فؤاد سيزكين.. وإعادة اكتشاف تاريخ العلم الضائع
للفيلسوف والمفكر الألماني الكبير جوتيه طلب جريء، حيث أنه كان يرى ضرورة إعادة (كتابة التاريخ) من حين لآخر. وهذا أمر يصعب على أهل المشرق تنفيذه، لأن ذلك أمر مسبب للاختلاف. ولكن يكفيهم في الوقت الحاضر محاولة إعادة (اكتشاف التاريخ) كل زمن وآخر.
قبل عشر سنوات فقط نشر الكاتب والسياسي الأمريكي مايكل مورجان كتابه الرائع (تاريخ ضائع) والمتعلق برصد أبرز معالم وانجازات العلوم العربية والإسلامية في الطب والعلوم البحتة. وبالرغم من أن الهدف الأساسي للكتاب كان تعريف المجتمع الغربي والأوروبي بالتراث العلمي الضائع للعرب والمسلمين إلا إن الواقع المرير يشير إلى أنه وحتى عقود زمنية ليست بعيدة كثيرا كانت الأمه العربية نفسها شبه مغيبة عن تاريخها العلمي الباهر.
كما هو معلوم ازدهرت العلوم العربية في (عصرها الذهبي) في القرن الثاني الهجري ولكن بعد ذلك بألف سنه غيب عن العرب تقريباً هذا التاريخ العلمي المجيد. ففي نهاية القرن الحادي عشر الهجري لم يبق في الذاكرة التاريخية العربية من أخبار الإنجازات العلمية إلا أسماء الكتب والمخطوطات العلمية وبعض المعلومات العامة التي نشرها المؤرخ والجغرافي العثماني المعروف حاجي خليفة في كتابة المهم (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون). وربما لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إنه باستثناء كتب الطب والصيدلة والعطارة لم يتبق إلا فئة قليلة من العرب من يهتم بنسخ ودراسة واقتناء المخطوطات العلمية البحتة، ولهذا أصبح هذا النوع من الفنون المعرفية شبه منسي.
للأسف الشديد عندما خفت وهج ذلك التاريخ العلمي العربي المنسي لم يظهره مرة ثانية للنور المحققون والباحثون العرب والمسلمين وإنما كان للمستشرقين الجهد الرائد في نشر الميراث العلمي العربي والتعريف به. لقد كانوا هم من بدأ في إعداد الدراسات العلمية والتاريخية على مخطوطات الكتب العلمية العربية بعد ترجمتها ونشروا في ذلك الآلاف من الدراسات والمئات من الكتب، بل إنهم نشروا المجلات البحثية المتخصصة في هذا المجال والموسوعات المعرفية. ومن عجائب الصدف أن أبرز وأكثر المخطوطات العلمية العربية موجودة اليوم ليس في المدن والعواصم العربية ولكن في مكتبات فرانكفورت الألمانية وليدن الهولندية وبوردو الفرنسية.
وفي حين أن اسهام العلماء والباحثين العرب في التعريف بالحضارة العلمية العربية لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين نجد أن بعض المستشرقين ومنذ فترة مبكرة جداً ساهموا بمجهود مميز في هذا المجال. فالمستشرق الفرنسي جان جاك سديو ومنذ مطلع القرن التاسع عشر ظل لعقود طويلة ينشر الأبحاث عن علم الفلك الإسلامي، في حين أن المستشرق الألماني فرانز فبكه نجده في نفس تلك الفترة تقريباً يعتني بدراسة كتب علم الرياضيات العربية. بل إن الأغرب من ذلك أن عالم الفيزياء الألماني إيلهارد فيدمان ليس فقط نجده في نهاية القرن التاسع عشر يهتم بدراسة الكتب العلمية العربية ولكن أيضا كان هو تقريباً أول شخص يبدع فكرة (إعادة إحياء) الآلات والمخترعات العلمية العربية حيث قام بنفسه بصناعة عدد كبير من نماذج الآلات العربية القديمة وبعض هذه النماذج ما زالت موجودة في أرشيف متحف مدينة ميونخ الألمانية. وهذا العالم فيدمان يعتبر أعجوبة بحق في تنوع المواضيع العلمية العربية التي نشر مخطوطاتها في موسوعته الضخمة (مقالات في تاريخ العلوم العربية) والتي ترجمها أستاذنا الجليل الدكتور عبد الله حجازي ونشرتها جامعة الملك سعود بالرياض.
وبعد هذه المقدمة السردية المختصرة وبالرغم من شعورنا بالحزن الشديد على المصاب الكبير على الأمة الإسلامية والعربية بوفاة العالم والباحث الكبير فؤاد سيزكين قبل أيام قليلة إلا إنه يصعب علينا تجنب طرح فكرة التدقيق في صحة توصيفه بأنه (مكتشف الكنز المفقود). قبل حوالي ثلاث سنوات قام الكاتب التركي عرفان يلماز بنشر كتاب رائع جداً حمل عنوان (مكتشف الكنز المفقود وجولة وثائقية في اختراعات المسلمين) وهذا الكتاب أشبه بالسيرة الذاتية لحياة الفقيد الكبير الدكتور فؤاد سيزكين وجهوده الفريدة والضخمة في نشر التراث العربي وخصوصا في مجال العلوم الإسلامية. كما يتطرق الكتاب للمجهود الرائد والهام للدكتور سيزكين في تأسيس معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في مدينة فرانكفورت وكذلك اسهامه في تصنيع الآلات والمخترعات العربية القديمة واقامته للمتاحف العلمية المتخصصة بها. ومع كامل التقدير والاعتراف بأسبقية وجهود ومشوار الدكتور فؤاد سيزكين في هذا المجال والذي امتد لأكثر من نصف قرن إلا أن وصفه بأنه (مكتشف الكنز) العلمي العربي المفقود هو توصيف غير دقيق.
أعتقد أنه من الإجحاف إغفال أن المستشرقين هم من بدأ مشوار (اكتشاف تاريخ العلم العربي) بل أن جهود العالم والمؤرخ البلجيكي جورج سارتون في كتابه الموسوعي (تاريخ العلمي) في التعريف بالعلوم العربية تعتبر رائده بكل المقاييس خصوصاً وأنها من قامة علمية ذات مكانة بحثية عالية ومصداقية كبيرة.
بقي أن نقول أن الأبحاث والدراسات العلمية والتاريخية في مجال التعريف بالعلوم العربية والإسلامية مجال نشط ومتجدد وللعديد من العلماء والمؤرخين المعاصرين قدم راسخة في هذا المجال ونخص بالذكر هنا المؤرخ اللبناني جورج صليبا أستاذ العلوم العربية والإسلامية بجامعة كولومبيا الأمريكية والمؤرخ الإيراني الأصل سيد حسين نصر أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن والمفكر والمؤرخ المصري رشدي راشد الباحث في المركز الفرنسي القومي للأبحاث العلمية الذين لهم انتاج أكاديمي في قلب العالم الغربي. كما لا يفوتنا الاشارة والاشادة بالجهود المخلصة والمميزة لعالم الرياضيات السعودي الكبير علي بن عبدالله الدفاع وسلسة كتبه (إسهام علماء العرب والمسلمين) وكذلك الزميل العزيز الدكتور والكاتب العلمي السوري سائر بصمة جي الذي يعتبر حاليا ومن وجهة نظري هو خليفة فؤاد سيزكين وحامل لواء هذا العلم المعرفي العربي الرائق.