عبدالقادر حميدة.. حياة حافلة بالإبداع في ميادين الأدب والثقافة والشعر والرسم
فى مثل هذا اليوم وتحديداً يوم 30 يناير 2016, رحل عن عالمنا الكاتب الكبير الفنان الشاعر القصاص الناقد المترجم الرسام الخطاط عبد القادر حميدة, ابن محافظة البحيرة, بعد حياة حافلة بالإبداع والعطاء في ميادين الأدب والثقافة والفن كاتباً وشاعراً وقصاصاً وناقداً ومترجماً وخطاطاً ورساماً وصحفياً لامعاً. شارك بقلمه وموهبته وجهوده في تأسيس وإدارة عدد من المجلات الثقاقية المرموقة في عالمنا العربي بدءًا من عمله بمجلة التحرير وجريدة الجمهورية في الخمسينيات الماضية ثم بدار الهلال والإذاعة والتليفزيون ثم مجلة الدوحة بقطر ثم الحرس الوطني بالسعودية ثم رئيساً لتحرير منشورات مركز التراث المسرحى.
يقول عنه الشاعر الطبيب “نصر عبد القادر” : “ولد أديبناً الكبير في نوفمبر سنة 1929 في قرية شرنوب التي تبعد عشرة كيلومترات عن مدينة دمنهور عاصمة البحيرة … نشرت قصائده وقصصه ومقالاته في العديد من المجلات والصحف المشهورة, وأصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان (على مسرح الحياة) وهو لم يزل طالباً بمدرسة التعاون الثانوية بدمنهور”.
توالت الإبداعات الأدبية للراحل عبد القادر حميدة, فصدرت له المجموعة القصصية (رغم كل شيء) سنة 1963 ثم (أحلام الزورق الغريق) ديوان شعر 1967, (ليال مسرحية) كتاب في النقد المسرحي, ديوان (القتاع والوجه القديم), ديوان (ليالي الغضب), (ذكريات على الشاطئ), (أوراق بدون ترتيب) في الأدب والفن والحياة, مسرحية (من أجل الشعب) مترجمة عن الإنجليزية, (عاشق من مونت كارلو) قصص قصيرة مترجمة … وغيرها .
ذكريات البيت القديم
“جميل إن تتفتح عيناك على الحياة فتجد في دائرة الأسرة شخصية لها كل هذه الجاذبية والبريق .. أودع الله سبحانه في شخصه مجموعة من المواهب, وحباه بملكات قلما تتوفر لإنسان واحد”.. يقول د. نصر عبد القادر “فهو رسام لا يشق له غبار ,وخطاط عربي متمكن ,وموسيقي مرهف الحس والأنامل .. رائق الصوت جياش النبرات .. وشاعر يسيل رقة وعذوبة .. وكاتب قصاص يلتقط أدق الخلجات فينسج منها عملاً إبداعياً شائقا .. هو بحق “جعبة مواهب” كما كان يروق لأبي – الذي هو خاله – أن يطلق عليه .. وكان كلما طالع لوحة جميلة للأستاذ عبد القادر يقول عنه في تعليق شبه ثابت ” عينه فوتوغرافيا”.
يستطرد د. نصر : “بعيون طفولتنا كنا نرى في “الأستاذ عبده ” – هكذا وعت أسماعنا الصغيرة اسمه – مثالاً باهراً للشاب متعدد المواهب والقدرات .. له حضوره الفريد وله سمات النجوم في وسامته وأناقته وجاذبيته ..
شاب توفرت له مقومات النبوغ والتألق وهو بعد في عشرينيات عمره .. نسمع صوته في الإذاعة .. ونقرأ اسمه في المجلات .. ينشر مقالاته في مجلة الرسالة .. مزاحماً بقلمه الشاب وموهبته الأصيلة تلك القامات الشامخة فيها ليأخذ مكانه بينهم ..وينشر له صاحب الرسالة الأستاذ أحمد حسن الزيات مقالاته ملقبا إياه بالأستاذ .. وكم كانت دهشة الأستاذ الزيات – كما حكى لي الأستاذ عبد القادر – عندما لقيه في القاهرة بعد سنوات وعلم أنه لقبه بالأستاذ وهو لم يزل طالبا بالمرحلة الثانوية ..
كان بيتنا في دمنهور يقع على طريق القوافل .. أى الأقارب والبلديات القادمين أو المارين بدمنهور فى طريقهم من وإلى الريف .. بيت أشبه بالخان .. لا يكاد يمر يوم دون زوار أو ضيوف, وعلى كثرتهم واختلافهم يبقى لحضور “الأستاذ عبده” مذاقه الفريد وجوه الخاص .. نلتف حوله فرحين مسرورين .. يتحول البيت إلى احتفالية بهيجة .. ولما كنت الأصغر في أبناء خاله فقد كان لي النصيب الأوفى من هداياه اللطيفة .. لا أنسى الآوراق والأقلام والآلوان التي كان يختصني بها .. كان يرسم لنا صورا لطيفة .. أو ينجز اللوحات المدرسية المؤجلة لأخوتى ليتباهوا بها.. قد يسمعنا نغما شجيا على أوتار عوده .. أو نتحلق معه حول المذياع لنسمع صوته الشجي مترنما بإحدى قصائده من إذاعة الإسكندرية .. أو يسرد علينا قصة أخاذة من قصصه الشائقة, وهو الحكاء البارع والمحدث الجذاب الذي لاتفارقه روح المرح والدعابة, ولو كان أديبنا الموهوب قد وظف روح الدعابة العالية لديه لكان واحدا من ألمع كتاب الفكاهة الراقية”.
خلق فناناً
خلق فناناً, هكذا يؤكد د. نصر عبد القادر عن الراحل عبد القادر حميدة “دعني أنقلك إلى أمسية من أمسيات شتاء 1956 إبان العدوان الثلاثي الغاشم على مصر.. وقد احتشد في بيتنا لفيف من أقاربنا الذين نزحوا من القاهرة .. النوافذ مغطاة باللون الأزرق, والأصوات تختلط وتتشابك .. بينما لاذ هو بالصمت, واستغرق مكبا على أوراقه وقلمه الفحم ليخرج لنا بعد دقائق بلوحة رائعة بالغة التعبير صور فيها (ستي الحاجة فاطمة) .. العجوز الصامتة.. أكبر الحاضرين سنا .. وشقيقة الإمام الشيخ محمد عبده .. بتجاعيد وجهها المعبرة, ونظرتها الذاهلة الشاردة في فراغ لانهائي”.
يستطرد د. نصر “ذلك الفنان الذي تتلبسه روح الفن وتملك عليه كل جوارحه ولد فنانا .. فعندما أراد الصبي الصغير أن يعلن ثورته واحتجاجه على قسوة فقيه الكتاب بقريته لم يجد إلا سلاح الفن .. رسم الفقيه على أحد جدران القرية وهو يضرب طفلا من تلاميذه .. ولم تلبث هذه الجدارية الساخرة أن صارت حديث القرية كلها ومثار تندرهم .. ولم يعتب فتانا بعدها باب هذا الكتاب أبداً”.
يضيف د . نصر “من خلاله ترددت في بيتنا أسماء شباب الأدباء والشادين في الفن في دمنهور, وعرفت أقدامهم الطريق إلى بيتنا .. أذكر منهم صديقه الحميم الشاعر فتحي سعيد, والزجال الموهوب البائس حامد الأطمس, والكاتب القصاص المحامي صبري العسكري .. ولاأنسى الفولى خطاب عازف العود الملحن, وصاحب صالون الحلاقة.. ولا المطرب الدمنهوري الحزين أحمد حسبو “..
قالوا عنه
يقول صديقه الشاعر محمد الجيار في إهداء إليه: (إلى ماسة الفن التي تتألق في أكثر من لون…).
ويشهد له الأستاذ مصطفى أمين صاحب مدرسة أخبار اليوم الصحفية بأن أسلوب عبد القادر حميدة من أجمل الأساليب في الصحافة العربية ..
ويحتفي الأستاذ عباس العقاد بمجموعته القصصية “رغم كل شيء” ويكتب عنها مشيداً بكاتبها ..
أما رفيق رحلته الشاعر فتحي سعيد فيقول عنه في تقديمه لديوان “أحلام الزورق الغريق “:
“وتر من أوتار قيثارة تركتها الريح على قارعة الليل .. وتر مشدوه دائما, ومشدود إلى ضلوع غائرة …” كاشفاً عن أعماقه وجذوره وثورته بهذا الأسلوب الشاعري المكثف ..
ولعل ماخطه الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش بحساسيته الفائقة ونظرته النقدية الثاقبة في مقدمة ديوان “ليالي الغضب” بمثابة غزلية ضافية قطرت معانيها ونسجت خيوطها من مزيج المحبة والأعجاب والتقدير لشخصية وإبداع عبد القادر حميدة.
ومن النوادر الطريفة ذلك الحفل الذي أقامه ناظر المدرسة الثانوية المربي الكبير عمر كامل الوكيل ودعا إليه كوكبة من رجال التربية والتعليم في دمنهور وقدم إليهم الطالب عبد القادر قائلا: “هذا هو تلميذي الذي كتب عني في مجلة الرسالة وهذا الحفل على شرفه”.
فارس أدب الرسائل
قد لا يعرف القراء كل جوانب الإبداع في شخصية عبد القادر حميدة من هذه الجوانب المجهولة رسائله إلى أصدقائه وخاصته ومحبيه وأزعم أنه واحد من فرسان أدب الرسائل المعدودين في هذا العصر وفي أحد الأحراز القابعة في مكتبتي أحتفظ بمجموعة من رسائله كثير منها تجاوز نصف القرن من العمر وبعضها يتعدى خمس صفحات وهي ليست رسائل عادية بل هي قطع من الأدب الرفيع نمقها بخطه الأنيق الرشيق.. موزعاً جمله ومقاطعه ونقاطه في تشكيل بصري له تأثير اللوحة الفنية..
إنها لون أدبي متميز ونافذة عبر من خلالها عن فلسفته ونظرته إلى الحياة وموقفه منها, وحين يلمس مشكلات الواقع فإنه يتجاوز الخاص إلى العام محلقا في آفاق الدلالات والقيم الكامنة والمعاني المستمدة في أسلوب غاية في السلاسة والبساطة مفعم بالعواطف الجياشة والنبض الإنساني المتدفق.. إنها بالفعل ثروة أدبية قيمة وكم أتمني أن تسنح الفرصة وأن يجمع محبوه ما لديهم من رسائل وما لدي منها لإخراجها في كتاب خاص اعتزازاً وتعريفا بها ولولا خشية الإطالة لأوردت نماذج من هذه الرسائل الفريدة..
ختاماً.. هل لي أن أقول أنني كنت طفلا محظوظا؟ ذلك ما أعتقده تماماً وقد كان الأستاذ عبد القادر رافداً ثراً بالغ التأثير في صياغة وجداني وتوجيه ميولي فكنت واحدا من عشاق الفن والأدب.