هل يمكننا أن نلطف من درجات الحرارة في الخليج؟
يقول الكاتب إبراهيم الكوني: «أعجوبة الصحراء أنها تجدب وتقفر من النبت، وقد تموت أعوامًا كثيرة ولكنها لا تميت أهلها أبدًا». أعتقد أن إبراهيم الكوني واحد من أجمل من كتبوا عن الصحراء وجمالها وقوتها وجبروتها وضعفها وكل ما بين ذلك، وهو الذي قال: «مغرور حقًا من ظن أنه يعرف الصحراء، إنها سر كبير مثل المرأة». وأتفق معه في ما يقول، الصحراء سر وأعجوبة ووطن.
وطن ترتفع فيه الحرارة أحيانًا إلى درجات عالية، فتتعب قاطني هذه الصحاري، ليتردد صدى السؤال الأزلي: «هل باستطاعتنا أن نلطف من درجات الحرارة في الخليج؟».
باختصار: نعم، أعتقد أننا نستطيع أن نفعل ذلك باستخدام سبل مستدامة تضمن ديمومة المشاريع المخطط لها بهذا الصدد. وإذا أطلنا في الإجابة، فإنني أرى أن الأمر ينقسم لجزئين، جزء يتعلق بالصحراء المفتوحة وآخر يتعلق بالمدن ذاتها.
درجات الحرارة: صديقتنا اللدود
درجة حرارة المدن عادة ما تكون أعلى من المناطق المفتوحة، ويصبح الوضع أسوأ في المدن الموجودة في المناطق الصحراوية، ومن هذا المنطلق بات من الضروري النظر في الأشياء التي بإمكانها أن تتغير للأفضل لو فكرنا فيها بمنظور مختلف قليلًا.
تبدأ الأمور بالأشياء الصغيرة وارتباطها أيضًا بثقافة شعوب المنطقة، مثل ارتداء الملابس السوداء في النهار كالعباءات، والجلوس داخل سيارات قاتمة، ثم يتدرج الأمر ليصبح على مستوى المدن بشوارعها السوداء المعتمة التي تمتص حرارة الشمس نهارًا وتنفثها مع غروب شمس كل يوم، ناهيك بالتلوث الذي تسببه عوادم السيارات والبيوت والمصانع التي تطرد الغازات الدفيئة.
كان الخليجي في السابق يبني بيته من الحجارة والطين التي كانت تعطي للبيت صلابته، إذ أن لَبنات البناء لا تمتص حرارة الشمس القوية، على عكس الإسمنت المسلح الذي تُبنى منه البيوت الآن. كما أن المدن، وهو الأدهى، مبنية بطرق غير ملائمة لطبيعة الأرض التي بنيت عليها، فليس من الحكمة مثلًا أن تبني بيوتًا وشوارع فوق مجرى سيول، أو تبني مدنًا تقع على ممر أساسي لمرور الرياح في المدينة، دون إيجاد طرق عملية حكيمة للتعامل مع الرواسب السفوية (الغبار أو الرمال التي تحملها الرياح)، مما يخلق لدينا مشكلة السافي الأبدية، والتي تكلف الدولة مبالغ طائلة لإزالة تلك الأتربة عن الشوارع سنويًا.
أما في ما يتعلق بحرارة الشوارع، فمن الممكن أن تطلى الشوارع باللون الأبيض أو شيء شبيه بما طلت به لوس أنجلوس شوارعها، إذ أعلنت شركة «ARUP» المعنية بالهندسة المعمارية أن المدينة استخدمت طلاء خاصًا يدعى «CoolSeal»، أدى لانخفاض درجة الحرارة لما يقارب 6.6 درجة سيليزية.
دعونا نعترف أن شوارع مدننا ليست صديقة للمشاة. هل جربت السير في منتصف نهار أغسطس تحت الشمس لتنتقل من مكان لآخر على الأقدام؟ هل جربت الفرق بين حرارة الشمس تحتها مباشرة، أو تحت شجرة ظليلة؟
الفرق كبير لا شك، ولذا يجب ألا نكتفي بزراعة الشوارع، بل من المهم أيضًا زراعة الأسطح والحوائط (الحوائط المزروعة التي في حديقة الشهيد في الكويت كمثال) لتقليل الحرارة داخل المدن، وكذلك تقليل استخدام مكيفات الهواء داخل المباني ذاتها. هذا بالإضافة لأهميتها في الزراعات التجميلية والبيئية والإنتاجية، ودورها في تقليل درجات الحرارة.
اختلفت الدراسات والأرقام المتعلقة بقياس درجات الحرارة تحت ظل نوع واحد فقط من الأشجار في بعض مشاريع التحريج (التي تعتمد نظام استخدام الأراضي والتكنولوجيا المرتبطة بها لزراعة الأشجار حول المحاصيل الزراعية)، فتراوحت بين 0.1 و16 درجة سيليزية، في حين أنها تنخفض في المدن لتكون بين 1 و2 سيليزية، وذلك إما لتأثير الظلال التي تزودنا بها تلك النباتات أو بسبب عملية النتح، حين تُخرج الأوراق الخضراء الماء من ثغراتها الصغيرة أو يتحول لبخار ماء.
الجدير بالذكر أن درجات الحرارة تختلف باختلاف المكان والزمان ونوع النباتات المستخدمة لهذا الغرض، وهنا تأتي أهمية اختيار الوسائل والمواد في عملية تقليل درجات الحرارة، سواء كانت مواد البناء أو الأنواع النباتية الصحيحة لزراعتها داخل المدن وخارجها، وذلك لضمان استدامة المشاريع المقامة بهذا الصدد.
«تُزرع الأشجار في غير أماكنها كما يعمل الناس في غير أماكنهم»
في مجال اختيار النباتات، يجب ألا يُكتفى بالجملة الممجوجة «كفاية أنها نبتة تتحمل الحرارة والملوحة»، ثم تشرع الجهات المسؤولة في تنفيذ قرار غير مدروس بزراعتها كيفما اتفق في كل خرم إبرة «عمال على بطال»، ثم يليه قرار آخر غير مدروس بقلع كل ما زُرع دون أي دراسة مسبقة، ولا علم بالآثار المترتبة على القرار الأول ولا على القرار الثاني. تأتي هذه القرارات العشوائية بعد أن تكون الدولة صرفت مبالغ طائلة على العمالة والمياه والصيانة وغيرها، فتذهب هباءً منثورًا.
يجب اختيار النباتات المراد زراعتها بطريقة مدروسة، وتفادي أخطاء الماضي حين زرعنا كل شوارع الكويت بالكونوكاربس (Conocarpus)، التي من النادر أن نجد طائرًا يقف على أغصانها أو نرصد وجود نبتة أخرى تنمو بقربها، وهي التي طغت بكل عشوائية على الحدائق والمزارع والشوارع والبيوت وغيرها، دون حسيب أو رقيب ودون متابعة وثقية لعلاقتها بالبيئة التي زرعت فيها، مما تسبب بحسب مراقبتي الشخصية للموضوع في أضرار للبينة التحتية في كثير من الشوارع والبيوت وفتحات الصرف الصحي، ولسان حال كل صاحب بيت زرعها خطأ عند باب بيته «يا من شرا له من حلاله علة».
كان يكفي أن يحاول أي باحث صغير معرفة طبيعة هذه النبتة ليكتشف أنها من المانغروف (Mangroves)، أو «المنقروه» كما ينطقها أستاذنا الفاضل المؤرخ فرحان الفرحان. يعني بالعربي الفصيح هذا نبات يعيش على الشواطئ، وبالتالي من الطبيعي أنه كنبات وكأي كائن حي يسعى للحياة: أن يبحث عن الماء حتى لو اضطره الأمر لكسر أساسات بيتك. ما النبات البديل إذًا؟ لا توجد دراسات واضحة على حد علمي حتى الآن لتخبرنا بذلك، وهو ما نحتاجه بشدة.
يجب دراسة الأنواع الجديدة المراد إدخالها في المدن، والأمر ذاته في الزراعات المتعلقة بالصحراء المفتوحة. وتتفق مشاريع تخضير المدن ومشاريع إعادة التأهيل على الأهداف سابقة الذكر، غير أنها تختلف، ففي مشاريع إعادة التأهيل، من الواجب استخدام الأنواع الفطرية للمنطقة المعنية بالتأهيل ذاتها، كما أن هذه المشاريع (في المدن والصحراء المفتوحة) تجتمع أيضًا على أن أغلبها قائم بشكل عشوائي ومؤذٍ للإنسان والأرض على حد سواء، بالإضافة لمخاوف أن تتحول النباتات الدخيلة إلى نباتات غريبة غازية، ربما تكون شبيهة بمشاكل شجرة غاف المسكيت (Prosopis Juliflora)، التي تشتكي بعض دول الخليج من مشاكلها الصحية على الماشية والبيئات المعتدى عليها.
من الواجب التنويه إلى نقطة أساسية نفرق فيها بين زراعة الصحراء الصحيحة بكامل صحتها، والصحراء التي تدهورت أراضيها غالبًا بسبب تدخلات بشرية مسيئة.
لا بد من ملاحظة أن المشاريع المدروسة بطرق علمية وبحثية، والمختصة بتأهيل الأراضي المتدهورة التي فقدت الكثير من مكوناتها الأساسية، من تربة صالحة ونباتات وحيوانات فطرية وغيرها، وإعادتها لبيئتها الطبيعية، هي مشاريع رائعة وتصب في الصالح العام، في حين أن تخضير الأراضي الصحراوية السليمة تدخل فج، وتضييع لبيئات وكائنات حية، وخسارة فادحة لموروث طبيعي.
في مؤتمر حضرته في تونس منذ سنوات قليلة، سمعت الدكتور رفيق علي صالح، مدير المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد)، يقول بكل عفوية: «تُزرع الأشجار في غير أماكنها كما يعمل الناس في غير أماكنهم». نذكر هنا مثال الصين، التي فشل مشروعها الزراعي لتشجير أراضيها رغم حدوث نجاح قصير المدى، بسبب زراعة أنواع خاطئة واستنزاف المياه والعمالة والموارد.
المياه والصحراء
نقول في الخليج: «اللي موعاجبه يشرب من البحر»، وهي عبارة دارجة تتميز بالفظاظة والفجاجة، علمًا بأن قائلها ذاته عادة ما يشرب من البحر أيضًا وبشكل يومي، وذلك لأننا نعتمد اعتمادًا رئيسيًا على تحلية مياه الخليج لاستعمالاتنا اليومية من أكل وشرب ونظافة وزراعة تجميلية ومحاصيل وغيرها، وهو أحد العوامل الرئيسية والأساسية للحفاظ على حياة النباتات المعنية بتقليل درجات الحرارة في المنطقة.
«القطرة هي سر الصحراء» كما يقول إبراهيم الكوني، وحقيقة أننا نعيش في بلد غني لا تعني الإسراف في استخدام الماء، خاصة مع ندرة هذه السلعة، لذلك يستدعي الأمر معرفة كميات المياه التي تستهلكها الشجرة المراد زرعها قبل زراعتها، وطبيعة علاقتها الصحية بالبشر والشجر وكل ما حولها، فليس من الحكمة مثلًا أن نزرع شجرة مثل الكافور (Eucalyptus) وهي المعروفة بكونها «اسفنجة مياه»، وكانت تُزرع قديمًا عند المستنقعات لتجفيفها.
ولو تطلبت منا الأمور أحيانًا أن نفكر خارج الصندوق، فأحد طرق اختبار النتائج هي محاكاة الطبيعة للحصول على أفضل النتائج الممكنة.
أحد أمثلة محاكاة الطبيعة يتمثل بالخنفساء التي تدعى «Darkling Beetle»، التي تواجه الضباب حتى تتراكم قطرات الندى على ظهرها، ثم تميل لتنزل القطرات على فمها فتشرب. التكنولوجيا الحديثة التي تحاكي هذا التصرف صارت تصنع شباكًا أو هياكل مصممة خصيصًا لجمع الضباب والندى في الصحراء بكميات كبيرة، وشخصيًا كنت من المحظوظين الذين طُلب منهم استشارة ضمن مشروعين لطلبة كويتيين خلاقين لديهم ذات الهم لجمع الماء من الصحراء.
ولأننا بحاجة للرضا عن مشاريعنا الزراعية على المدى البعيد لتقليل درجات حرارة المدن والصحراء، يجب أن يكون هناك توجه صادق للتغيير بشكل يتوافق مع طبيعة الأرض التي نعيش عليها وبأقل الأضرار الممكنة. نعم، يجب علينا دراسة كل لبنة توضع وكل نبات يزرع، ورصد علاقته بالنباتات الأخرى والبشر والحشرات وغيرها بحيث يُدرس لمدة تتراوح بين 10 و15 عامًا من كل النواحي، وذلك لضمان استدامة المشاريع الخضراء بكل فوائدها.
ومن الواجب كذلك تعزيز السياحة البيئية داخل المحميات الطبيعية، حتى يستوعب الفرد العادي وجود غطاء نباتي حقيقي يغفل عن وجوده تمامًا. ويجب السعي أيضًا لإنشاء حدائق نباتية مثل «الحديقة الملكية» (Royal Botanical Garden) في المملكة المتحدة، حتى يرتفع مستوى الوعي بأهمية الغطاء النباتي بشكل عام والغطاء النباتي الطبيعي لكل منطقة بشكل خاص، والحفاظ عليه ومحاسبة المسيئين له.
البيئة السليمة في التخطيط السليم
من الضروري أن يُعزز وجود حدائق صحراوية مثلما تصنع الولايات المتحدة والدول المتقدمة بنباتاتها الصحراوية، التي تدمج فيها عراقة النباتات الصحراوية بجمال الحدائق المنزلية الصغيرة، وغيرها الكثير من الأفكار التي بإمكانها عمل تغيير حقيقي مستدام على كل المستويات، وذلك بعمل برامج توعوية، أو سلسلة من المقالات المتخصصة التي تستمع لها الحكومات.
التعامل الصديق للبيئة سيكون مفيدًا وموفرًا للدولة على كل الأصعدة، سواء البيئية أو الجمالية أو الصحية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية، وهذا يتعلق بشكل رئيسي بالأسس والمبادئ المرشدة للمخطط الهيكلي لإعادة تنظيم وتنسيق المدن بناء على طبيعة الأرض التي نتعامل معها.
بعد طرحنا لكل النقاط التي نظن أنها قادرة على خفض درجات الحرارة في دول الخليج، لا يخفى على أحد أننا نمر بتحولات جذرية خلال هذه الأيام متأثرين بأحداث كوفيد 19، وذلك لأن البشرية تمر الآن بانحراف النموذج العام أو النقلة النوعية (Paradigm Shift) في طرق معيشتها. دعونا نعترف بأن الحياة لن تعود إلى سابق عهدها، وواجبنا الآن أن نجعلها أفضل من السابق، وأن نتعامل مع ما هو مهم حقًا لأجل حياة أكثر استقرارًا مما مضى.
أحد أوجه التغيير التي أراها مهمة أن يكون التركيز على التغيير المجتمعي والثقافي، وستلحقها القضايا الأخرى بالتبعية، وذلك بتغيير طريقة تعامل الناس مع أرضهم بشكل لا يسيء لهم ولا لأي كائن حي على الأرض.
ماذا يا ترى لو أتينا بجماليات الصحراء للمدينة، بدلًا من نأتي بالغابات الإسمنتية المدنية فقط إلى الصحراء؟ ماذا لو توقفنا عن التعامل مع الصحراء وحرارتها على أنها عدو يجب التخلص منه؟ ماذا لو تعاملنا مع هذه الأرض على أنها صديق؟ ماذا لو رحبنا بالغبار باعتباره عاملًا طبيعيًا لتقليل درجات الحرارة؟ ماذا سيحدث لو أننا تقبلنا فكرة أننا نعيش في صحراء، فنحبها لما هي عليه لا كما نريدها أن تكون؟ إجابات هذه الأسئلة لها كل الأثر في تغيير مجرى حياتنا على هذه الأرض الطيبة. وكما يقول الكوني: «في الصحراء لا يوجد شيء، ويوجد كل شيء».
سارة صلاح العتيقي
باحثة في مجال النباتات الفطرية
المصدر: منشور