“هجرة الأدمغة”.. 450 ألف عقل عربي في خزائن الغرب
تُعرف “هجرة الأدمغة” بأنها هجرة العلماء، وأصحاب الاختصاص من مختلف القطاعات من موطنهم الأصليّ إلى بيئة أخرى أكثر ملاءمةً لهم مهنياً، أو اقتصادياً. وعادةً ما يكون الانتقال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، وقد يؤثر هذا النوع من الهجرة سلباً على البلد المرسِل من ناحية فقدان القوى العاملة والكفاءات، ما يتسبب في خسارة البلاد، والمنظمات، والصناعات المختلفة، وتقليل الكفاءات الموجودة في البلاد، الأمر الذي سيسبب بدوره ضرراً على الاقتصاد القومي.
ظاهرة “هجرة العقول” تكلف العالم العربي أكثر من مئتي مليار دولار، وأن الدول الغربية هى الرابح الأكبر. وﺗﺗرﮐز ﺗدﻓﻘﺎت اﻟﮭﺟرة ﺑدرﺟﺔ ﮐﺑﯾرة حسب المكان والمهنة. ففي الوقت الحالي، تجذب أكبر 10 بلدان مقصد 60 في المائة من نحو 250 مليون مهاجر على الصعيد العالمي. ويعيش في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ثلثا المهاجرين ممن حصلوا على التعليم الجامعي. وفي أعلى قمة المواهب، توجد في الولايات المتحدة نسبة مذهلة تبلغ 85 في المائة من جميع الفائزين بجائزة نوبل للعلوم.
ظاهرة “هجرة العقول” تكلف العالم العربي أكثر من مئتي مليار دولار، والدول الغربية هى الرابح الأكبر
وأوضحت دراسة أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون فى الخارج لا يعودون إلى بلدانهم وأن 34% من الأطباء الأكفاء فى بريطانيا هم من العرب مضيفة أن هناك نحو 75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة بالفعل إلى ثلاث دول تحديداً هى أمريكا وبريطانيا وكندا.
وبينت الدراسة أن مستوى الإنفاق على البحث العلمي والتقني فى الوطن العربى يبلغ درجة متدنية مقارنة ببقية دول العالم حيث لا يتجاوز الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمى 0.2 بالمائة من إجمال الموازنات العربية.
وتأتى هذه النسبة فى حين تبلغ فى إسرائيل 2.6 بالمائة بينما في أمريكا 3.6 بالمائة والسويد 3.8 بالمائة وسويسرا واليابان 2.7 بالمائة وفرنسا والدنمارك 2% كما رأت الدراسة أن ضعف الاهتمام بالعلم والبحث العلمى يعد أحد العوامل المركزية فى الضعف الاستراتيجي العربى فى مواجهة إسرائيل وأحد الأسباب الرئيسية وراء إخفاق مشاريع النهضة العربية.
مستوى الإنفاق على البحث العلمي والتقني فى الوطن العربى يبلغ درجة متدنية مقارنة ببقية دول العالم حيث لا يتجاوز الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمى 0.2 بالمائة
الهجرة وشعلة الحضارة
يحضرنا هنا رأى العالم المعروف الدكتور فاروق الباز، وهو من كبار العقول العربية التى هاجرت من مصر منذ ستينيات القرن الماضى، والذي عمل لسنوات طويلة مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” فى مشاريع استكشاف القمر والفضاء. يقول الباز: “إن لكل عالم وخبير عربى أسبابه الخاصة التى دفعته إلى الهجرة وهذه تضاف إلى الأسباب العامة المشتركة فى الوطن العربى، حيث لا احترام للعلم والعلماء ولا تتوافر البيئة المناسبة للبحث العلمى والإبداع، وبالتالى فمن الطبيعى أن يبحث العاِلم العربى وطالب المعرفة عن المكان الذى توجد فيه شعلة الحضارة. وعندما كان العالم العربى يحمل شعلة الحضارة قبل مئات السنين كان يأتيه المفكرون والخبرات والعقول من كل حدب وصوب. وبما أن شعلة الحضارة انتقلت إلى الغرب، فمن الطبيعى أن يهاجر الخبراء والعلماء إلى المراكز التى تحتضن هذه الشعلة”.
وأظهرت دراسة أجرتها “منظمة العمل العربية” أن عدد حملة الشهادات العليا العرب المهاجرين إلى أمريكا وأوروبا يبلغ 450 ألف عربى، مما يعنى أن الولايات المتحدة ودول غرب أوربا توفر مليارات الدولارات نتيجة لهجرة العقول والمهارات، إذ لم تتعب هذه الدول لتنشئة وتدريب هذه العقول ولم تنفق عليها، بينما تحمل الوطن العربى تكلفة تنشئتها وهكذا يذهب إنتاج هذه العقول الجاهزة ليصب مباشرة فى إثراء البلدان المتقدمة ودفع مسيرة التقدم والتنمية فيها، بينما يخسر الوطن العربى ما أنفقه من أموال ويخسر فرص النهوض التنموى والاقتصادى التى كان يمكن أن تسهم هذه العقول فى إيجادها.
عدد حملة الشهادات العليا العرب المهاجرين إلى أمريكا وأوروبا يبلغ 450 ألف عربى
ووضع عدد من الدول العربية، منها “الكويت” و”العراق” و”ليبيا”، برامج وخطط وافتتحت مراكز للبحث العلمى لتشجيع العقول العربية المهاجرة على العودة، إلا أنها لم تنجح إلا فى استقطاب القليل من الخبرات، نظراً لعدم شمولية المعالجة وعدم النجاح فى إيجاد بيئة علمية مستقرة، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن بلداً كالعراق هاجر منه 7350 عالماً فى مختلف المجالات ما بين عامي 1991 و1998 نتيجة الأوضاع التى كانت سائدة فى العراق وظروف الحصار الدولى التى طالت الجوانب العلمية.
إمبراطورية العقول المستوردة
الباحث السياسي عبد الجواد علي، يضرب مثالاً بالقائمين على منطقة “وادي السيليكون” الأمريكية المتخصصة بالصناعات الإلكترونية، الذين تقدموا للكونجرس بطلب توسيع برنامج منح الهجرة للعمالة الماهرة لكي يستقروا فى الولايات المتحدة.
هذا الواقع يجعل الكثيرين يطلقون على الولايات المتحدة اسم “إمبراطورية العقول المستوردة” والتى لم يقتصر استيرادها من دول العالم الثالث، بل إن عدداً من الدول الأوربية وكندا واستراليا يعانون أيضاً من هجرة العقول باتجاه الشركات والجامعات الأمريكية ومعاهدها ومراكز الأبحاث المختلفة.
ويستطرد عبد الجواد: والأخطر من كل هذا النتيجة التى أعلنها “ديفين برينر” الأستاذ فى دراسات الأعمال فى جامعة “ماكجيل” الكندية والتى ذكرها فى كتابه “القرن المالي” إذ يقول: فى ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والأموال إلى حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين ومستفيدين، ففى كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو 1.8 مليون من المتعلمين ذوى المهارات والخبرات فى العالم الإسلامي إلى الغرب.
وإذا افترضنا أن تعليم أحد هؤلاء المهاجرين يكلف فى المتوسط عشرة آلاف دولار فإن ذلك يعنى تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام!!
ويختتم عبد الجواد على حديثه بقوله: وإذا تراكم هذا المبلغ نظرياً على مدى عدة سنوات فسيصبح مفهوماً أكثر لماذا تزداد الأقطار الغنية غنى والفقيرة فقراً.
وراء الهجرات عوامل، سواء أكانت داخلية أو خارجية، أهمها الفقر، حيث لا يقتصر على مفهوم واحد، ولكنه يمتد ليشمل فقر الإمكانيات والقدرات والذى يعكس نقص الخدمات الأساسية
فقر الإمكانيات
وعن أثر العوامل الاقتصادية لهجرة الكفاءات، أكد الدكتور سعد حافظ ، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومى في مصر، أن “وراء الهجرات عوامل، سواء أكانت داخلية أو خارجية، أهمها الفقر، حيث لا يقتصر على مفهوم واحد، ولكنه يمتد ليشمل فقر الإمكانيات والقدرات والذى يعكس نقص الخدمات الأساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معاً ويرتبط الفقر بهذا المعنى بنقص التشغيل، البطالة، التهميش وضعف أو انعدام فرص الحراك الاجتماعى وهو المحرك الأساسى لانتقال الناس مكانياً إضافة للاضطهاد وعدم الاستقرار السياسى لأسباب أيديولوجية أو عرقية أو ثقافية أو دينية تلعب دوراً هاماً فى الهجرات الجماعية إلى جانب التعرض لأشكال القهر بدءاً بالحرمان من الحقوق السياسية دون قوانين وكبت الحريات إلى التعذيب والتصفيات الجسدية.
ويضيف د. حافظ أنه قد تكون الأسباب العامة دافعاً للهجرة ولكن هناك أسباب أخرى لهجرة العقول، وتتلخص فى توفر إمكانات البحث العلمى فى الدول التى تتم الهجرة إليها سواء ما يتعلق بمناخ البحث العلمى السائد أو الإمكانات المادية من معامل ومختبرات وتمويل وفرق عمل بحثى متكاملة إلى جانب وجود الجماعة العلمية المرجعية المحفزة للإبداع العلمى وكذلك العوامل النفسية للمهاجرة نفسه وأيضاً عوامل الجذب التى تقدمها دول المهجر.
خسارة مزدوجة
تترك هجرة العقول العربية آثاراً سلبية على واقع التنمية فى الوطن العربى، حيث يقول الدكتور السيد عبد الستار المليجى، نقيب العلميين السابق في مصر: “لا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب، ولكنها تمتد أيضاً إلى التعليم فى الوطن العربى وإمكانات توظيف خريجيه فى بناء وتطوير قاعدة تقنية عربية ومن أهم المنعكسات السلبية لنزيف العقول:
تترك هجرة العقول العربية آثاراً سلبية على واقع التنمية فى الوطن العربى
أولاً: ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول التى تصب فى شرايين الغرب بينما تحتاج التنمية العربية لمثل هذه العقول فى مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمى.
ثانياً: تبديد الموارد الإنسانية والمالية العربية التى أنفقت فى تعليم وتدريب الكفاءات التى تحصل عليها البلدان الغربية دون مقابل.
مع ازدياد معدلات هجرة العقول العربية إلى الغرب يزداد اعتماد غالبية البلدان العربية على الكفاءات الغربية فى ميادين شتى بتكلفة اقتصادية مرتفعة
ثالثاً: ضعف وتدهور الإنتاج العلمى والبحثى فى البلدان العربية بالمقارنة مع الإنتاج العلمى للعرب المهاجرين فى الغرب”.
ويستطرد د. المليجي: ومما يلفت النظر فى الوطن العربى أنه مع ازدياد معدلات هجرة العقول العربية إلى الغرب يزداد اعتماد غالبية البلدان العربية على الكفاءات الغربية فى ميادين شتى بتكلفة اقتصادية مرتفعة ومبالغ فيها فى كثير من الأحيان.. وبعبارة أخرى فإن البلدان العربية تتحمل بسبب هذه الهجرة خسارة مزدوجة، لضياع ما أنفقته من أموال وجهود فى تعليم وإعداد الكفاءات العربية المهاجرة، ومواجهة نقص الكفاءات وسوء استغلالها والإفادة منها عن طريق استيراد العقول الغربية بتكلفة كبيرة.