للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها؟ لاستشراف المستقبل ووضع الخطط الاستراتيجية للبحوث العلمية ووضع السياسات العلمية في منظومة دول المجلس؟ وهل تدخل بشكل جدي وفعلي، مثل هذه الاستراتيجيات والسياسات العلمية ضمن الرؤى التي تصيغها دول المجلس؟

مع ملاحظة أنني أسأل هنا عن دراسات تضم منظومة موحدة لدول المجلس وليس لأي دولة منفردة.

بنية تحتية وقوانين تنظم العمل

لا يمكن أن يكون للعلم أثر ما لم يكن هناك انتاج، فلابد من وجود شركات وطنية تنتج وتدعم البحوث التي تزيد تنافسية منتجاتها.. أي لابد من ربط العلم بالاقتصاد، مع الاهتمام بالعلوم الأساسية، فهي الأصل والأساس.

ولكي تؤتي هذه البحوث أُكلها، لابد من بنية تحتية من داخل المجتمع العلمي وخارجه. لابد من ربط المؤسسات البحثية بالمجتمع خارج أسوار الجامعات.

وهذا يستلزم بنية تحتية على مستوى الدول لصياغة وتطبيق قوانين وأنظمة تحكم العملية الإنتاجية وتربطها بالمؤسسات البحثية، من هنا، فإن فتح أبواب الحوار مع الآخرين، سواء كانوا حكومة أو أصحاب رؤوس أموال، أو غيرهم مهمة أرى أن المجتمع العلمي يظلم نفسه ومواطنيه بالتقصير فيها. المجتمع العلمي يحتاج لرؤوس الأموال لتمويل البحوث، والشركات تحتاج الباحثين لتطوير المنتجات، وبينهما حكومات يلزم أن تسهل العلاقة، بل وتعتمد سياسة الإنتاج بدل الاستهلاك كهدف وطني يستلزم وضع سياسة علمية بمشاركة الجميع..

تنسيق وبرامج مشتركة

دول مجلس التعاون تربطها أرض ومياه وبيئة مشتركة، كما تربطها بالتالي تحديات مشتركة. فيجب أن يكون هناك تنسيق بين الجامعات والمؤسسات البحثية وتشارك في برامج بحثية موجهة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تشترك كل دول المجلس في مياه الخليج العربي، بالإضافة للعراق، هذا الخليج شبه المغلق والذي تجوبه السفن العملاقة بكل نفاياتها، وتصب فيه نفايات من الشواطئ بكافة أشكالها، ألا يستلزم وجود برامج بحثية مشتركة لدراسة المياه والكائنات الحية التي تعيش فيه وتأثيرات كل المتغيرات على الصحة والبيئة وغير ذلك؟

 فمن المؤكد أن الأسماك والكائنات البحرية والعوالق والملوثات وغيرها لا تعرف معنى للمياه الإقليمية والدولية والحدود.

هذا فضلاً عن الخطورة المتمثلة في توفير مياه الشرب الصالحة والمحلاة من مياه الخليج، وكلنا يعرف أن مصدر المياه الرئيسي لهذه الدول هو تحلية مياه هذا الخليج..

مثال آخر، المياه الجوفية وخزاناتها المشتركة بحكم الجغرافيا والجيولوجيا، ألا تتطلب برامج مشتركة لحماية تلك الخزانات والمحافظة عليها؟ وقد نشرنا على موقع المنظمة دراسات حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إليها، وتبين لنا أن البحوث المشتركة تكاد تكون معدومة بين هذه الدول.

معظم أراضي دول المجلس تقع في مناطق صحراوية وشبه صحراوية تعاني من فقر التربة وندرة المياه، ألا يستلزم ذلك برامج متكاملة، وتبادل المعلومات والخبرة من أجل الوصول إلى أفضل الأساليب لكفاءة الإنتاج الزراعي والحيواني؟

تعاون بين المؤسسات البحثية

حتى على مستوى المؤسسات والجامعات، لماذا لا يكون هناك تنسيق وتكامل، على سبيل المثال، في وجود أجهزة ضخمة ومتطورة بينها، بحيث يستفيد من هذه الأجهزة أكثر من جامعة في أكثر من دولة؟  ويكون هناك تبادل وتعاون على مستوى طلاب الدراسات العليا والأساتذة، لإجراء القياسات ووجود الخبراء وتطوير البحث وتقليل التكاليف؟ فبدلا من أن تشتري كل جامعة جهازين مثلا، يمكن أن تشتري كل جامعة جهاز واحد يستفيد منه الباحثون في الجامعتين، خاصة مع قلة أعداد المستخدمين لهذه الأجهزة وبالتالي الكفاءة في اقتنائها، وهكذا نوفر ثمن جهار يمكننا به شراء جهاز ثالث، هذا فضلا عن التعاون بين الباحثين والخبراء وتعزيز البرامج المشتركة. ولا يخفى أثر ذلك على خلق الروابط والتآلف بين شعوب هذه الدول.

تطوير صناعي وتوطين

مثال آخر، معلوم أن دول المجلس هي من أكبر مستهلكي صناعة تحلية المياه في العالم، فهل استطاعت هذه الدول بعد كل هذه السنين، بمنظوماتها البحثية أن توطن هذه الصناعة؟ نعلم أن هناك عدداً من مراكز بحوث المياه في دول المجلس والتي تنشر الكثير من الأوراق البحثية حول تحلية وتنقية ومعالجة المياه، سواء المالحة أو شبه المالحة أو الملوثة، وذلك بتطبيق آخر ما توصل إليه العلم من تقنيات أغشية وتكنولوجيا النانومتر واستخدامات الطاقة النظيفة وغيرها، هذه الأوراق البحثية المنشورة من مراكز بحوث المياه هذه، يستفيد منها العالم ولا نجد لها أثر لدينا. أين هي على أرض الواقع؟

وبالمثل، صناعة البترول والغاز، بعد أكثر من قرن من الزمان، هل استطعنا توطين هذه الصناعة واستطعنا أن نكون مصدرين لتكنولوجيا الإنتاج والصناعات البترولية، أم مازلنا نستورد منتجات العلم كما نستورد باقي احتياجاتنا؟

تعاون وتآخي مع الجامعات اليمنية

مما لا شك فيه، أن معظم دول المجلس تعاني من نقص في عدد المواطنين وبالتالي في عدد الباحثين، وهذا يؤثر على توطين العلم الذي هو أساس لوجود نهضة علمية حقيقية والاستفادة من مخرجات العلم وتطبيقاته.

لليمن موقع خاص في وثائق الأمانة العامة لمجلس التعاون، ومما لا شك فيه أن اليمن والتي أنا شخصياً، أنصح بشدة لضمها بشكل كامل لمنظومة مجلس التعاون، اليمن عدا كل المميزات الأخرى، فإنها خزان بشري كبير يمكنه أن يسد ثغرة واسعة في منظومة مجلس التعاون الاجتماعية والعلمية، فلماذا لا يتم تآخي بين الجامعات الخليجية والجامعات اليمنية لرفع مستوى باحثيها وبالتالي يسدون نقص عدد الباحثين في جامعات دول المجلس؟ 

هذه بعض المشاكل التي يعاني منها المجتمع العلمي الخليجي أفراداً ومؤسسات والتي تقف، في رأيي، حجر عثرة أمام مسيرة نتمنى لها الصعود والشموخ الذي تستحقه.

وتوصيتي هي أنه يجب فتح باب الحوار ومناقشة هذه الأمور وغيرها بمصداقية وجدية داخل المؤسسات العلمية ووزارات التعليم العالي والتحدث بها مع ممثلي الحكومات ومجالس الشعب، وتحقيق التكامل والتعاون الحقيقي على مستوى مؤسسات هذه الدول، ومنها المؤسسة البحثية والمجتمع العلمي. فالعلم ومؤسساته لا يصح ولا يليق أن تبقى في الهامش، يقضى الأمر في غيابهم، ولا يستشارون وهم شهود…

وأخيراً..

تبقى الحكمة في قول القائل: ” تعلموا العلم للقيام به وليس للتحدث عنه”

فقد أصبح التظاهر في كل شيء أمراً مقززاً ومخجلاً بالفعل..   

وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نتعوذ من علم لا ينفع. وإهدار الوقت والحياة والمال فيما لا ينفع، حقاً، مصيبة كبرى.

موزة بنت محمد الربان

رئيسة منظمة المجتمع العلمي العربي

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى