منوعاتنابغون

“علم النوم”.. رحلة لحل ألغاز عالمنا الآخر

على مدى قرون اعتقد الناس أن النوم طريقة لإعادة شحن بطارية الإنسان بالحيوية فقط، لكن هذا الاعتقاد تغير مع اكتشاف الكثير من الأسرار والوظائف التي يقوم الدماغ بها أثناء النوم، ففي بعض مراحل النوم يكون الدماغ بنفس النشاط إن لم يكن أكثر نشاطا مما هو عليه خلال اليقظة، ويحاول الباحثون حول العالم أن يخترقوا عالم النوم الغامض وأن يفككوا أسراره.

هذه الأسرار يتناولها فيلم “علم النوم”، ومن شأنها أن تغير حياتنا، “فما يحدث خلال النوم يسمح بما يحدث خلال يقظة الدماغ”.

تصحب معدّة الفيلم المشاهدين في رحلة من المفاجآت والاكتشافات، من عزف الموسيقى إلى اللعب بالدمى، ومن مدينة لا تنام أبدا إلى غرفة معزولة في جبال كولورادو الصخرية، كل ذلك من أجل الإجابة على السؤال: لماذا ننام؟

نوم الطيور.. عين يقظة وأخرى تغط في سبات عميق

في الريف الألماني يقع أحد مراكز الأبحاث الفريدة في العالم، في داخل هذا المركز كشف العلماء أحد أول الأدلة التي ترجح أن دور النوم يتجاوز الاحتفاظ بالطاقة، فقد أمضى الدكتور “نيلز راتينبرغ” عشر سنوات لإجراء أبحاث في مركز “ماكس بلانك”، لكنه لا يتناول عالم النوم التقليدي، بل يدرس نوم الطيور.

يقول د. راتينبرغ: الطيور مجموعة ممتازة من الكائنات لدراسة النوم لأنها طورت أنماطا من النوم تشبه بشكل ملحوظ تلك التي عند الثدييات بما فيها نحن.

وبينما تنام كل الحيوانات، فإن العلماء مثل “راتينبرغ” يعلمون أن الطيور وحدها هي التي تملك موجة نوم بطيئة وحركة عين سريعة مثل البشر، وقد أراد الدكتور “راتينبرغ” أن يبرهن على ما كان رائدا في اكتشافه وطلب من معدّة البرنامج التسلل خلف مجموعة إوز نائمة.

بدا الأمر سهلا فالإوز نائم فعلا، وعندما اقتربت منه استيقظ واتجه إلى الماء، ولكن ما إن تراجعت للخلف حتى عاد بعض الإوز للنوم مجددا.

وحسب الدكتور “راتينبرغ” فإن الإوز هرب منها بفضل شيء مذهل في دماغه، إنه يدعى “النوم نصف الدماغ الأحادي”، وتقوم به الحيتان والدلافين أيضا. وبينما يبقى نصف الدماغ يقظا وتبقى عين واحدة مفتوحة، فإن الجزء الثاني يغط في نوم عميق والعين الأخرى مغلقة.

ونظرا إلى هذا التكيّف غير العادي، يعتقد “راتينبرغ” أن ما يحدث داخل الدماغ النائم يجب أن يكون مهما للحياة، وهو ليس وحده في ذلك.

حين ينام الأطفال الرضع يتذكرون أشياء بعد النوم لا يتذكرها الأطفال الذين لم يناموا

عالم الرضّع.. اختبارات النوم والتعلم

غالبا ما تمضي أخصائية علم نفس الأطفال واليافعين الدكتورة “سابينا سيهاغن” وقتا أطول في الطرقات أكثر مما تمضيه في مختبرها في جامعة “الرور” غربي ألمانيا، وذلك لأن شخصيات أبحاثها تنام من الوقت أكثر مما تستيقظ، إذ ينام الرضع 16 ساعة يوميا، مع فترات يقظة لساعة أو ساعتين.

وقد أرادت الدكتورة “سيهاغن” أن تكتشف ما إذا كان النوم يساعد الأطفال على الاحتفاظ بالذكريات، حيث تقول: على الأطفال الرضع أن يتعلموا كثيرا خلال السنوات الأولى من حياتهم وهم يتطورون بشكل مدهش يوما بعد يوم، وقد كنا مهتمين برؤية إن كانت إحدى مهمات النوم هي تسهيل معالجة الذاكرة.

واختارت الدكتورة “سيهاغن” مهمة تتطلب أن يتذكر الطفل ثلاث خطوات مترابطة، وتوضح: نحن نستخدم دمى اليد ونريهم ثلاث حركات، نريهم كيفية خلع القفاز وكيفية هزه لإصدار صوت، ثم كيفية إرجاعه.

يقع “الحصين” عميقا داخل الدماغ وهو المكان الذي يتم فيه تشفير وتخزين ذكريات محددة، إن القشرة المخية الحديثة هي الجزء الخارجي الكبير من دماغنا وهي تؤسس الروابط بين الذكريات.

تقوم الدكتورة “سيهاغن” ومساعدتها “كارول” بتعليم مهمة معالجة الذاكرة لعدة أطفال في منازل ذويهم، وعندما ينتهي الاختبار يبقى بعض الأطفال مستيقظين، بينما يأخذ بعضهم قيلولة، وبالنسبة لـ”سيهاغن” فإن هذه القيلولة فرصة نادرة لاكتشاف ما إذا كان الدماغ النائم يفعل شيئا استثنائيا بالمعلومات التي تلقاها للتو.

تقول الدكتورة: إذا كان النوم يساعدهم فعلا على الاحتفاظ بالمعلومات، فإن الأطفال الرضع الذين ناموا بعد التعليم سيتذكرون الحركات، بينما الأطفال الذين انتظروا وقت النوم المعتاد فلن يتذكروها.

لم تحظ الطفلة “كارلا” بقيلولتها بعد، ومثل باقي الأطفال لديها فقط 90 ثانية لتكرار الحركات التي رأتها سابقا، ولكنها لا تظهر أي إشارة على أنها تتذكر الخطوات الثلاث.

بناء الذكريات الطويلة.. حل أكبر ألغاز الطفولة

تقول الدكتورة: قبل أن نبدأ دراستنا لم يكن هناك الكثير من المعلومات حول أهمية النوم لذاكرة الأطفال الرضع، وأنا مهتمة جدا لرؤية أن الأطفال الذين انتظروا وقت نومهم المعتاد لم يظهروا أي إشارة لتذكر ما أريناهم إياه من قبل.

في الجهة الأخرى من البلدة استيقظ الطفل “موريس” للتو من قيلولة دامت أربع ساعات، إنه دوره الآن وبدون تردد يبدأ بالعمل وينجح فيه، وتظهر الدراسة أن النوم يلعب دورا أساسيا في المعالجة المبكرة للذاكرة، وهذه مهمة أساسية جدا للأطفال الرضع، أن يتمكنوا من بناء ذكريات على المدى الطويل لاستخدامها في وقت لاحق.

أجرت د. “سيهاغن” وزملاؤها هذا الاختبار على أكثر من 200 طفل رضيع، وقد خرجوا بنتائج مماثلة. تقول الدكتورة: في الواقع أعتقد أن دراستنا تظهر عدة أشياء مذهلة حول الأطفال، فحتى بضعة عقود مضت، كان الكثير من الناس يشككون فيما إذا كان بإمكان الأطفال الرضع أن يشكلوا ذكريات على المدى الطويل.

في جامعة هارفارد، أثبتت الدراسات بأن النوم يزيد من ذاكرة وقدرة الإنسان على تذكر المقطوعات الموسيقية

مقطوعة “شوبان”.. بين عزف النائم واليقظان

إذا كان الأطفال بحاجة إلى النوم لمعالجة الذكريات والتعلم، فهل ينطبق هذا على البالغين مثل “جورج”؟ هذا السؤال يُجيب عليه “روبرت ستيك غولد” وهو واحد من علماء النوم الرائدين في العالم.

يمارس “جورج كو” طقسا تقليديا في جامعة هارفارد، إنه يدرس دراسة مكثفة ويحاول تعلم مقطوعة “شوبان”، لكن الوقت يمضي، وقد كان لديه هذا الأسبوع الكثير من العمل، كما أن لديه حفلا غدا ولم يتمكن من التمرن بكثافة، ولكن بالنسبة له فإن الحل لا يحتاج إلى تفكير، “على الأرجح أنني لن أنام هذه، الليلة سأستمع لزقزقة العصافير في الصباح الباكر”.

لاكتشاف ما إذا كانت معالجة الذاكرة تعتمد على النوم هناك حاجة إلى خلق مهمة معقدة للتعليم والمهارات الحركية، لكن الدكتور “غولد” أعد نسخة مبسطة جدا لعزف مقطوعة “شوبان” وأخضع معدة البرنامج ومرافقتها للتدرب على العزف، وطلب من إحداهما أن تنام مرتين خلال التدريب.

نتائج الزميلة التي لم تنم خلال فترة التدرب لم تظهر أي تحسن في سرعة العزف. ولكن حكاية معدة البرنامج كانت مختلفة تماما فقد تحسنت بنسبة 23%. تقول المعدة: من الصعب التصديق أن ليلة واحدة من النوم ستساعدني على تعلم التسلسل وتجعلني أسرع في العزف، إن الأمر هنا يتمحور حول “من الأكثر تحسنا في التعلم؟”.

يعلق “روبرت ستيك غولد” الذي يعمل أستاذا للطب النفسي بكلية هارفارد للطب قائلا: لا يقتصر الأمر فقط على الأكاديميين والطلاب الذين يتعلمون طوال الوقت، فنحن جميعا نتعلم في كل الأوقات، فعند تشغيل السيارة تتعلمين المزيد عن المدة التي يجب عليك خلالها إدارة المفتاح ودوس الوقود، وفي كل مرة تستديرين فيها عند منعطف تحددين الدقة في ذلك، لذا نحن نتعلم ونعي في جميع الأوقات. ولكن حين ننام بعد التعلم يقوم الدماغ بتثبيت تلك الذكرى كي نتمكن من استعادتها بسهولة، وكلما كانت مهمة التعلم معقدة، كانت الاستفادة من النوم أكبر.

ويضيف: ولكن عندما لا نحظى بقسط وافر من النوم، فهذه المعلومات لا نحتفظ بها، فإذا لم تنامي قسطا وافيا في الليلة التالية بعد التعلم فلن تختبري الفوائد المحتملة للنوم، حتى لو نمت مقدار ما تريدين بقية الأسبوع، إذن في سبيل التعلم نحتاج للنوم ليلة بعد ليلة وإلا سنخسر كل شيء.

وعند هذه النقطة تعود الكاميرا لـ”جورج كو” وهو يعزف في بهو فسيح، ثم يقول: حين أقول للناس إننا نتعلم كثيرا خلال النوم، يعتقدون أن هذا نوع من التناقض وإنه لا يمكنك التعلم وأنت نائم، ولكن دماغك يقوم بالمهمة التي خلق من أجلها. أعتقد أن الدماغ يعالج أهم الذكريات والمهام الدماغية تعقيدا أثناء النوم.

ثمة تشابه بين أثر النقص في كمية النوم والجلطات الدماغية على نفس الجهة من دماغ الإنسان

تنمية الحدس.. لعبة المدينة التي لا تنام

يمكن العثور على جواب السؤال “لم ننام؟” في المدينة التي لا تنام، وإذا كنا نريد أن نضحي ببعض النوم أملا في الحصول على شيء أفضل، فهذا هو المكان المناسب “لاس فيغاس”.

يقول أستاذ الطب النفسي بجامعة أريزونا د. “سكوت كيلغور”: إذا شاهدت تلك الحلقات القديمة من “ستار تريك”، سترين أن “سبوك” في بعض الحالات كان يملك دائما القدرة العملية على اتخاذ القرار المنطقي، لذا لم يسمح للعواطف أن تؤثر على قراراته، بينما كان “كيك” يعود إلى ذلك الشعور الحدسي العميق ويتخذ القرار الصائب.

وللولوج داخل الدماغ حيث يجري خلق ذلك الحدس، ابتكر “سكوت كيلغور” اختبارا مهما يعتمد على مهمة مصممة بشكل خاص. يقول “سكوت” مخاطبا معدة البرنامج قبل دخول الاختبار: الفكرة الأساسية هي وجود أربع مجموعات من ورق اللعب، وعملك أن تحاولي ربح أكبر مبلغ من المال وأن تتجنبي خسارة أي أموال خلال العملية.

