مقالات

“نظرية داننيج- كروچر” “الجهل يعطي ثقة”

في يوم 6 يناير 1995، وقعت حادثة في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من بساطتها وتكرارها النسبي، فقد وجدت اهتماماً بحثياً لم تجده كثير من الأحداث الكبرى.. في هذا اليوم، وفي تمام الثانية عشرة ظهراً، قام شخصان، أحدهما يُدْعى “مكارثر وييلر” والآخر يُدْعى “كليفتين چونسون” باقتحام بنكين في ولاية بنسيلڤانيا، بدون تخفٍ أو ارتداء “قناع للرأس”.. لم يكن المبلغ الذي استولى عليه كلُّ منهما كبيراً (خمسة ألاف دولار تقريباً)، ولم ينتج عن هذه العملية أية خسائر بشرية أو إصابات.. غير أن السؤال المحير كان هو: لماذا لم يقم هذان الشخصان بأية تدابير من شأنها إخفاء وجهيهما؟ ولماذا هذه الثقة التي ظهرت أثناء قيامهما بعملية السطو؟…

في الأسبوع التالي، وبعد تفريغ كاميرات المراقبة، استطاعت الشرطة القبض على “چونسون” في بيته.. واستغرق القبض على “وييلر” ثلاثة أشهر، إذ تم القبض عليه يوم 9 إبريل من العام نفسه.. أثناء التحقيقات، تم عرض (الڤيديوهات/ المقاطع المصورة) التي وثقت لحظة قيامهما بعملية السطو على الرجلين، فتعجب كلاهما أشدَّ العجب، وتسائلا: كيف استطاعت الكاميرات تصويرهما على الرغم من وضعهما “عصير ليمون” على وجهيهما للإخفاء؟.. قال “وييلر” لقد وضعت عصير الليمون على وجهي حتى لا يظهر في التصوير.. لقد جربت ذلك أكثر من مرة وكان ناجحاً”!! ظن الرجلان أنهما بهذه الحيلة قد ارتديا “طاقية الإخفاء” ولن يستطع أحد التعرف عليهما! قضت المحكمة بحبس “جونسون” خمس سنين، وبحبس “وييلر” خمساً وعشرين سنة، إضافة إلى ثلاث سنين مراقبة، لوجود جرائم أخرى في سجله!

جذبت هذه القصة انتباه عدد كبير من أساتذة علم النفس في الولايات المتحدة، أشهرهم “ديڤيد داننيج” أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كورنيل، وتلميذه في مرحلة الدكتوراة “چاستين كروچر”؛ إذ قاما بدراسات عديدة لدراسة الأسباب التي تجعل الأشخاص قليلي المعرفة والخبرة يثقون في معلوماتهم كلَّ هذه الثقة؟ كان أشهرها الدراسة التي نُشِرت نتائجها في عام 1999، وفيها وضعا أسس نظرية جديدة أسماها “نظرية داننيج- كروچر”، تنص على أن “”الجهل يعطي ثقة”، وأشارا إلى وهمين مرتبطين بهذه الظاهرة هما: “وهم التفوق”، و”وهم الكفاءة”!! وأن الأقل في المعرفة وفي القدرات والمهارات أكثر ثقة بأنفسهم مقارنة بالأكثر معرفة.. وأن هؤلاء يبالغون في تقدير قدراتهم ونقاط تميزهم مقارنة بالأكثر خبرة ومهارة.. وفسر الباحثان ذلك بسبب “ميل الناس الفطري إلى المبالغة في قدراتهم والتقليل من قدرات الآخرين”.. وأن ذلك نوع من التحيزات/ الأخطاء المعرفية التي تسود بين عدد كبير من الناس!

الدراسات التي أجراها داننيج وكروچر وغيرهما من الباحثين قدمت الدليل البحثي والبرهان التجريبي على فكرة كثيراً ما أشار إليها المفكرون منذ القدم.. الحكيم سولون (638 – 559 ق.م.) أحد حكماء الإغريق السبعة، أشار إلى أنَّه “في الوقت الذي يشير العالم فيه إلى أنه لا يدري، يصر الجاهل على معرفته بكل شيء”.. الإمام الشافعي (767- 820 م) أشار إلى المعنى ذاته: “كلما أدّبني الدهر أراني نقص عقلي، وكلما ازددتُ علماً زادني علماً بجهلي”..

ويليام شكسبير (1564- 1616) في مسرحية “كما تشاء”، أشار إلى المعنى ذاته على لسان إحدى شخصيات المسرحية: “الأحمق يعتقد أنَّه حكيم، ولكن الحكيم يعتقد أنَّه أحمق”! صاحب نظرية النشوء والارتقاء تشارلز داروين (1809- 1882) لاحظ الظاهرة ذاتها ووثَّقها بقوله: “الجهل في كثير من الأحيان يولد الثقة أكثر مما تفعل المعرفة”..”.. المفكر البريطاني برتراند راسل (1872- 1970) اعتبر هذه الظاهرة مشكلة وجودية: “إن مشكلة العالم هي أنَّ الأغبياء والمتعصبين دائماً واثقون من أنفسهم في حين أن العقلاء تملؤهم الشكوك في أنفسهم”.. الشاعر الألمعي صالح الشرنوبي (1924- 1951) وصف نفسه بقوله: “والجهل آخر علمي/ وإن دُعيتُ الإماما ”.. وهو ما أجمله شاعر العربية الأعظم أبو الطيب المتنبي (915- 965 م) في بيته العبقري المتفرد: “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم”..

ولعلَّ هذه الظاهرة هي السبب الرابع من أسباب ظاهرة “توهم المعرفة/ العلم الناقص” التي أشرنا إليها في مقال الأسبوع الماضي.. لدينا في عالمنا العربي ثقة مفرطة لا تتناسب مع حجم المعرفة التي لدينا.. نحن الأقل في إنتاج المعرفة عالمياً، والأكثر في ادعاء المعرفة بها.. نحن لا نؤمن بالدراسة، ونعتقد رغم ذلك في صحة أحكامنا، ونعتبرها دليلاً على الآخرين.. لدينا، وعلى حد تعبير شيخ الأزهر عبد المجيد سليم (1882- 1954) “”تقصير وتقتير هنا.. وتبذير وإسراف هناك”.. لدينا تقصير وتقتير في الحصول على المعرفة، وتبذير وإسراف في الثقة المصاحبة بالجهل!

نحن في عالمنا العربي نهزل في ساعة الجد، ونجد ساعة الهزل.. مؤسساتنا العلمية تهزل حين تعتبر نفسها مؤسسات شعبوية.. وتجد حين تعتبر مهازلها التعليمية تفكيرا خارج الصندوق! وهو ما يجعلنا نردد مع أبي العلاء المعريّ قوله: “أراكَ الجهلُ أنَّك في نعيمِ/ وأنتَ إذا افتكرتَ بسوءِ حالٍ”.

د. ايمن منصور ندا

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى