سُمِّي الكويكب “شاهين 4103” نسبة إليه مصطفى شاهين.. عالم لبناني في “ناسا” وأسطورة عصر الفضاء
قالوا قديمًا “من آثارهم تعرفونهم”، ولكنّ الكثيرين منا جهلوا هذه الآثار فلم يدروا شيئًا عن مخترعها، وهو الشخص الذي أسهمت نشاطاته في إعادة كتابة علوم الفلك، وتحقيق انقلاب كامل في معرفة الكرة الأرضية والكون.
استطاع الدكتور مصطفى شاهين أن يجمع بين المسئوليات العلمية والإدارية، والعلوم النظرية والتطبيقية، فهو الذي طوّر الطريقة الحسابية لقياس حرارة وتركيب مناخ كواكب الأرض والزهرة والمريخ والمشتري، وهو من ترأّس اللجنة العلمية الدولية التي تدرس دورة الطاقة والمياه في الكرة الأرضية، وهو من صمم القمر الصناعي الذي يرصد دورة الأمطار في الطبيعة.
مصطفى شاهين، عالم لبناني في مجال الفضاء، حصل على الدكتوراه في فيزياء الموائع سنة 1960 من جامعة بيركلي الأمريكية قبل التحاقه بمختبر الدفع النفاث التابع لإدارة الطيران والفضاء الأمريكية “ناسا”، حين كان برنامج غزو الفضاء الأمريكي في بداياته، فكان صاحب الدور الرئيس كباحث ومصمم ومطور ومحلل في كل تجارب الاستشعار عن بعد التابعة لـ”ناسا”.
ترأس د. شاهين في الفترة ما بين 1975 و1978 الدائرة الخاصة بدراسة الأحوال الجوية للكواكب، تلا ذلك رئاسته “لقسم علوم الأرض والفضاء” في مختبر الدفع النفاث، والذي لعب دورًا مهمًا في أحداث فضائية كبرى، في الفترة من عام 1978 وحتى عام 1986، وكان هو المسئول عن تأسيسه وإدارة الأنشطة المختلفة لباحثيه الذين قدر عددهم بـ 400 باحث، وتولى لمدة 17 عامًا منصب رئيس العلماء في مختبر الدفع النفاث الذي يعد من أهم مؤسسات الأبحاث في العالم.
كما ترأس أعلى هيئة علمية لدراسة دورة الماء والطاقة في الطبيعة “جيوكس GEWEX“، فضلًا عن إسهاماته في مشروع “أكوا” وهو قمر صناعي لدراسة المياه والمناخ على الأرض (يجدر بالذكر أن مصطفي شاهين هو من المؤمنين بوجود حياة عاقلة خارج الأرض)، وقد سمي الكويكب 4103 Chahine نسبة إليه (الدكتور شاهين اسمه بالإنجليزية Moustafa Chahine).
“حياة أخرى عاقلة”
يؤمن الدكتور شاهين بوجود “حياة أخرى عاقلة” خارج كوكب الأرض، استنادًا إلى عدة مبررات، أولها أن الأرض بالنسبة للكون بمثابة قطرة في محيط كبير، فليست الأرض سوى عضو في منظومة شمسية تتألف من مجموعة من الكواكب والتوابع التي تدور في فلك نجم واحد هو الشمس، وليست الشمس سوى نجم واحد من مليارات النجوم في مجرة “درب التبانة”، ودرب التبانة هي الأخرى واحدة من المجرات ضمن مليارات المجرات الموجودة في الكون، وبالتالي فالاعتقاد بأن الأرض وحدها قادرة على توفير ظروف الحياة لهو أمر ينبئ عن مدى “غرور” سكان هذا الكوكب، حسب اعتقاده.
وفي هذا الصدد يقول:” لعل وقفة بسيطة عند الحسابات العلمية التي أجريت حول هذا الأمر، والتي تقول بوجود 400 ألف حضارة شبيهة بحضارة الأرض في مجرتنا وحدها فقط لكفيلة بمحو هذه النظرة المغرورة”، ويستطرد: “إنه إذا كان عمر الأرض قد تجاوز 3 مليارات من السنين، بينما عمر تكنولوجيا الفضاء لم يتخط 100 عام فقط، فليس من المتوقع أن يكون البشر قد تمكنوا من صناعة وسائل اتصال تستطيع أن تصل إلى حضارات أخرى عاقلة في هذا الكون”.
ويرى العالم العربي أن الظروف الضرورية لقيام الحياة على الأرض قد تكون هي نفسها المطلوبة لنشأة الحياة في أي مكان آخر في الكون، ومن ثم تطورها إلى الأشكال الموجودة على الأرض في وقتنا الحالي.
وعلى خلاف التصور السائد عن العلم ومدى تطوره السريع يراه الدكتور شاهين بطيء الحركة، كثير التردد، براهينه غير قاطعة على الدوام، ويعتقد أنه على الرغم من أهمية العلم وقدرته على أن يلعب دورًا مهمًا في السياسة، فإن السياسة ما زالت هي الموجه للعلم وليس العكس، ويدلل على ذلك بحظر التدخين، فقد استمر الجدل حول مدى تأثيره على الصحة عقدين كاملين، بينما لم يحسم هذه القضية سوى القرار السياسي، وهو الأمر الذي يتكرر الآن مع ظاهرة التغير المناخي.
قمر شاهين
في عام 2002 فوجئ العالم بإطلاق أول قمر اصطناعي، أشرف على تصميمه وحدّد مهمته عالم عربي هو الدكتور شاهين، الذي اختار للقمر اسم “أكوا” ويعني “الماء” باللغة اللاتينية، ووافقت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” على الاسم الذي يعكس مهمة القمر الأساسية في جمع معلومات شاملة عن دورة المياه في الطبيعة، بما في ذلك المياه المتبخرة من المحيطات، وبخار الماء في الجو، والغيوم والأمطار والأنهار والثلوج، ورطوبة التربة وطبقة الجليد التي تغطي الأرض.
ويمثل القمر “أكوا” خلاصة المعرفة العلمية والتقنية للدكتور شاهين الذي شملت أبحاثه – خلال 40 سنة من عمله في وكالة “ناسا” – الأرض، والكواكب، والأجرام البعيدة. ويعد “أكوا” أحدث الأدوات العلمية لقياس دورة الحرارة في الأرض والطاقة الإشعاعية والرذاذ والغطاء النباتي لسطح الأرض والأعشاب والطحالب البحرية، إضافة إلى المواد العضوية في المحيطات وهواء الأرض ودرجات حرارة المياه، وسيرسم القمر المزود بستة أجهزة علمية أول خريطة عالمية تحدد التوزيع الأفقي لتراكمات غاز ثاني أوكسيد الكربون في جو الكرة الأرضية، وتجمع المعلومات عن درجات حرارة سطح الأرض والمحيطات، وارتفاع الغيوم وكمياتها، وأوضاع “الأوزون” والغازات الدفيئة، وتقيس الأجهزة درجة حرارة الغطاء الجوي إلى ثخانة تبلغ كيلومترًا واحدًا بدقة تبلغ درجة مئوية واحدة، كما يقيس درجة الرطوبة إلى ثخانة كيلومترين إلى حد 20%.
وبلغت تكلفة قمر “أكوا” نحو ربع مليار دولار، لكن المعلومات التي سيجمعها والاكتشافات العلمية التي سيقوم بها ستوفر للصناعة والزراعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى ما يعادل خمسة مليارات دولار في اليوم الواحد، فالقمر سيقفز بالتوقعات الجوية التي تبلغ حاليًا خمسة أيام إلى أسبوع، ويرصد نذر الكوارث الطبيعية قبل وقوعها، ويجيب على أخطر الأسئلة التي تهدد الحياة على الأرض.
والاسم العلمي لقمر “أكوا” هو “مسبار الرصد الجوي ما فوق الحراري”، ويرافق قمر شاهين قمران آخران يدرسان مناخ الكرة الأرضية، وتمثل الأقمار الثلاثة أكثر الأنظمة العلمية تقدمًا، وتتابع الأرصاد الجوية ومراكز البحوث حول العالم تحليل ودراسة النتائج التي يجمعها قمر شاهين.
ويعكس قمر “أكوا” القدرات الفذة للعالِم العربي؛ الذي جمعت نشاطاته بين المسؤوليات العلمية والإدارية، وممارسة البحوث العلمية النظرية والتطبيقية.
ابن العربية البار
رغم ابتعاد الدكتور شاهين لما يزيد عن 40 عامًا إلا أنه لا يزال متمسكًا بجذوره العربية، حريصًا على قراءة لغتها، وفي هذا الصدد يقول: “للعربية جمال خاص، فهي مبنية على أساس أربعة آلاف جذر من الأفعال، وقد انقطعتُ عنها سنوات طوال، ربما نشأت خلالها آلافٌ من الكلمات الجديدة، ومع ذلك أستطيع أن أعرف الكلمة الجديدة عن طريق ردها إلى جذورها بسهولة، هذا يجعلني أستمتع بالقراءة، لكنني مع ذلك لا أستطيع أن أستخدم الكلمات مباشرة مع أنني أقرأ العربية بشكل جيد، وأقرأ الصحف العربية التي أجدها في أكشاك باعة الصحف، كما أقرأ الرسائل التي تأتيني بالعربية مرتين، الأولى لأعرف محتواها، والثانية لأتذوق العربية”.
مصطفي شاهـين تزوج من الدكتورة “مارينا البندك”، وهي أستاذة في علم السياسة، أصلها من بيت لحم في فلسطين، وله منها ولدان، هما توفيق (طبيب عيون) وسليم (محام). وُلد شـاهـين عام 1935 في حي رأس النبع في بيروت في لبنان، وأكمل الدراسة الثانوية فيها قبل أن يلتحق بجامعة بيركلي في كاليفورنيا.