يمثل حوالي أربعة أخماس الغلاف الجوي للأرض.. النيتروجين، أزمة بيئية يجب الانتباه لها
لا يكاد أحد منا لم يسمع عن انبعاثات الكربون وآثارها في رفع درجة حرارة الأرض، وما يترتب على ذلك من تأثيرات مناخية وبيئية. ولكن، كم واحد منا سمع عن أزمة النيتروجين؟ إنها أزمة حقيقية نادراً ما يسلَّط الضوء عليها.
النيتروجين (N) ويسمى الآزوت في بعض الأحيان، عنصر يلي الكربون في الجدول الدوري، العدد الذري له 7، وهو في الوضع الطبيعي عبارة عن غاز عديم اللون والرائحة والطعم، ويمثل حوالي أربعة أخماس الغلاف الجوي للأرض، وتتواجد مركباته مثل النترات والنتريت وأملاح الأمونيا في الكثير من المواقع مثل الصخور والتربة وغيرها. وهو يدخل في تركيب جميع المواد الحية، ويمثل حوالي 16 بالمئة من وزن المركبات العضوية المعقدة المعروفة بالبروتينات والموجودة في جميع الكائنات الحية، وهو مكون أساسي للحمض النووي والجزيئات العضوية الأخرى.
وفي ضوء أهمية وجود النيتروجين في المادة الحية، فإن كل مركبات النيتروجين تقريبا، نشطة من الناحية الفسيولوجية. ولكن، لا تستطيع معظم الكائنات الحية استخدام النيتروجين بشكل مباشر ويجب أن يكون لديها إمكانية الوصول إلى مركباته. لذلك فإن عملية تثبيت النيتروجين ودورته مهمة للغاية.
هناك عمليتان رئيسيتان لتثبيت النيتروجين، إحداهما تأثير الطاقة الكهربائية على الغلاف الجوي والتي تؤين ذرات النيتروجين والأكسجين الموجودة فيه وتكوين أكاسيد النيتروجين بصيغ مختلفة. والعملية الأخرى لتثبيت النيتروجين الجوي هي ما تقوم به النباتات مثل البقوليات وبالتعاون مع البكتيريا الموجودة في التربة يمكن تحويل النيتروجين الجوي مباشرة إلى مركبات النيتروجين.
وهذه هي نصف دورة النيتروجين. ففي الوقت نفسه، تقوم بكتيريا أخرى بتنفيذ العملية بشكل عكسي، حيث تقوم بتفكيك المركبات المحتوية على النيتروجين في النباتات والحيوانات الميتة وإطلاق غاز النيتروجين مرة أخرى في الغلاف الجوي. في عالم خالٍ من التدخل البشري، فإن الدورة تتوازن تقريبًا.
سبحان الله خالق ومدبر هذا الكون العظيم والذي جعل الاتزان والتوازن فيه على دقة عالية، وأي خلل في هذا التوازن يعني كارثة. فالنظم البيئية تعمل بشكل طبيعي على تدوير النيتروجين من الهواء إلى التربة وخارجها. المشكلة هي أن هذه الدورة أصبحت الآن خارجة عن السيطرة بشكل خطير بسبب النشاط البشري، وهذه هي الأزمة التي نريد التنبيه لها في هذا المقال. فكيف حصل ذلك؟
يحصل الإنسان والحيوان على النيتروجين من الطعام الذي يأكله. ولدخول السلسلة الغذائية، يجب تحويل غاز النيتروجين الخامل نسبيًا الموجود في الهواء، أو تثبيته، إلى مركبات “نيتروجين تفاعلي” في التربة، والتي تمتصها النباتات، كما ذكرنا. ثم يأكل الإنسان والطير والحيوان تلك النباتات ويستفيد منها في بناء جسده وتسيير العمليات الحيوية فيه.
ولكن، على مدار القرن الماضي، أضاف الإنسان إلى التربة كميات ضخمة من مركبات النيتروجين الاصطناعية عن طريق إنتاج الأسمدة الاصطناعية بكميات ضخمة وأكثر من حاجة النبات ووضعها في الحقول. ينتهي الأمر بالكثير من النيتروجين التفاعلي إلى التسرب إلى البيئة الأوسع حيث يعطل التوازن الكيميائي الطبيعي. وبالتالي يتسبب ذلك في مشاكل بيئية خطيرة، على سبيل المثال، يتسبب تسرب النيتروجين التفاعلي (مركبات النيتروجين) إلى البحار في زيادة تكاثر الطحالب السامّة مثل ما يسمى “المد الأحمر”، والتي تقتل الحياة البحرية، ونفوق الكثير من الكائنات مثل الأسماك وغيرها. ليس هذا فقط، فإن آثار عدم الاتزان هذا يشمل قائمة طويلة من تلوث الهواء والإضرار بالتوازن الدقيق للغلاف الجوي، والأمطار الحمضية وتحمض التربة وغير ذلك. ويمكن أن نضيف هنا أن أحد ملوثات النيتروجين وهو أكسيد النيتروز، هو غاز دفيئة أقوى 300 مرة من ثاني أكسيد الكربون.
إذن، نحن بحاجة لوعي أكبر تجاه بيئتنا وآثار غاز النيتروجين عليها.
في الواقع، يعد تلوث النيتروجين من أشد الأزمات التي نواجهها. ولكن لحسن الحظ، هناك طرق يمكننا من خلالها إخراج أنفسنا من هذه الأزمة، وستشمل تغييرات شاملة في كيفية زراعة محاصيلنا.
لقرون طويلة مضت، لاحظ المزارعون أن النباتات تميل عمومًا إلى النمو بشكل أفضل إذا تم تجهيز التربة بالكثير من السماد الغني بالمغذيات. لذا قاموا بتشكيل هذا السماد الطبيعي، وزرعوا البقوليات التي مع البكتيريا التكافلية المثبتة للنيتروجين تحسن خصائص التربة، بالتناوب مع المحاصيل الأخرى.
بدأت المشكلة في أوائل القرن العشرين عندما ابتكر العالمان الألمان فريتز هابر وكارل بوش وسيلة صناعية لانتزاع غاز النيتروجين من الهواء وتحويله إلى أمونيا. ثم ولدت الأسمدة الاصطناعية الحديثة. تم الإعلان عن هذا في الأصل كقصة نجاح بسبب الطعام الإضافي الذي ساعدت على انتاجه، وأن إضافة الأسمدة القائمة على النيتروجين إلى التربة الفقيرة تمكن من إطعام ملياري شخص كانوا سيعانون من الجوع لولا ذلك…. ، ونحو ذلك.
والحقيقة أن عملية هابر، كما تسمى في الكيمياء، لها جوانب سلبية كبيرة عند إجرائها على المستويات الصناعية. فهي تستنزف كميات هائلة من الطاقة، وعلى المستوى العالمي، فإن عملية هابر مسؤولة عن 1 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، أي تقريبًا مثل المملكة المتحدة بأكملها. والأسوأ من ذلك، أن كل هذه الأمونيا الإضافية التي يتم إنتاجها قد أدّت إلى اختلال التوازن في دورة النيتروجين بشكل كبير.
إذن الفائدة التي يمكن الحصول عليها من الإفراط في استخدام الأسمدة الاصطناعية، سوف تتسبب بخسائر أضعاف مضاعفة. ويجب أن لا ننسى أن الكون والبيئة حولنا متشابكة كالجسد الواحد، وأن الكوارث البيئية التي يمكن أن نواجهها يعزز بعضها الآخر ولا يمكن فصلها عن بعض.
أربع طرق يضر بها النيتروجين كوكبنا
1. مناطق المحيطات والبحيرات الميتة
يمكن أن يغسل المطر النترات في المجاري المائية والمحيطات. يغذي هذا التلوث الناجم عن النيتروجين تكاثر الطحالب التي تمتص الأكسجين أثناء تحللها، مما يؤدي إلى اختناق الحياة المائية. والنتيجة هي “منطقة مائية ميتة”، حالياً، يوجد أكثر من 400 منطقة ميتة في محيطات العالم.
2. تلوث الهواء
تنبعث من السيارات ومحطات الطاقة أكاسيد النيتروجين، والتي تعد واحدة من السلائف الرئيسية لنوع من تلوث الهواء يسمى الجسيمات. يمكن استنشاق هذه الجزيئات الصغيرة إلى رئتينا، حيث تسبب تلف الأنسجة المرتبط بمجموعة من المشاكل الصحية.
3. تحمض التربة
يمكن لنفس النترات التي يمكن أن تتسلل إلى المجاري المائية سحب العناصر الغذائية الأساسية من التربة، بما في ذلك المغنيسيوم والكالسيوم. هذا يمكن أن يجعل التربة حمضية للغاية، بحيث لا تتمكن النباتات من تناول العناصر الغذائية بشكل صحيح.
4. ثقوب الأوزون
يمكن تحويل النترات الزائدة عن طريق البكتيريا إلى غاز أكسيد النيتروز. في الارتفاعات العالية، يتفاعل هذا مع الأشعة فوق البنفسجية ويقضي على طبقة الأوزون التي تحمينا من الأشعة فوق البنفسجية. من الصعب التراجع عن الضرر لأن أكسيد النيتروز له عمر افتراضي يصل إلى 120 عامًا.
وغير ذلك من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة.
ما هو الحل؟
يبدأ المخرج من هذه الفوضى بإدارة أكثر ذكاءً للأسمدة، وهو أسوأ مصدر لتلوث النيتروجين.
يقوم كثير من المزارعين بتزويد حقولهم بالأسمدة عدة مرات في كل موسم نمو. هذا يضمن عائدًا كبيرًا – ولكن أيضًا الكثير من نفايات النيتروجين.
- قد تكون ثورة الزراعة الدقيقة وسيلة للحد من نفايات النيتروجين، باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد، بالأقمار الصناعية أو الطائرات بدون طيار. تكمن الفكرة في استخدام الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار عن بُعد للحصول على صورة دقيقة عن حالة المحاصيل والتربة. هل هذا الركن من الحقل يحتاج إلى جرامات قليلة إضافية من النيتروجين؟ هل سيستفيد هذا الامتداد من القليل من الماء؟ مسلحين بهذه المعلومات، يمكن للمزارعين إعطاء كل منطقة بالضبط ما تحتاجه، أي لن يبقى فائض يمكنه التسرب للبيئة الأوسع مسبباً التلوث بمركبات النيتروجين.
- شركات ناشئة فكرت في الحل من زاوية أخرى، باستخدام البكتيريا. يمكن للبكتيريا العادية المثبتة للنيتروجين أن تشكل فقط علاقات تكافلية مع نباتات معينة، مثل فول الصويا والبقوليات. بعض الشركات تعيد هندسة هذه البكتيريا حتى تتمكن من التعامل مع محاصيل أخرى، مثل القمح. حيث يقوم المزارعون برش البكتيريا على البذور قبل الزراعة. بعد الإنبات، تعيش البكتيريا بشكل تكافلي مع جذور النباتات وتثبت النيتروجين في العناصر الغذائية التي يمكن للجذور امتصاصها. أجرت إحدى تلك الشركات تجارب ميدانية لنظامها في عام 2018 في 47 ولاية أمريكية، حيث قارنت الحصاد من الحقول المعالجة بمنتجاتها والأسمدة الاصطناعية العادية. أظهر هذا أن الحقول المعالجة بالبكتيريا تنتج محصولًا أكثر بحوالي 480 كيلوغرامًا للهكتار الواحد من تلك المعالجة بالأسمدة العادية.
والفكرة في ذلك أن الميكروبات تنتج النيتروجين في الوقت الذي يطلب فيه النبات هذا النيتروجين. والنتيجة هي أن النيتروجين يتم امتصاصه من التربة بسرعة أكبر، مما يترك مجالًا أقل للتسرب إلى المجاري المائية أو الهواء.
- وقد تكون الزراعة بدون تربة، والتي تزرع فيها النباتات تحت صوب وتزود بتمرير الماء الذي تضاف إليه نسب محددة من العناصر حسب حاجة النبات، وتضبط بواسطة الكمبيوتر أو يدوياً، قد تكون حلا أيضاً.
كل هذه الطرق ستقطع شوطا ما للحد من تلوث النيتروجين. لكن مزيج الإجراءات ستكون أكثر جدوى وفعالية في مكان معين؛ نوع التربة والعديد من العوامل الأخرى تحدث فرقًا، لذلك يجب دراسة كل حقل أو منطقة أو بيئة حسب معطياتها. في الوقت الحالي، الأمر متروك للمزارعين والحكومات لتحديد أفضل الطرق.
ماذا ينبغي علينا فعله في الوطن العربي؟
إذا كانت المشكلة تبدأ عند المزارع الذي يضيف للتربة كميات كبيرة فوق الحاجة من الأسمدة، إذن هو يحتاج للتوعية من جهة وإشراف الجهات المختصة من جهة أخرى. وأفضل من يقوم بهذا هو الجمعيات الزراعية.
- يجب على الجمعيات الزراعية تنظيم لقاءات وندوات وزيارات للمزارع وتوعية المزارعين بخطورة الإسراف في استخدام الأسمدة الصناعية، والمبيدات أيضاً، وتكثيف الحملات لإعادة استخدام وتطوير أساليب وصناعات الأسمدة الطبيعية العضوية من مخلفات الطيور والحيوانات والأشجار والمواد العضوية المختلفة. وهذا الأمر يحتاج أن تطور الجمعيات الزراعية نفسها من الناحية العلمية والفنية. وينبغي أن يكون هناك تعاون علمي بين الجمعيات الزراعية والجامعات ومراكز البحوث المختصة.
- يجب أن يساهم المجتمع العلمي في خدمة المجتمع والتنمية والصحة، ولابد من تطوير مختبرات تحليل التربة ودراسات النباتات المتنوعة وإجراء التجارب الحقلية، ومن ثمّ تزويد الجمعيات الزراعية والمزارعين بحلول متكاملة تحقق لهم الربح مع عدم الإضرار بالبيئة.
- إنشاء شركات تنتج وتقدم حلولاً علمية ابتكارية للمشكلة.
- إذا توفرت الإمكانيات المادية، يمكن تطبيق مشاريع تعتمد على الزراعة الدقيقة والتي سبق أن ذكرناها في الفقرات السابقة من هذا المقال.