ومن أجل السير قدما ستعتمد المعدّة على الحدس فقط لاتخاذ القرارات الصائبة أمام تعقيدات اللعبة، وقد خضعت معدة البرنامج للتدرب وربحت ألف دولار في لعبة المقامرة. وبعد أن أمضت ليلة كاملة من دون نوم وسط صخب لاس فيغاس عادت في الصباح التالي للدكتور “كيلغور”.

وبعد مرور 24 ساعة من دون نوم، عادت للعب أوراق المقامرة من جديد، ولكنها لم تستطع التركيز، وبدلا من الربح خسرت 800 دولار، والسبب يمكن إيجاده في أن جزءا حساسا من الدماغ توقف كليا عن العمل بعد مرور 24 ساعة دون نوم.

يقول “كيلغور”: هذا الجزء لم يعد نشطا لذا لم يعد بإمكانه التشغيل ودمج العواطف من أجل توجيه الأفكار والقرارات، ولذا تضعف أحكامك، لا يمكنك معرفة الجواب الصحيح والاعتماد على حدسك في معرفة الطريق الذي يجب سلوكه.

تلف الدماغ.. تأثير النوم على اتخاذ القرارات

المدهش في اختبار الدكتور “سكوت كيلغور” أنه اكتشف ذات التشوش الحاصل في الدماغ بسبب عدم النوم عند الأشخاص الذين تعرضوا لجلطات في الموقع نفسه من الدماغ، ولذا فإن الحرمان من النوم هو نوع من تلف الدماغ المؤقت. ويقول: الأمر يشبه نوعا ما تلف الدماغ ولكن الحصول على ليلة نوم جيدة يمكنه عكس العمل وإعادتك إلى خط الأساس.

وعند الغوص عميقا داخل الدماغ اكتشف الدكتور “كيلغور” علاقة مباشرة بين النوم والنظام العاطفي الذي يوجه البشر لاتخاذ القرارات، حيث يقول: لا يمكننا فهم كل شيء بعد، ولكن العمل الكثير الذي قمنا به يظهر أن خفض مدة النوم لبضع ساعات يؤثر على الترابط في الدماغ وهذا بدوره يؤثر على الذكاء العاطفي واتخاذ القرارات.

الدكتور “كيغور” هو أيضا عقيد في الجيش الأمريكي، ومن خلال معالجة العسكريين الذين حاربوا في الجبهات اكتشف أنهم قد منحوا نافذة فريدة يطل منها على عالم النوم، حيث يقول: كنا نقوم بأبحاث عن النوم، ومعظم الناس كانوا يركزون فقط على رد الفعل وبعض العمليات الإدراكية البسيطة، ولكن ماذا عن ذلك الجانب الآخر حول تحديد الخيارات التي نقوم بها؟

وفي هذا المحور يعرض الوثائقي مقاطع لجنود أميركيين في المعارك؛ بينما يتحدث الدكتور: هل نلقي القنبلة الآن، هل نضغط على الزناد؟ لأن هذه ليست قرارات باردة، فأنتم لا تأخذونها مثلما يفعل الحاسوب. إنها حالات مشحونة عاطفيا، ونحن بحاجة للمزيد من المعلومات حول تأثير قلة النوم على الأداء العاطفي.

وفي قلب هذا البحث يوجد نوع من التناقض فكما يبدو فإن عواطفنا لا تجعلنا نتخذ قرارات خاطئة فهي في معظم الوقت تساعدنا في اتخاذ القرارات الجيدة، فنحن نقوم باتخاذ آلاف القرارات يوميا والعديد منها يقع بشكل حدسي، والحدس يحركه نوع خاص من الذاكرة يسمى الذاكرة الانفعالية، فحين نختبر شيئا ما يصنفه الدماغ على أنه سلبي أو إيجابي، وحين يحين الوقت لاتخاذ القرار تقوم هذه الذكريات العاطفية بمساعدتنا.

العلاقة بين كمية الطعام المستهلكة والنوم علاقة عكسية

قلة النوم.. أقصر الطرق إلى السمنة

على مدى سنتين ونصف عاش متطوعون في جامعة كولورادو داخل ما يشبه وحدة حيوية، كانوا ينامون ويأكلون ويعملون لمدة أسبوعين في مختبر معزول عن العالم الخارجي، وكل شيء يفعلونه يراقب بحذر، فلا يمكنهم أخذ قيلولة أو تناول أي سعرة حرارية دون قياسها، وهذه التجربة من بنات أفكار عالم الأعصاب الدكتور “كين رايت”.

إذا كان الحرمان من النوم يمكن أن يؤدي إلى تلف دماغي مؤقت فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعطل نظام آخر يديره الدماغ؟ والمقصود هنا النظام الذي يتحكم في كمية الطعام التي يتناولها الإنسان، فقبل أكثر من قرن كان البشر ينامون تسع ساعات في الليل، بينما اليوم ننام أقل من سبع ساعات.

يقول الدكتور “كين رايت”: مليار ونصف حول العالم ونحو 150 مليون طفل في عمر المدرسة و43 مليون طفل في صفوف الحضانة هم ذوو وزن زائد أو بدناء، وحاليا أكثر من نصف السكان البالغين لا يحصلون على الحد الأدنى للنوم ليليا وهو سبع ساعات.

سمح الدكتور “رايت” للمتطوعين في الوحدة بالنوم تسع ساعات ليليا طيلة أسبوع، ثم قلص هذه المدة بنسبة 50% في الأسبوع الثاني، وعندها لاحظ تغيرا في كمية الأكل التي يتناولونها، “إن كمية الطعام ترتفع وهم يأكلون أكثر”.

ولا يقتصر الأمر على الوجبات الرئيسية فالمتطوعون يستهلكون المزيد من الوجبات الخفيفة، فهم يأكلون أكثر بعد العشاء، ويصبح الأمر وكأنهم يتناولون أربع وجبات بدلا من ثلاث، ولكن الأمر الأكثر دهشة هو التأثير على الهرمونين اللذين يتحكمان بكمية الطعام وهما “الجريلين” و”الليبتين”.

في العادة يرسل “الجريلين” إشارة للدماغ حين يحين وقت الطعام، في حين يخبر “الليبتين” الدماغ حين يخزن الجسم ما يكفي من الطاقة وأن الوقت قد حان للتوقف عن الطعام، ويبدو أن قلة النوم تؤدي لانهيار في هذا الجزء الحساس من نظام تنظيم الوزن الخاص بالإنسان.

وبينما يتناول المتطوعون المزيد من الطعام فإن “الجريلين” و”الليبتين” يشيران للدماغ بأنه حان وقت التوقف عن الأكل ولكن هذه الرسائل لا تصل، وكمية الوزن التي اكتسبوها صادمة، فبعد مرور خمسة أيام فقط من قلة النوم زاد وزنهم بـ800 غرام. “لسوء الحظ فإنه عندما لا ينال الناس قسطا كافيا من النوم فإنهم يأكلون أكثر من الوضع الطبيعي”.

6 سنوات من الأحلام.. لغز منذ فجر التاريخ

إذن فالنوم ينظم الوزن ويوجه قراراتنا، ولكن هل يؤثر على وظيفة أساسية أخرى يتحكم بها الدماغ؟

السؤال هنا عن الأحلام.

يحاول العلماء معرفة ما إذا كان عالم الأحلام يلعب دورا مهما في وقت اليقظة، وقد تحدث فريق الفيلم للدكتور “أنتونيو زادرا” وهو أستاذ علم النفس بجامعة مونتريال، ومفتون طوال حياته بالأحلام. يقول “زادرا”: الفضول يراود الناس حول الأحلام منذ فجر التاريخ، وقد تساءلنا حول مصدر الأحلام: كيف تتشكل، وهل تحمل أي معنى؟ نحن نمضي 52 ألف ساعة من حياتنا ونحن نحلم، وهو ما يعادل ست سنوات.

من أجل الكشف عن أسرار الأحلام كان على الدكتور “زادرا” أن يجد طريقة لدخول هذا العالم الغامض، ويبدو أن المفتاح بيد أشخاص مثل الفنان “جيمس سايون” الذي يشكل مع 100 آخرين جزءا من مجموعة فريدة، إنه أحد حالمي الدكتور “زادرا”.

قام الدكتور “زادرا” بجمع وتقييم 10 آلاف حلم مذهل من هؤلاء الأشخاص، واكتشف أن النساء يحلمن بالعلاقات، بينما يحلم الرجال بالمصائب، كما اكتشف أن الأحلام تفتح نافذة على السلامة النفسية، و”كلما كانت العواطف التي نختبرها في الحلم سلبية، وكلما كانت التفاعلات سلبية وعدوانية مع الآخرين أثناء الحلم، كنا أميل لأن نكون أقل سعادة وأكثر قلقا وأكثر اكتئابا”.

الأحلام ليست أحداثا عشوائية أو فوضوية ففيها تسلسل واستمرار وترابط بين ما يحدث خلال اليقظة ومضمون الأحلام

الحصين.. مخبأ الذاكرة الآمن

تظهر اكتشافات د. “أنتونيو زادرا” أن الأحلام ليست أحداثا عشوائية أو فوضوية “وحين تنظرون إلى أحلام الناس ترون أنه يوجد تسلسل فيها، بمعنى أنكم ترون استمرارا وترابطا بين ما يحدث خلال اليقظة ومضمون الأحلام”.

ويقول عالم النوم “ستيغولد”: خلال نومنا وخصوصا حين نحلم نقوم عادة بتحليل أحداث يومنا لفهمها، ويُعتقد أن هذا بسبب محادثة غير اعتيادية تحدث داخل الدماغ النائم، فما إن نذهب إلى النوم حتى تتدفق الذكريات خلال النهار من الحصين حيث يجري تخزينها وتقييمها في القشرة المخية الحديثة ثم ربطها بذكريات أخرى.

تصل القشرة المخية الحديثة لأعلى مستوياتها حين نحلم، وخلال أول دورة نوم بطيئة يبدو أن القشرة المخية الحديثة تقول للحصين: هذا يشبه ما حدث الشهر الماضي. وكأن مقدمة الدماغ تقول للحصين: حسنا هذه التفاصيل ليست مهمة وتلك مهمة، وتقول للحصين ما عليه فعله بالمعلومات.

يقوم الحصين بالعمل في القشرة المخية الحديثة ليرى كيف تتلاءم الأشياء مع بعضها. ولتأكيد أن الأحلام تساعدنا على ربط الذكريات ببعضها لتكوين معنى، صمم “ستيكغولد” سلسلة من الاختبارات الفريدة، وفي إحدى هذه الاختبارات قام بتدريب مجموعة من الناس على عبور متاهة، وبعد ذلك أخذ نصفهم قيلولة بينما بقي النصف الآخر مستيقظا.

لاحقا عاد الأشخاص ودخلوا المتاهة مجددا، أما الذين أخذوا القيلولة فقد وجدوا المخرج في وقت أسرع من غيرهم، ولكن ما أثار دهشته هم أولئك الذين حلموا بالمتاهة فقد وجدوا المخرج بوقت أسرع عشر مرات مقارنة بغيرهم. إن “الأحلام هي انعكاس لنوع العمليات التي يقوم بها الدماغ خلال نومنا”.

تدوين الأحلام اليومية.. طريق إلى تحليل الشخصية

يعتقد د. “أنتونيو زادرا” أنه إن كان يمكن إيجاد أنماط في فوضى الأحلام، فإنه يمكنها كشف شيء ما حول الصحة النفسية، لذا طلب من معدة برنامج تلفزيونية تدوين يوميات أحلامها طيلة ستة أسابيع قبل أن تزوره مجددا في مكتبه، وبعد الاطلاع عليها خاطبها قائلا: وجدت فرصة لقراءة أحلامك وحاولت تحديد محتواها من حيث الشخصيات التي ترينها والأجواء العامة والتفاعلات الاجتماعية.

تقول معدة البرنامج: لا يعلم زادرا عني سوى القليل، فكل ما يعرفه عني هو أنني أقدم برامج تلفزيونية، لكنه شخّص مشاكلي من خلال حلم حول ماسورة تسرب الماء، واكتشف أيضا أنني أقلق بشأن مظهري الخارجي وقيمة عملي.

وهناك شيء مهم باحت به أحلامها وحدثها عنه “زادرا” قائلا: في أكثر من نصف أحلامك توجد إشارات لحيوانات، ووجود العديد من الحيوانات وطريقة تفاعلك معها تدفعني للقول إنك تهمتين بها، فسلامة الحيوانات تهمك بشكل عام.

