محمد بن دخيّل: القاضي الذي تحول إلى إثنوغرافي مدينة الرياض
يحسب للكاتب السعودي محمد السيف، أنه استطاع في العقدين الأخيرين المساهمة في تنامي عالم السير الذاتية السعودية. ويلاحظ المتابع لأعماله هذا الدور، سواء على مستوى ما نشره من سير ذاتية مثل سيرة عبد الطريقي أو ناصر المنقور، وغيره من سير رجال الأعمال السعوديين، أو من خلال إشرافه على دار جداول للنشر، التي غدت شبه مختصة بسير السعوديين وتاريخهم المحلي، وما ميزها أنها ليست سير للسياسيين أو المثقفين السعوديين حسب، بل أتاحت الفرصة لظهور كتاب سير جدد. وإن كان ما يسجل على هذه السير أنها بقيت ذكورية، إذ لا نعثر على سير لسيدات سعوديات، وإن ظهرت، ففي الغالب كانت بقلم رجال، مثل سيرة أيقونة زمانها للدبلوماسي السعودي محمد أمين كردي التي دوّنها عن زوجته الراحلة.. مع أنه يحسب لهذه السيرة بالمقابل أنها ربما تعد جديدة على مستوى كتابة السيرة الذاتية السعودية وحتى العربية، أي أن يأتي زوج ليكتب عن زوجته وسيرتها.
وقد عمل السيف، في سياق الاهتمامات هذه، في الآونة الأخيرة على إصدار كتاب حول القاضي والكاتب السعودي محمد بن دخيّل. يضمّ الكتاب سلسلة مقالات كتبها دخيل منذ عام 1958 إلى 1964، وتحتوي على تفاصيل غنية حول المجتمع والمدينة السعودية (مدينة الرياض) في فترة كانت البلاد تشهد فيها تحولا باتجاه نمط آخر من التنظيم، والشوارع، والمؤسسات، والتعليم. بالتالي يشكّل الاطلاع عليها اليوم فرصة لفهم لحظات انتقال المجتمع السعودي في الستينيات.
لكن من هو محمد دخيّل؟
للوهلة الأولى، يبدو هذا الاسم غير معروف للأجيال الثقافية السعودية والعربية المتأخرة بالأخص. لذلك يحدثنا السيف عن بدايات هذا الرجل الذي ولد في بلدة ثرمداء وسط نجد 1930، وكحال شرائح واسعة من أبناء جيله، فقد درس العلوم الشرعية في فترة طفولته، ثم توسّع في هذا الحقل في فترة المرحلة الجامعية من خلال الدراسة في كلية الشريعة في الرياض، ليعين فور تخرجه في عام 1953 قاضيا، لكن دخيل رفض مباشرة العمل في القضاء، وفضل بدلا عنه العمل صباحا مفتشا قضائيا في نجد والمنطقة الشرقية، بينما خصص أوقاته الأخرى لقراءة الأدب وكتابة المقالات، ليرصد من خلالها تفاصيل مهمة عن حياة مدينة الرياض الجديدة وعن مشاكل المتسولين وخلفياتهم الاجتماعية. كما سيخصص جزءا من مقالاته للحديث عن مجاري مياه الرياض وكيفية إصلاحها. وبالتالي ما يلاحظ في مقالاته هو الحس الإثنوغرافي الذي امتازت بها رؤيته وكتاباته، فهو في مرات عديدة يبدو وكأنه خلع رداء مراقبة المؤسسات القضائية، ليراقب عوضا عنها المجتمع السعودي وهو ينمو في فترة الستينيات.
ولعل من الأشياء اللافتة أيضا، أنّ اهتمامات وقراءات دخيل تكشف لنا عن صورة أخرى حول المثقف الديني السعودي، أو لنقل المثقف الخارج من عباءة المؤسسات الدينية السعودية، إذ درجت السردية التقليدية على ربط هؤلاء بأفكار الوهابية والسلفية والانغلاق على الذات ونصوصها القديمة، بينما كان دخيل يناقش ويبدي إعجابا بكتب علي الوردي مثلا. كما نراه يبدي في بعض المقالات اهتماما واسعا بعالم الأدب، ويدعو في أكثر من مكان إلى ضرورة أن يهتم الجيل السعودي آنذاك بالأدب، كونه يعبر عن ضمير وثقافة المجتمع ووعيه وقضاياه.
يبدو في مقالاته غير مهموم بالسؤال الديني المباشر، وهذا لا يعني أن دخيل كان ليبراليا، بل نراه محافظا وناقدا لبعض التفاصيل الحداثوية الطارئة في حياة السعوديين. مع ذلك لا يحمل رؤى دينية صلبة يحاول فرضها على الأهالي والمؤسسات الثقافية والتعليمية، بل على العكس من ذلك، نراه مهموما باليومي وقضاياه، وهو ما يطرح سؤالا حول إن كانت رؤية دخيل وانفتاحه على قراءة الأدب وعلم الاجتماع، أمراً طبيعيا يشاركه فيه أبناء جيله من المتعلمين والمثقفين الدينيين؟ وقد تبدو الإجابة عنه صعبة الآن، في ظل تعذّر المقارنة وجلب شواهد أخرى حول اهتمامات جيله آنذاك. مع ذلك يخيل لنا أنّ دخيل في لحظة الخمسينيات والستينيات قريباً من ملاحظة ديفيد كومنز صاحب كتاب «الدعوة الوهابية» الذي يرى أنّ المثقف الديني السعودي آنذاك لم يكن يحمل رؤية شمولية ثورية، كما جرى لاحقا في فترة الثمانينيات. وقد عبر دخيل نفسه عن ذلك من خلال مقال له بعنوان «الوعظ والإرشاد» 1959، إذ سيبدي فيه امتعاضا من «كثرة المرشدين والوعاظ من الجهلة، الذين وفدوا إلى هذه البلاد.. يذهب أحدهم إلى كتاب من كتب الوعظ القديمة فيحفظ منها صفحة أو صفحتين ثم يأتي بوعظ يصمّ الآذان من تكسيره الكلام، وتحريفه لآيات الله ولأحاديث رسوله (ص) يصب جامع غضبه في لهجة مكسرة على الدنيا وأهلها، ويعرفها بأنها جيفة، وأن أصحابها كلاب». وكما هو واضح، يبدو دخيل قلقا من قدوم واعظين من الخارج، ولذلك يقترح على الحكومة ضبط هذه الحالة.
رياض الستينيات
يلاحظ في السنوات الأخيرة ظهور الكثير من الكتابات حول عالم الخمسينيات والستينيات في المدن العربية، وتبدو هذه الفترة من خلال جل ما يكتب اليوم الفترة الذهبية التي عاشتها هذه المدن، قبل أن تأتي فترة الستينيات لتعلن عن قدوم زمن الأيديولوجيا. ونعثر على هذه السردية في كتابات باحثين سوريين ومصريين وبحرينيين وكويتيين، فهناك لحظة حنين لذاك الزمن مقارنة بالزمن العربي الصعب اليوم. ونرى الشيء ذاته لدى كتاب وروائيين سعوديين كثر، كما في أعمال الروائي عبد الله بن بخيت، الذي يعود من خلال بطله ناصر في روايته الأخيرة «الدحو» ليحاول جمع صورة الرياض في الخمسينيات والستينيات، عبر ذاكرة انتقائية، ومصابة بداء الحنين نحو زمن الطفولة البريء. وتتقاطع كتابات دخيل مع هذه الاهتمامات، كونها ترسم لنا صورة عن الرياض في ذاك الزمن، لكنها لا تأتي من حقل عالم الذاكرة، بل من عالم الواقع ومن موقعه كشاهد وفاعل، ولذلك سنحاول في ما تبقى من هذه المقال، المشي مع دخيل لجمع بعض الصور عن مدينة الرياض خلال الستينيات، وكيف قارنها لاحقا بواقع مدينة الدمام المشكّلة حديثا.
تظهر الرياض آنذاك، وهي تشهد تحولات حضرية على صعيد الامتداد العمراني لها خارج الأسوار القديمة، إذ نتعرف مثلا على أسماء بعض الأحياء الجديدة، أو التي تعتبر حديثة، مثل الملز، والمنصورية، وشارع الخزان، وعلى الرغم من أنه لا يبدي أي اعتراض على هذا التوسع العمراني، إلا أنه في المقابل لا يخفي امتعاضه من غياب التخطيط الجيد، ومن التسرع في الأعمال العمرانية، على حساب مراعاة جوانب أخرى، مثل موضوع غياب سيارات الأجرة بالشكل الكافي. فقد أدى توسع المدينة إلى ضرورة وجود سيارات لنقل الأهالي إلى بيوتهم في الأحياء الجديدة البعيدة، لكن الحكومة لم تتمكن من توفيرها. كما أن شراء السيارات لم يكن متاحا أمام الجميع، ومن بينهم الموظف (القاضي) دخيل. ولذلك نرى أنه رغم ظهور الأحياء الجديدة، إلا أنّ كثيرين فضّلوا الاستمرار في العيش (مثله) داخل البلدة القديمة في «بيوت مهملة مبنية باللبن، ومسقفة بجريد النخل». ويمكن القول، إن السياسات العمرانية الحكومية في الستينيات ظلت عشوائية لفترة طويلة، وتعاني من مشاكل عديدة، وهذا ما تكشفه مثلا مقالة أخرى تتحدث عن قيام أمانة الرياض بتوزيع نشرة مجانية بعنوان «واجباتنا الصحية تجاه أنفسنا وبلادنا» طالبت الجمهور أن يكون نظيفا في كل شيء: في ملبسه، وفي مقر عمله، وفي تجارته، وفي الأماكن العامة في مدينته. كل هذا جميل ويثني عليه الكاتب، لكنه في المقابل يرى أنّ غياب النظافة أيضا في المدينة يعود لمشاكل في سياسات التخطيط الحكومية. إذ يذكر أنه في مقابل توسع المجال الحضري، فإن حمامات الاغتسال ما تزال قليلة، وحدائق المدينة الجديدة بنيت دون دورات مياه!
سيعبر كذلك عن هذه العشوائية خلال حديثه عن شوارع المدينة الجديدة. وهنا نعثر مثلا على هذا الحس الإثنوغرافي الذي أشرنا إليه، إذ يرى دخيل أنّ الشارع هو المعرض الكبير الذي يستطيع من خلاله الباحث أو المؤرخ معرفة نماذج الأشياء والبلاد التي يزورها أو يعيش فيها. وفي حالة رياض الستينيات، يكشف لنا أنّ حوادث الدهس والاصطدام كانت تتكرر وتتضاعف، ويرجع ذلك إلى قلة الإمكانيات لدى قلم المرور، الذي يحتاج إلى قسم كبير من الجنود. وهنا لا بد من الإشارة لنقطة، أنّ هذا الرصد لليومي، لا يأتي حسب من شغف دخيل بمراقبة اليومي، وإنما أيضا من محاولة للإصلاح، لذلك نراه يقترح علينا في سياق تحسين أوضاع الشوارع آنذاك أن «يجري وضع سيارة مزودة بمكبرات الصوت تتجول ويكون فيها ثلاثة أو أربعة من المثقفين، كلما رأوا جمهرة من الناس نادوا فيهم عن واجباتهم وأمتهم وحكومتهم». واللافت أنّ هذا النفس الإصلاحي سيمكننا من فهم تفاصيل عن واقع السجون مثلاً في الرياض، وكيف كان المساجين يعيشون في تلك الفترة، قبل أن يُنقلوا إلى سجن حديث.
في مقالات أخرى، نتعرف على وسائل السفر آنذاك، إذ يأتي على ذكر واقع مطار الرياض وكيف كان على المسافرين دفع عشرات الريالات للوصول إلى مكانه الذي يبعد ست كيلومترات عن المدينة، ليبدأ بعدها الصراع باليد والمنكب أمام النافذة للحصول على تذكرة سفر. «وقد تجلس اليوم واليومين والثلاثة في الانتظار ولا يقدر لنا السفر». في موازاة هذه الأحداث، يعبر دخيل أحيانا عن موقف محافظ من بعض التطورات في المدينة، يتحدث مثلا عن انتشار الملابس المزركشة، التي يردها إلى ازدياد أعداد العمالة الأجنبية. كما نراه يلمح إلى دور شركة النفط الأمريكية، التي ترافق قدومها مع قدوم عمال غربيين وأجانب، ما أدى لإضفاء طابع جديد على الحياة الحضرية في الرياض، وربما في الدمام والخبر، حيث مقرات الشركة. وسيوضح دخيل ذلك من خلال سلسلة مقالات بعنوان «عائد من المنطقة الشرقية» تحدث فيها عن مدينة الدمام الحديثة. فقد كانت الدمام مرفأ صغيرا لصيادي الأسماك، تقطنها جماعة من الدواسر النازحين إليها من البحرين، ولا تحوي سوى قصر أو قلعة وسط البحر. أما اليوم (الستينيات) فهي مدينة عظيمة، مكتظة بالسكان واللهجات المتباينة. وكذلك الحال في مدينة الخبر، التي كما يقول، إذا سرت في شوارعها تخال نفسك في مدينة أوروبية حديثة، ثم مدينة الظهران، وفيها مكاتب أعمال شركة أرامكو والحي السكني الأمريكي الذي زود بكل الوسائل العصرية الحديثة من برك السباحة وملاعب الأطفال، التي كما يقول، كم تمنينا لو كانت في مدن الرياض وجدة ومكة من تلك الوسائل.
أرسين لوبين في الرياض؟
ويبدو دخيل كما أشرنا، مطلعا ومدافعا عن الأدب، لكن في المقابل يرى من الضرورة أن يظل أدبا هادفا، لا أدبا للغرائز. وقد عبّر عن ذلك في مقاله «هذه الكتب الرخيصة «. وفي هذا النص نتعرف على الأدب الآخر الغرائزي الذي ربما كان منتشرا بين الشباب في الرياض آنذاك. فيقول «حدثني شباب من أولئك الشباب الذين ثقافتهم فجة.. أن هذه الكتب تحكي الواقع» وبين الأمثلة التي يأتي على ذكرها هنا «مغامرات طرزان وأرسين لوبين ومن لف لفهم». ولا نعرف ما هي العناوين أو القصص المترجمة التي كانت موجودة آنذاك للوبين، لكن في ملاحظة دخيل ما قد يساهم في فتح النقاش حول تاريخ القراءة في الرياض. كما يلاحظ في موقفه هنا أنه ليس نابعا بالضرورة من موقف ديني، بل هو موقف محافظ شبيه بالمواقف التي عبر عنها كتّاب مصريون وسوريون كثر، الذين كانوا ينادون في فترة ما بعد الاستعمار بالعودة للتراث لقراءة كتب مثل «البيان والتبيين» للجاحظ أو «مقدمة ابن خلدون». وفي كل الأحوال، فإنّ في ملاحظاته السابقة ما قد يشجع على قراءة دخيل، وعلى الدعوة أيضا لنشر مخطوطته التي دوّن فيها تفاصيل عن رحلته إلى معظم بلاد نجد في عام 1964. فقد تمثّل هذه المخطوطة إضافة جديدة في فهم تطور نجد ومدنها في فترة الستينيات والسبعينيات…
بقلم/ محمد تركي الربيعو- كاتب سوري