العربية.. لغة العلم والحضارة والحياة
رحم الله زمانًا كانت اللغة العربية فيه هي لغة العلم والحضارة والحياة على حد سواء، وكان لهذا التوحيد اللغوي أثره البالغ في نشر الثقافة العلمية على أوسع نطاق ممكن في المجتمعات الإسلامية شرقًا وغربًا، مع اختلاف ينابيعها من فارسية إلى هندية إلى سريانية إلى يونانية، وفي إشارة إلى هذه الحقيقة المهمة في تاريخ المسلمين، تقول المستشرقة الألمانية المعاصرة “زيجريد هونكه” في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب“: “لقد أضحت العربية لغة العلماء، بل لغة الشعوب التي دخلها الإسلام، وكانت لغة العلم وحدها، لا تنازعها تلك المكانة السامية أي لغة أخرى، لقد استطاعت العربية استيعاب جميع العلوم التي بلغتها الحضارات التي سبقتها.. مضيفة إليها علومًا جديدة بمصطلحات ومفاهيم جديدة، وبها كانت تؤلف الكتب، ويتحدث العلماء ويديرون الحوارات فيما بينهم مهما اختلفت أصولهم…”.
ثم تواصل حديثها قائلة: “ليست اللغة ثوبًا نرتديه اليوم لنخلعه غدًا، لقد وجدت العربية تجاوبًا من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعها، فكونت تفكيرهم ومداركهم، وشكلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية، فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهًا واحدًا مميزًا.. ومن ذا الذي يريد أن يخرج على لغة الجماعة؟”.
نعم.. رحم الله زمانًا ظهر فيه “أصحاب اللسانين” الذين يجيدون اللغة العربية ولغاتهم المحلية إجادة تامة، ومن ثم حملوا لواء الإسلام إلى جميع أهل الأرض، ونشروا مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه إلى جميع الأجناس بمختلف اللغات، فكان موسى بن سيار الأسواري مثلًا يوصف بأنه من أعاجيب الدنيا، لما اشتهر به من فصاحة وطلاقة في التحدث باللغة العربية واللغة الفارسية، يقعد العرب عن يمينه والفرس عن شماله، ويقرأ الآية من كتاب الله فيفسرها للعرب بالعربية، ثم يتجه إلى الفرس فيفسرها بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أفصح.
كذلك كان العلماء من الموالي يفضلون كتابة مؤلفاتهم بها، حتى إن أبا الريحان البيروني الذي أتقن عدة لغات أجنبية غير لغته الفارسية، صنف جل مؤلفاته باللغة العربية، ويؤثر عنه قوله: “إن الهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية“، ووصف أسلوبه العلمي بأنه أسلوب سلس خال من الالتواء، يخرج منه القارئ بثروتين: ثروة أدبية وثروة علمية.
كما امتدح البعض أسلوب محمد بن موسى الخوارزمي في كتابه “الجبر والمقابلة“، ووصفوه بأنه أسلوب أخاذ لا ركاكة فيه ولا تعقيد، ينم عن أدب رفيع وإحاطة بدقائق اللغة. وكان “روجر بيكون” الذي يعد من أهم دارسي علوم الحضارة الإسلامية وحامليها إلى الأجيال الأوروبية التالية كان يعجب ممن يريد أن يبحث في العلم والفلسفة وهو لا يعرف اللغة العربية، كما اعترف بأن الكتب العربية كانت مصدر العلوم في عصره، وأن كتابات أرسطو لم تفهم ولم تلق رواجًا في الغرب إلى أن أوضحتها كتابات الكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.
ولقد امتد تأثير اللغة العربية في اللغات الأخرى، ويحصي معجم “وبستر” للغة الإنجليزية آلاف الكلمات المأخوذة من اللغة العربية، منها عدة مئات فقط من الألفاظ المستعملة في الكتابة والأحاديث العادية، والبقية من الشئون الفنية.
وجملة القول: “إذا ما أردنا الإفادة من دروس الماضي فإن العودة بالعربية إلى سابق عهدها مرهونة بخوض تجربة مماثلة لتعريب العلوم المعاصرة باعتباره إحدى ضرورات النهضة العلمية التي تنشدها أمتنا العربية الإسلامية لاستئناف مسيرتها الحضارية، بالإضافة إلى اعتباره أهم متطلبات تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر، وحسبنا أنه ما من مدة من تاريخنا، كان للاستعمار فيها نفوذ أو سلطان في قُطر من أقطار أمتنا إلا وكان يسدد أول سهامه إلى اللغة لإضعافها وعزلها؛ فقد كانت أولى توصيات الحاكم الفرنسي لجيشه الزاحف إلى الجزائر: “علموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقيقة“، وليست توصية هذا الحاكم الفرنسي إلا ترجمة لتوصية سلفه المستعمر الفرنسي نابليون.
وفي المقابل، نجد الشعوب المستضعفة أحرص ما تكون على حماية لغاتها، فقد كان القائد الفيتنامي “هوشي مينه” يخاطب أبناء أمته قائلًا: “حافظوا على صفاء لغتكم بقدر حفاظكم على صفاء عيونكم، حاذروا من أن تضعوا كلمة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تضعوا فيه كلمة فيتنامية“.
إن لغتنا العربية من أهم معالم هويتنا ورصيدنا الحضاري، وهي لغة خطابنا الإسلامي المتجدد، وهي في الوقت نفسه أمضى أسلحة بقائنا أحياء وارتفاعنا إلى مستوى العصر. وصدق الله العظيم حيث يقول: “ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً” (سورة النساء ٢٠١).
د. أحمد فؤاد باشا
جريدة الخليج