ماري آنينج.. صائدة الديناصورات!
تم الاحتفال بصائدة الحفريات الإنجليزية وعالمة التشريح الهاوية ماري أنينغ لاكتشافها عينات الديناصورات الشهيرة التي ساعدت في التطوير المبكر لمجال علم الحفريات.
ساعدت حفرياتها أيضًا في الحياة المهنية للعديد من العلماء البريطانيين من خلال تزويدهم بالعينات لدراسة وتأطير جزء كبير من التاريخ الجيولوجي للأرض. ويشير بعض العلماء إلى أن الحفريات التي استعادها آنينغ ربما ساهمت أيضًا، جزئيًا، في نظرية التطور التي طرحها عالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز داروين.
ماري آننغ (بالإنجليزية: Mary Anning) (21 أيار/مايو 1799 – 9 آذار/مارس 1847 )، هي إحاثية بريطانية تعمل على جمع الحفريات والتجارة بها. تُعرف آننغ عالميًا باكتشافاتها المهمة في الطبقات الأحفورية الجوراسية في الجروف على طول القناة الإنكليزية في بلدة لايم ريجيس في مقاطعة دورست في جنوب غرب إنكلترا. ساهمت النتائج التي توصلت إليها في تغييرات مهمة في التفكير العلمي حول حياة ما قبل التاريخ وتاريخ الأرض.
بحثت آننغ عن حفريات في جروف بلولايز بالمنطقة، وخصوصًا خلال أشهر الشتاء عندما كشفت الانزلاقات الأرضية عن حفريات جديدة كان لابد من جمعها بسرعة قبل أن تضيع في البحر.
ماتت آننغ في عام 1833 خلال انزلاق أرضي. شملت اكتشافاتها أول هيكل عظمي للإكتيوصور الذي حُدد بشكل صحيح، والعثور على أول اثنين من الهياكل العظمية المكتملة للبلصورات، وأول هيكل عظمي للتيروصور الذي يقع خارج ألمانيا، وأحافير أسماك مهمة.
لعبت ملاحظاتها دورًا رئيسيًا في اكتشاف أن الكوبروليت المعروف باسم أحجار بيزور في ذلك الوقت كان عبارة عن فضلات متحجرة. كما اكتشفت أن أحافير بيلمينيت تحتوي على أكياس حبر متحجرة مثل تلك الموجودة في رأسيات الأرجل الحديثة. عندما رسم الجيولوجي هنري دي لا بيشال دورست القديمة، كان أول تمثيل مصور على نطاق واسع لمشهد من حياة ما قبل التاريخ المستمد من عمليات إعادة البناء الأحفوري، واستند إلى حد كبير على الحفريات التي عثرت عليها آننغ، وباع مطبوعات منها لصالحها.
لم يكن لآننغ مشاركة كاملة في المجتمع العلمي لبريطانيا في القرن التاسع عشر حيث كان معظمهم من الأنجليكيين. تعرضت آننغ للكثير من المصاعب المادية حيث كانت أسرتها فقيرة، وكان والدها صانع أثاث توفي عندما كانت هي في الحادية عشر من عمرها.
أصبحت آننغ معروفة في الأوساط الجيولوجية في بريطانيا وأوروبا وأمريكا، وناقشها العديد من العلماء حول قضايا التشريح وكذلك حول جمع الحفريات. لم تكن آننغ مؤهلة للانضمام إلى الجمعية الجيولوجية في لندن على الرغم من براعتها في مجالها، ولم تحصل دائمًا على التقدير الكامل لمساهماتها العلمية، ويعود ذلك إلى أنها امرأة.
كتبت آننغ في رسالة: «لقد استغلني العالم بشكلٍ قبيح، وأخشى أن يكون هذا الأمر قد جعلني أشك بالجميع من حولي». نُشرت لها خلال حياتها مقالة علمية واحدة في مجلة التاريخ الطبيعي في عام 1839.
أثارت قصة حياة آننغ غير العادية العديد من الكتّاب والقرّاء في عام 1847. كتبت إحدى الكاتبات عنها في مجلة “All the Year Round”، وحرر المقالة تشارلز ديكنز في عام 1865 قائلًا «نجحت ابنة النجار في شق طريق شهرتها، وهي تستحق الفوز بها». أدرجت الجمعية الملكية آننغ في قائمة النساء العشرة البريطانيات الأكثر تأثيرًا في تاريخ العلوم وذلك في عام 2010 بعد 163 سنة من وفاتها.
الطفولة
ولدت ماري بلايم ريجس، دورست، إنجلترا، لنجار بارع يدعى ريتشارد آننغ. إلا أن والدها، سعيا لتحسين دخله، كان يذهب للتنقيب عن الحفريات في الطبقات المتحفرة بجرف المدينة الساحلي ليبيعها للسائحين. تزوج ريتشارد آننغ من ميري مور الشهيرة بمولي، في الثامن من أغسطس لعام 1793. عاش الزوجان معاً ببلاندفورد، إلا أنهما، بعد ذلك، انتقلا للعيش بمنزل على جسر مدينة لايم. انضم الزوجان لكنيسة خارجة عن الكنيسة الأنجليكية، تقع في شارع كوم، حيث سمي أتباعها بالمستقلين الأحرار قبل أن يطلقوا على أنفسهم اسم الأبرشانيين. وفي هذا الصدد كتبت شيلي إملينغ أن عائلة ماري كانت تقطن في منزل قريب جداً من البحر، حيث أن العواصف البحرية التي كانت تكشف عن الحفريات، ذاتها، كانت تفيض داخل البيت مضطرة العائلة للتسلل للخارج عبر نوافذ غرف النوم العلوية، خشية الغرق.
هذا النصب التذكاري معلق على ما يعتقد أنه كان المنزل الذي شهد مولد ماري ومتجرها الأول، إلا أن هذا المنزل قد تحول الآن إلى متحف لايم ريجس المحلي.
رزق ريتشارد آننغ وميري مور بعشرة أطفال. الطفلة الأولى كانت تدعى ماري، وقد ولدت في عام 1794 ثم تلتها بنت أخرى توفت سريعاً جداً. بعد ذلك ولد جوزف في عام 1796 تلاه ولد آخر، إلا أن هذا الطفل مات رضيعاً. وفي العام نفسه، 1796، توفت الابنة الكبرى ماري، التي كانت في الرابعة من عمرها، حيث أمسكت النار بثيابها عندما كانت تضيف إليها براضة الخشب.
وقد نشرت تلك الحادثة في عدد مجلة باث كرونيكال الصادر في السابع والعشرين من ديسمبر لعام 1798، حيث جاء فيه أن «طفلة لنجار يدعى السيد ر. آننغ يعيش في لايم ريجس، تبلغ من العمر أربع سنوات، تركت بمفردها في غرفة بها براضة خشب…حيث أمسكت النار بثيابها…ولم تنتبه لها أمها، الأمر الذي جعلها تصاب بحروق بالغة أودت بحياتها»
والجدير بالذكر أن ميري مور أنجبت طفلة بعد تلك الحادثة بخمسة أشهر فقط، حيث أطلق عليها ماري نسبة لأختها التي قضت قبل أشهر. وبعد ذلك أنجب أطفال آخرون، إلا أن جميعهم ماتوا قبل أن يتموا عامهم الثاني، ولم يعش سوى ماري وجوزف حتى مرحلة الشباب.
وعلى الرغم من ذلك، فلم يكن معدل وفايات الأطفال المرتفع في عائلة ماري أمر غير مألوف، ففي بدايات القرن التاسع عشر كان نصف الأطفال في بريطانيا يموتون قبل سن الخامسة. وبالنظر للظروف المعيشية الصعبة بلايم ريجس، في بدايات القرن التاسع عشر، فإن موت الأطفال جراء الإصابة بالجدري والحصبة كان أمر مألوف تماما.
في التاسع عشر من أغسطس لعام 1800، أي عندما كانت ماري تبلغ من العمر 15 شهرا فقط، وقعت حادثة جذبت أنظار الجميع إليها. فقد وقفت ماري تحت شجرة دردار ضخمة مع إحدى الجارات التي تدع إليزابيث هسكنغ، وسيدتين أخرتين لمشاهدة عرض فروسية كانت تقدمه مجموعة من الخيالة. إلا أن تلك الشجرة وقعت إثر صاعقة برقية وقتلت النسوة الثلاث في الحال. وسرعان ما نقل شهود العيان الطفلة إلى منزلها، حيث تم إنعاشها بحمام ساخن.
وبعد تلك الحادثة قال الطبيب الذي فحص ماري أن نجاتها كانت معجزة إلاهية. وقالت عائلتها أن ماري كانت تبدو مجرد طفل سقيم ممراض، قبل تلك الحادثة، ولكنها الآن أصبحت زهرة متفتحة. وكذلك ظل الناس لسنوات طوال يربطون بين ذكاء ماري وحيويتها وحب الاستطلاع لديها وبين تلك الحادثة.
تلقت ماري قدر قليل جدا من التعليم. فقد كانت تحضر مدارس الآحاد بالكنيسة الأبرشانية، حيث تعلمت القراءة والكتابة. وقد كانت تلك الكنائس، على عكس الكنائس الأنجليكية، تؤكد على أهمية التعليم بالنسبة للفقراء. ولعل من أهم ما درسته ماري في تلك المدرسة هي المجلة الدينية التي كانت تصدر عن الكنيسة. حيث كتب فيها الأب جيمس ويتن، القس المسؤول عن العائلة، مقالين; أحدهما يؤكد أن الله خلق الأرض في ستة أيام، والآخر يدعوا أتباع كنيسته لدراسة العلم الجديد; علم الجيولوجيا.
تفاعل ماري مع الوسط العلمي
كانت ماري، بوصفها امرأة فقيرة من الطبقة العاملة، غريبة عن الأوساط العلمية. ففي ذلك الوقت لم يكن للنساء، ولا حتى الفقراء من الرجال من مَن لم يكن لديهم ملكية خاصة، الحق في الإدلاء بأصواتهم، أو تقلد المناصب الحكومية، أو حتى الالتحاق بالجامعات. وبالنسبة للنساء من الطبقة العاملة، كانت الوظائف المتاحة تتمثل في أعمال الزراعة والأعمال المنزلية والعمل بالمصانع الجديدة.
ولم تكن الجمعية الجيولوجية، الناشئة، ذات الدور المؤثر في تشكيل الوعي العلمي بمعزل عن مثل هذا الإقصاء. فقد منعت النساء من الاشتراك فيها، أو حتى حضور جلساتها باعتبارهم ضيوف.
ومن ناحية أخرى، كانت ماري تستاء من الكثير من زبائنها المهتمين بالحفريات; فبالرغم من أنها كانت تفوقهم علماً، فإن، زبونها، عالم الجيولوجيا الثري، كان هو دائما من يضع وصفاً علمياً للحفريات التي تكتشفها ماري، دون أدنى إشارة لدور ماري في اكتشافه.
وفي الصدد نفسه تقول آنا بني، الصبية التي صاحبت ماري في الكثير من رحلات جمع الحفريات: «لقد استغلت ماري بشدة… فبينما كانت تلك الصفوة المتعلمة تعتمد على كل ما تتوصل إليه ماري من تفصيلات ضرورية لنشر نتائجهم النهاءية، كانت ماري لا تحصل على أية امتيازات نظير تلك الاكتشافات.»
وكذلك كتب تورانس أن الظلم والتجاهل الذين تعرضت لهما ماري كانا جزءا من منظومة أكبر من التجاهل الذي تعرضت له الإسهامات العلمية المقدمة من الطبقة العاملة في أوائل القرن التاسع عشر. فغالباً ما كان الحجار، أو عامل الطرق، أو عامل البناء يجمع الحفريات ثم يبيعها لجامع الحفريات الثري، فإذا كانت المستحاثات التي اكتشفت ذات قيمة علمية، فإن الأخير كان يحصل على كل الامتيازات والتقدير.
كان الكثير من علماء الجيولوجيا يزورون ماري، ليس فقط من أجل شراء الحفريات، ولكن أيضاً للخروج معها في رحلات جمع الحفريات، وكذلك لمناقشة أمور التشريح. فعلى سبيل المثال: كانت ماري وهنري ديلابيك أصدقاء، أثناء مرحلة المراهقة وبعدها، حين أصبح هنري أحد أبرز علماء الجيولوجيا في المملكة. فقد كان هنري، وماري، وأحياناً جوزف آننج، يذهبوا معاً في رحلات جمع الحفريات.
أما ويليام بكلاند، أستاذ الجيولوجيا بجامعة أوكسفورد فكان يقضي إجازات عيد الميلاد بلايمريجس، حيث شُهِد، وماري، يجمعان الحفريات.
ويبدو أن بكلاند قد استفاد كثيرا من الإثباتات العلمية التي توصلت إليها ماري; فقد أثبت أن البازهر المخروطي، الذي أسماه بالكوبراليت، ما هو إلا روث أكتيوصور أو بليزوصور متحفر.
وفي عام 1839 قام كلاً من ويليام بكلاند، وريتشارد أوين، وكونيبير بزيارة لايم، حيث ذهبوا جميعا في رحلة لجمع الحفريات، بصحبة ماري.
وكذلك ساعدت ماري جامع الحفريات توماس هوكنز في جمع هياكل الإكتيوصور من ساحل لايم ريجس في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بيد أنها لاحظت ميل هوكنز لتحسين الهياكل المتحفرة، فقالت عنه: «لقد كان يضع الأشياء تبقاً لتصوره هو، وليس على الصورة التي وجدت عليها….».
ونتيجة لذلك، أثيرت فضيحة كبرى حول العظام التي يضيفها هوكنز إلى هياكل الإكتيوصور، كي تبدو مكتملة، قبل أن يبيعها لمتحف التاريخ الطبيعي بالمتحف البريطاني، دون علم المثمنون بتلك الإضافات.
وفي عام 1834 قام عالم الحفريات السوسري، لويس أغاسيز بزيارة ماري لجمع ودراسة حفريات الأسماك، حيث أعجب بمهارتها، هي وصديقتها إليزابيث فيلبوت، حيث شكرهما في كتابه دراسة في الأسماك المتحفرة (Studies of Fossil Fish). كما كتب عنهما في مذكراته: «لقد استطاعت الآنسة فيلبوت وماري آننغ أن ترياني سلالات عديدة من أسماك القرش».
المرض والوفاة
توفيت ماري في التاسع من مارس لعام 1847، عن عمر يناهز السابعة والأربعين، بعد صراع مع سرطان الثدي. حيث تضاءل عملها تدريجياً خلال السنوات الأخيرة من حياتها بسبب ظروف مرضها. إذ شاع بين سكان لايم أن ماري لديها مشكلة بسبب كثرة شرب الخمور، نظراً لكثرة تناولها لجرعات كبيرة من صبغة الأفيون، كونها مسكن قوي للآلام التي كانت تعاني منها.
وفي عام 1846، بعدما تبين للجمعية الجيولوجية أن ماري تعاني من السرطان، قام أعضاء الجمعية بجمع تبرعات لمساعدة ماري في نفقاتها، كما قامت إدارة متحف بلدة دورست، الناشئ، بتعيين ماري عضو شرف فيه.
دُفنت ماري في كنيسة القرية، كنيسة سانت مايكل، في الخامس عشر من مارس.
وبعد وفاتها بأربع سنوات، شارك أعضاء من الجمعية الجيولوجية في بناء نافذة زجاجية تذكارية، تخليداً لاسم ماري آننغ بكنيسة سانت مايكل. وفي عام 1851 افتتحت النافذة التي تصور أعمال الرحمة الست: إطعام الجائع وسقي العطشان، وإكرام الغريب، وكساء العريان، وزيارة المريض، وافتقاد السجين، حيث كتب عليها بالنص: “هذه النافذة تخليدا لذكرى ماري آننغ، ابنة هذه القرية، التي قضت نحبها في التاسع من مارس لعام 1847، شيده قس القرية وبعض أعضاء الجمعية الجيولوجية، تقديراً لإحسان قلبها واستقامة حياتها، وعرفاناً لدورها في إثراء علم الجيولوجيا”.