البروتين المسمى “إيملويد بيتا” يُصنع في الدماغ كل وقت، وترتفع مستوياته في اليقظة وتنخفض وقت النوم

وظيفة النوم البيولوجية.. جولة مجهرية داخل الدماغ

إذا كان النوم يسمح لنا بدخول العالم الغامض للأحلام، فهل يمكن أن يكون متورطا في إحدى أكبر أحجيات الدماغ التي لم تحل بعد؟

نظريا كل المخلوقات على هذا الكوكب تنام كل ليلة، وللمرة الأولى نبدأ بفهم كيف تقوم هذه الطقوس الليلية بتنظيم كل جوانب حياتنا في اليقظة تقريبا، ولكن هناك جانب واحد يستعصي عن الباحثين، إنه الكشف عن الوظيفة البيولوجية الحقيقية للنوم.

بدأ عالم الأعصاب الدكتور “جيف أيليف” وفريق من جامعة “روشستر” بحثهم مع دليل محير حول البروتين المسبب لمرض الزهايمر، إذ يقول “أيليف”: هناك بروتين يدعى “إيملويد بيتا” وهو يُصنع في الدماغ كل الوقت، حين تكون مستيقظا فإن مستوياته في الدماغ ترتفع، وحين تنام فإن مستوياته تنخفض.

يحاول الدكتور “أيليف” الاطلاع على ما يجري داخل عالم الدماغ النائم ويقول: لدينا مجهر قوي جدا ومتخصص، ويمكنه أن يضيء الدماغ الحي أثناء قيامه بكل مهامه.

وما يراه الدكتور هو شبكة معقدة من الشرايين التي تغوص عميقا داخل مركز الدماغ، لتمد خلاياه بالغذاء والأوكسجين، ولكن هناك شيء آخر غير متوقع، ففي الليل يبدأ الدماغ بالتغير، و”يحدث شيء ما في النسيج نفسه إذ تبدأ خلايا الدعم في الدماغ بالانقباض”.

تنظيف النفايات أثناء النوم.. كيف يوظف الدماغ نفسه؟

يعتقد د. “جيف أيليف” أن فريقه وجد دليلا قد يكون مرتبطا بأحد ألغاز الدماغ الأكثر إثارة للحيرة وتتعلق بالسؤال: كيف يوظف الدماغ نفسه؟

كروافد النهر يعتمد الجسم على نظام الدورة الدموية من أجل توصيل الغذاء إلى تريليونات الخلايا الخاصة به، وهذه الخلايا تفرز النفايات أيضا، وفي النهر تستقر الرواسب في القاع، أما في أجسادنا فلدينا أوعية لمفاوية تجمع الأوساخ، وتحملها عبر مجرى الدم إلى أماكن مثل الكبد حيث يجري التخلص منها، لكن هناك جزء من الجسم لا تصله الأوعية اللمفاوية، إنه الدماغ، فكيف يمكنه تنظيف نفسه؟

يعتقد “أيليف” أن الجواب يرتبط بالتغيرات الغامضة التي يلاحظ حدوثها في الدماغ أثناء نوم الإنسان، فخلال النهار يكون الدماغ محميا بكيس مليء بالسائل يحيط به، وخلال الليل يجري تفريغ هذا الكيس ويُصفى السائل داخل الدماغ، وما يحدث هو أن السائل يتجمع ويستخدم بنية الأوعية الدموية من أجل الوصول إلى كامل الدماغ، وعندما يتسرب هذا السائل داخل الأوعية الدموية وعبر نسيج الدماغ يقوم بأكثر الأشياء إثارة، فهو ينظف ويبعد جزيئات النفايات في الفراغات الموجودة بين خلايا الدماغ.

ولكن عمل هذا الفريق لم ينته من عمله بعد، فما يزال عليهم الإجابة على سؤال بروتين “إيملويد بيتا” المسبب للزهايمر وهو سبب إطلاق مهمتهم البحثية أصلا.

إن “إيملويد بيتا” هو أحد النفايات التي يفرزها الدماغ، وقد توصل الفريق البحثي إلى أن دماغ الإنسان يقوم بكنس هذا البروتين الخطير أثناء النوم.

يقول عالم الأعصاب الدكتور “جيف أيليف” إن سوء النوم ونوعيته مرتبطان بتفاقم حِمل هذا البروتين، ولذا يتراكم المزيد منه في الدماغ “وهكذا فإن فشل الدماغ نوعا ما في المحافظة على نظافة منزله وإزالة الأشياء التي تجب إزالتها خلال النوم، قد يكون في الواقع هو ما يهيئ الأرضية لأمراض مثل الزهايمر”.

الجزيرة الوثائقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى