العربية لغة العلم وبدائع الفكر الدولي
يقول د. حسين نصار: “إن أكبر تحدٍّ واجهته العربية كان عندما أخرجها الإسلام من جاهلية غنية كل الغنى في الإبداع الأدبي فقيرة كل الفقر إلى حد الإملاق في الإنتاج العلمي، ثم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون وكل صنوف المعرفة التي ابتكرتها الأمم المتاخمة للجزيرة العربية كالفرس والروم والسريان والمصريين، والأمم البعيدة عنها كالهنود والصينيين والأتراك والبربر وشعوب أسبانية.
ويواصل نصار في مقاله بمجلة تراثيات، العدد الخامس، ذو الحجة 1425 – يناير2005: “ولكن العربية ثبتت لهذا التحدي بفضل ما بثه الإسلام في العرب من رغبة في المعرفة وسعي في طلبها وطموح وعزم وتخطيط وتنفيذ وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب العارفة باللغات الأجنبية واللغة العربية، فلم يمض إلا وقت غير طويل حتى نقلت العربية كل ما وجدت عند هذه الأمم إليها، فاستطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهمًا، ولم يمض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار؛ فصار ما كتبه هؤلاء المفكرون والعلماء منذ القرن الثالث نبراسًا استضاءت به شعوبُ العالم القديم. لا يستطيع أن ينكر ذلك إلا منكر لعقله، منكر لشمس النهار الصحو، منكر لتاريخ الإنسان وتطوره الحضاري”.
العربية تستوعب كل العلوم
ويقول الدكتور محمد حسان الطيان: “هكذا انعتقت العربية من إسارها، وانطلق المارد من القمقم، لتشهد هذه اللغة حركة من الترجمة ما شهدتها لغة، فقد انطلق أهلوها يجوبون البلاد، ويتخيرون منها ما ألّفه الأوائل في علومهم المختلفة بشتى لغات المعمورة، الفارسية والهندية واليونانية والرومانية والنبطية.. وغيرها لتنقل إلى العربية، فإذا بالعربية تستوعب كل علوم الأوائل على اختلاف لغاتهم، حتى لقد وسم ذلك العصر بسمة هذه الحركة من الترجمة، فسمي عصر الترجمة الذهبي، وأقيمت للترجمة مؤسسات وبيوتات اشتهر منها بيت الحكمة، وتجاوزت معرفتهم باللغات حدود اللغات السائدة إلى اللغات البائدة، التي لم يبق منها إلا حروفها وباتت أبجديتها تستعمل في تعمية بعض العلوم المضنون بها على غير أهلها، ومن هنا أَنْ نَشَأَ علمُ التعمية واستخراج المُعَمَّى (الشفرة وكسر الشفرة) الذي أخرجنا فيه سفرين اثنين في هذا المجمع المبارك، ومن هنا أيضًا أن أُلِّفت كتب مفردة كشفت اللثام عن أبجديات اللغات القديمة وأقلام الأقوام المندثرة ككتاب “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام” لابن وحشية النبطي الذي نعمل على إخراجه ليكون الجزء الثالث من موسوعة علم التعمية واستخرج المعمى عند العرب إن شاء المولى سبحانه”.
العز اللغوي
ويقول العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه الرائع “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” عن العز اللغوي للأمة العربية: “خضعت للغتهم اللغات، ولثقافتهم الثقافات، ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى أقصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبناء أهلها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباءُ العرب ونقادُهم”.
وسجل كل من الدكتور محمد فارس في “موسوعة علماء العرب والمسلمين” لأبرز العلماء، وأرّخ لأفكارهم ونظرياتهم في مختلف العلوم الرياضية والطبية والكيميائية والفلكية وصناعة الأدوية. والدكتور عبد السلام السيد في “موسوعة علماء العرب” الذي أرخ لأشهر علماء العرب وإنتاجاتهم في الطب والصيدلة والرياضيات والفلك والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء. ولازالت أسماؤهم مخلدة في ذاكرة الأمة بسبب إنتاجاتهم ومجهوداتهم في مختلف العلوم. فَمَنْ مِنَّا لا يذكر ابن سينا، والبخاري، والبيروني، والزهراوي الأندلسي، وابن النفيس الدمشقي، وأبو القاسم الأنطاكي، وأبو الخير الإشبيلي الشجار، وأبو بكر الرازي، والشريف الإدريسي المراكشي، والخوارزمي العراقي، وابن الهيثم البصري؛ وقد صنفت فيهم المصنفات، وألفت بسببهم الموسوعات، وأنجزت عنهم دراسات وأبحاث في الشرق والغرب”.
العربية والمصطلحات العلمية
وفي السياق ذاته يقول عبد العزيز بنعبد الله: “… وقد اتجه اقتباس أوروبا من العربية نحو الميدان العلمي، فدخلت إلى اللغات الأوربية كثير من المصطلحات العربية مثل الكحول والاكسير والجبر واللوغريتم. وقد استمد الإسبان – حسب ما قرر “ليفي بروفنصال” – معظم أسماء الرياحين والأزهار من العربية.
ومن جبال البرانس انتقلت مصطلحات العلوم الطبيعية إلى فرنسا مثل البرقوق والياسمين والقطن والزعفران. ومجموع مصطلحات الزي هي كذلك من أصل عربي؛ كما تحمل الحلي في إسبانيا أسماء عربية. ويتجلى التأثير نفسه في الهندسة المعمارية. وبالجملة، فقد استمدت إسبانيا وبواسطتها أمريكا اللاتينية من اللغة العربية الشيء الكثير من مقوماتها اللغوية ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
وقد دعا “فولفنسن” في كتابه “تاريخ اللغات السامية” المشارقة المتكلمين بلغة الضاد إلى درس فقه اللغات السامية للاقتناع بعظمة أجدادهم وبالدور الذي قاموا به في حضارة العالم القديم، ثم أكد أن المستشرقين الذين نددوا بالعروبة وبالإشعاع العربي لم يهدفوا إلا لغايات دينية واستعمارية.
وقد عبر الأستاذ ماسينيون عن الفكرة نفسها قائلًا: “إن المنهاج العلمي قد انطلق أول ما انطلق باللغة العربية ومن خلال العربية في الحضارة الأوروبية”.
ثم استطرد: “إن العربية استطاعت بقيمتها الجدلية والنفسية والصوفية أن تضفي سربال الفتوة على التفكير الغربي؛ كما أنعشت “ألف ليلة وليلة” في القرن السابع عشر الميلادي ذهنية أوربا التي أتخمتها أساطير الإغريق والرومان”.
وقد ختم ماسينيون وصفه الرائع قائلًا: “إن اللغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر في الميدان الدولي، وإن استمرار حياة اللغة العربية دوليًّا لهو العنصر الجوهري للسلام بين الأمم في المستقبل”.
وهكذا يمكن القول بأن اللغة العربية انتشرت في العالم من قبل، وذيوعها في بلاد المشرق وفي أفريقيا قد تم في كنف الحضارة الإسلامية.