علاج الشلل بشريحة كمبيوتر BCI يتم زرعها فى الدماغ
في عام 2010، تعرض “إيان بوركهارت”، البالغ من العمر 28 عامًا، لحادثٍ أليمٍ أثناء ممارسة رياضة الغطس، ما ألحق أضرارًا جسيمة في حبله الشوكي جعلته مشلولًا وحبيس الكرسي المتحرك مع حركةٍ محدودةٍ فقط في مرفقه وكتفيه. بيد أنه سرعان ما طوع التكنولوجيا لصالحه. حيث تم زرع شريحة كمبيوتر في دماغه. وتعتبر حالة “بوركهارت” هي المرة الأولى التي يتم فيها استعادة كل من الوظيفة الحركية والشعور باللمس باستخدام شريحة كمبيوتر BCI تم زرعها في الدماغ وذلك من قبل باحثين في منظمة Battelle، وهي منظمة خاصة غير ربحية متخصصة في التكنولوجيا الطبية.
ونظام واجهة الدماغ والحاسوبBrain-Computer Interface (BCI) والذي يوضع على سطح الدماغ هو عبارة مجموعة من الأقطاب الكهربائية والذي يقوم بتسجيل الإشارات العصبية التي ترسلها مناطق الدماغ المسؤولة عن إدراك وتوليد الكلام، والذي يتم فك تشفيرها بواسطة جهاز كمبيوتر متصل بالجهاز. ولذلك يمكن استخدام هذا النظام في ترجمة أفكار الأشخاص المصابين بالشلل إلى الكلام.
وكانت إصابة الحبل الشوكي لبوركهارت قد قطعت تماماً الإشارات الكهربائية التي تنتقل من دماغه إلى يديه عبر الحبل الشوكي. فكانت الفكرة التي راودت الكثير وحققها الباحثون تدور حول إمكانية تخطي الحبل الشوكي عن طريق ربط قشرة المحرك الدماغ باليدين وذلك عن طريق إرسال إشارات الدماغ من الحركة واللمس من منفذ في الجزء الخلفي من جمجمته إلى جهاز كمبيوتر ليقوم البرنامج الخاص بفك تشفير الإشارات وتقسيمها بين الإشارات المقابلة للحركة واللمس على التوالي ثم إرسال كل من هذه الإشارات إلى كم من الأقطاب الكهربائية حول ساعد بوركهارت ليشعر بها وينفذها.
وفي البداية، شهد الفريق بعض النجاحات الأولية فيما يتعلق بالحركة والذي كان يمثل الهدف الأولي من استخدام نظام BCI مما سمح لبوركهارت بالضغط على الأزرار على عنق وحدة تحكم الجيتار. ثم انتقلوا لتحقيق الهدف الثاني من تطبيق نظام BCI وهو الشعور باللمس. وقد تم اختبار ذلك باستخدام جهاز اهتزاز بسيط أو “نظام لمسي يمكن ارتداؤه”، تمكن بوركهارت من معرفة ما إذا كان يلمس شيئًا أم لا دون أن يراه. وبالفعل نجحت المحاولات أخيرا وشعر بوركهارت بحركة اللمس .وبالطبع لم تكن حاسة اللمس لديه طبيعية، ولكنها بالتأكيد أفضل بكثير من عدم وجود أي احساس. وقد كانت لحظة سعادة فارقة في حياة بوركهارت شعر عندها أنه ولد من جديد. ومن هنا نرى أن الإنسان يولد كل يوم ألف مرة بل أنه يولد كلما استخدم إحدى حواسه التي وهبها الله له كل مرة يستخدمها بطريقة طبيعية . فما بالنا باستخدام جميع الحواس التي لا نقدر قيمتها بل ولا نشعر بقيمتها إلا إذا لا قدر الله تعطلت ولو لثوان فما بالنا لو تعطلت على الدوام . حينئذ تكون إعادة تشغيلها ولو بنسبة 10% ولو لوقت قصير حلم من الأحلام الذي لو تحقق لحمد المريض الله ملايين المرات كل مرة يستخدمها . فعلينا أن نحمد الله على نعمائه ليس فقط الحواس ولكن كل مامنحة لنا من نعم داخل أجسامنا وتعمل بتلقائية وبأوامر سواء كانت إرادية أو لا إرادية منا لنزاول حياتنا ونستمتع بها.
ومن المعروف أن إصابة العمود الفقري تؤدي إلى عرقلة إشارات الدماغ التي تخبر الأطراف بالتحرك وكذلك إشارات ردود الأفعال الحسية من الأطراف إلى الدماغ. وفي حالة بوركهارت، كانت شدة إصابته تعني أنه كان يجب أن يكون هناك انفصال كامل بين دماغه وذراعيه وساقيه. لكن التجارب الحديثة في علم الأعصاب تشير إلى أنه في العديد من إصابات الحبل الشوكي “الكاملة” – ربما ما يصل إلى نصفها – تبقى بعض الألياف الشوكية التي من الممكن استخدامها في أن تبعث إشارة معقولة إلى الدماغ. ولكن وللأسف فإن الإشارات الكهربائية المقابلة للمس والحركة التي تنتقل من وإلى الدماغ تكون أضعف من أن تجعل الشخص المشلول يشعر بها، فلا تتحرك ذراعه.
ولذلك فإذا أمكن استخراج تلك الإشارات الضعيفة من الدماغ، وفك تشفير معانيها، ونقلها إلى الأطراف بطريقة غير مباشرة (عن طريق جسر صناعي)، حينئذ قد يصبح من الممكن تجاوز العمود الفقري وإعادة توصيل الدماغ والجسم. وقد قام الباحثون بالفعل بإثبات ذلك حيث تمكنوا من استعادة الحركة بساعد بوركهارت باستخدام يد روبوتية عن طريق تحفيز دماغه مباشرة. ولكن التحدي الكبير كان هو كيفية قيام اليد الروبوتية بذراع الشخص بكلا من نشاط الحركة واللمس في نفس الوقت مثل مايحدث بصورة طبيعية في الدماغ. والسبب وراء هذا التحدي يكمن في أن إشارات اللمس والحركة تختلط معا في الدماغ حيث تولد كل حركة أو لمسة إشارة متفردة. وعند تطبيق ذلك على شريحة الكومبـيوتر الموجودة في رأس بوركهارت فإنها من المفترض أن تستقبل حوالي 100 إشارة مختلفة في كل مرة مطلوب تحويلها أفكار تتعلق بالحركات واللمس شبه الإدراكي، وهو ما يمثل تحديًا كبيرا.
وللتغلب على هذا التحدي، استخدم الفريق البحثي أسلوبا متقنا يربط دماغ بوركهارت بالكمبيوتر. حيث ترسل الرقاقة الموجودة في قشرة دماغه إشارات كهربائية من خلال منفذ في الجزء الخلفي من جمجمته، والتي يتم توصيلها عبر كابل إلى جهاز كمبيوتر. وهناك، يقوم برنامج حاسوبي بفك تشفير إشارات الدماغ ويفصلها إلى إشارات تتوافق مع الحركات والإشارات المقابلة لإحساس اللمس ثم توجيه الإشارات التي تمثل الحركات إلى كم من الأقطاب الكهربائية ملفوفة حول ساعد بوركهارت وفي نفس الوقت يتم توجيه إشارات اللمس إلى شريط اهتزاز حول ذراعه.
كان الهدف الأول للفريق البحثي هو استعادة الحركة في ذراع بوركهارت دون الإحساس باللمس. وبالفعل نجحوا في ذلك ولكن التقدم كان بطيئا في البداية حيث تطلب من بوركهارت أن يتعلم كيف يفكر في تحريك ذراعه لتوليد إشارات كهربائية يمكن التقاطها بواسطة الكمبيوتر. وعلينا أن نتذكر أن مجرد تفكير المريض في القدرة على فتح يده وإغلاقها هو بالتأكيد أمر صعب، لأن الإنسان السليم لا يقدم على التفكير أبدًا في ما يفعله لجعل يديه تتحرك. ولكن ولحسن حظه وبالتدريب المستمر ونتيجة لإرادة بوركهارت وإرادة الفريق البحثي، فقد تم إعادة الحركة جزئيًا في يده في غضون عام. ولم يمض وقت طويل قبل أن يتحكم بما فيه الكفاية في ذراعه لتشغيل نسخة معدلة من الجيتار الذي كان يعشق العزف عليه والذي تم تعديله بطريقة تتناسب مع حالة بوركهارت. وفي هذه المرحلة كان الأمر بالنسبة لبوركهارت في امتلاك القدرة على تحريك الأشياء رائعاً وأشبه بمعجزة، بالرغم من أنه كان محدودا لغياب الشعور باللمس وهو أمر صعب حقًا، خاصة في حالة رغبة الشخص في الإمساك بشيء ما والقبض عليه والاحساس به الأمر الذي نفعله جميعا بدون إرادة، فما بالنا من التعامل مع الأشياء الدقيقة.
وبعد تحقيق الهدف الأول في استعادة بوركهارت القدرة ولو جزئيا على تحريك يده، بدا الفريق البحثي في التفكير في إعادة حاسة اللمس. ومع أن هناك محاولات سابقة نجح فيها علماء الأعصاب في إعادة إنتاج الإحساس باللمس عن طريق ترحيل البيانات من أجهزة الاستشعار في يد صناعية روبوتية إلى شريحة في دماغ المستخدم من خلال مدخلات معينة تتناسب مع إشارة اللمس ومكانها في قشرة الدماغ، إلا أنه كان من الصعب تطبيقها على حالة بوركهارت. والسبب هو أن نظامBCI الذي أعده الفريق البحثي له لم يتم تصميمه لهذا النوع من المدخلات. كما أن شريحة الكومبيوتر التي تم زرعها في دماغ بوركهارت تم تثبيتها في القشرة الحسية الجسدية، والتي تعتبر “جارا صاخبا” في حالة استخدام هذا المكان أيضا لإثارة الإشارات الفريدة المقابلة للمس. ولكن كان لا بد من فعل شيء ما لنجاح التجربة.
ومن أجل ذلك بدأ الفريق البحثي في القيام بتحفيزات مستهدفة على الإبهام والساعد في يد بوركهارت، وهي أجزاء من أطرافه التي لا يزال لديه إحساس ضعيف جدًا فيها بحاسة باللمس. وبملاحظة تغير إشارات الدماغ عند الضغط على أصابع بوركهارت ويده، تمكنوا من تحديد إشارات اللمس الضعيفة أثناء توليد إشارات الحركة الأقوى بكثير. وهذا يعني أن برنامج الكمبيوتر يمكن أن يقسم الإشارات القادمة من نظام BCI بحيث تنتقل إشارات الحركة إلى الأقطاب الكهربائية حول الساعد ولمس الإشارات إلى شارة على ذراعه العليا والتي كانت أحد الأجزاء القليلة في جسده التي لا تزال تشعر بإحساس كبير بعد الحادث. وهذا يعني أن إشارات الضغط الضعيفة التي تنتقل من يده إلى دماغه يمكن تحويلها إلى اهتزازات تجعله يشعر بـأنه يلمس شيئًا ما. ومن خلال الاختبارات والتدريبات المتواصلة، أصبح بوركهارت يستطيع معرفة متى كان يلمس شيئًا بدقة شبه كاملة، حتى لو لم يتمكن من رؤيته.
وبعد نجاح الفريق البحثي في إعادة حاسة الشعور باللمس بالتزامن مع الحركة، قاموا بتطوير شريط اللمس الذي كان في البداية عبارة عن جهاز اهتزاز بسيط متقطع. فقد قاموا بتحسينه بشكل أكبر بحيث يغير اهتزازه بناءً على مدى قبضة بوركهارت لأحد الأشياء الصلبة أو الناعمة. إنها تشبه الطريقة التي يشعر بها المستخدمون لأجهزة التحكم في ألعاب الفيديو والهواتف الخلوية. وبالطبع استغرق الأمر بعض الوقت للتعود حيث أن الأمر غريب بالتأكيد على المريض في البداية. ومع أن الشعور بحاسة اللمس يكون غير طبيعي، لكنه بالتأكيد أفضل بكثير من عدم وجود أي إحساس للجسد بالأشياء .
وبعد أن أثبت الفريق البحثي نجاح التكنولوجيا على يد بوركارات في المختبر، كانت الخطوة التالية هي تحسين النظام للاستخدام اليومي. فقد قاموا بالفعل بتقليص الإلكترونيات المستخدمة في النظام إلى صندوق بحجم شريط فيديو VHS يمكن تركيبه على كرسي متحرك للمريض. كما تم تقليل نظام الأقطاب الكهربائية الضخم إلى كم يسهل حمله نسبيًا. وبالفعل، استخدم بوركارات النظام المطور لأول مرة في المنزل، وسيطر عليه من خلال جهاز مزود بشاشة .
ومن المنتظر تطوير تطبيقات الجيل الحالي من نظام BCIفي المستقبل ليشمل إعادة الكلام لدى الصم وذلك من خلال إنشاء مسار مماثل لإشارة الدماغ إلى الكلام ليس لإعادة القدرة على الكلام في المراحل الاولى من التكنولوجيا ولكن على الأقل لجعلهم قادرين على التعبير لمقدمي الرعاية بأشياء بسيطة ولكنها مهمة مثل الجوع والعطش والألم. كما أن هذا النظام من الممكن أيضًا أن يساعد الأطباء في تحديد ما إذا كان الأشخاص المصابين بالغيبوبة مستيقظين ومتجاوبين أو نائمين في أي وقت معين. وبالفعل فقد نجح نظام BCI في إسراع الإشارة بين الدماغ والمخ الحاسوبي الطبي والذي تم اختباره على المتطوعين الذين يخضعون بالفعل لجراحة دماغية للصرع الشديد.
والمشكلة الرئيسية التي تواجه نجاحات شريحة الدماغ الحاسوبية أنها تزرع جراحياً في الدماغ، الأمر الذي قد يؤدي إما إلى إحداث تلف في الدماغ أو رفض الشريحة من قبل الجهاز العصبي. ولذلك فقد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن ترى هذه الأنواع من الأنظمة استخداما واسع النطاق بين المصابين بالشلل الرباعي. ولكن إذا ما تم حل مسألة توافق غرس الشريحة مع الدماغ في يوم من الأيام، ستحقق جراحات غرس BCI نجاحا باهرا . وينتظر المستقبل تطويرا أكثر في استخدام شريحة نظام BCI من خلال إعداد تكنولوجيا لا تتطلب جراحة، وقد يكون ذلك بإستخدام نوعا خاصا من الجسيمات النانوية لإرسال الإشارات لاسلكيا من وإلى الدماغ. ونرجو أن يحدث ذلك في المستقبل القريب .
وهنا نرى أن ما فعله الفريق البحثي لبوركارات يشبه المعجزة التي تعيد الأمل لإنسان كان قد فقد الأمل في تحريك ولمس الأشياء ولو بنسبة ضئيلة .وهنا تتجلى أهمية تطوير الأجهزة التي تعمل على تحسين حياة الأشخاص الذين يعانون من إصابات في النخاع الشوكي، لتكون أكثر فاعلية للقيام بذلك. ولكن لن تكون أي من هذه التكنولوجيا ممكنة بدون فرق بحثية تمتلك تخصصات متباينة ومتكاملة Trans disciplinary Research Team تتبناها مؤسسات خيرية مثل منظمة Battled التي لا تهدف إلى الربح ولكن لخدمة حقيقية للمرضى من خلال علم حقيقي. وأيضا، لن تنجح هذه التكنولوجيا إلا بوجود أشخاص مثل بوركارات يتطوعون لإظهار ما هو ممكن ولديهم الإرادة والعزيمة في جعل الأمر ممكنا من أجل الأمل في مستقبل أفضل.
وهكذا يعلمنا المرض تقدير الأشياء التي كانت تبدو لنا يوما ما بسيطة، فأصبحت بعد الحرمان منها أملا صعب المنال .ولكن بالعلم والأمل في الله تتحقق المعجزات.
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا – مصر