“ستون عاما بين المتعبين”.. رحلتي من الألم إلى علاج آلام الآخرين
دكتور مهندس/ محمد سمير طليمات
معرفتي بالبروفسور الطريقي حديثة العهد، ولو أني كنت أتمنى لو أني كنت أعرفه منذ زمن طويل. أحسست عندما قابلته أول مرة بمحبة وإلفة، وتذكرت حينها الحديث النبوي الشريف “الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها اتألف وما تنافر منها اختلف”.
لقد شرفني البروفسور الطريقي بطلبه مني الاطلاع على كتابه “ستون عاما بين المتعبين” الذي يحكي ذكرياته، ومراجعته بعين ناقدة. لقد استمتعت بقراءة الكتاب، ولا أخفي أني، أنا الذي أعتبر نفسي عصي الدمع، قد خانتني عيناي في يعض المواضع من الكتاب وأدمعت، لأني تذكرت حوادث مرت معي في مسيرة حياتي العلمية تكاد تتطابق مع ما مر به. ويبدو أنها ضريبة عليه أن يدفعها كل من يدرس ويأتي باختصاص علمي جديد أو بفكرة علمية جديدة.
لقد حاول البروفسور الطريقي طوال مسيرته الحافلة بالإنجازات أن ينفع بعلمه الناس ويخفف من آلام الآخرين ويقلل من تعب المتعبين (جعل الله ذلك في ميزان حسناته)، فهذا في الأساس هو الهدف من العلم. وفي هذا الصدد يحضرني البيتان التاليان:
ولا خير في علم قليل نفعه | ألا إن خـيـر الـعـلـم نـفـع لـلـبـــشر |
إذا أنت لم تنفع بعلم أهله | فلا خير في علم وإن سابق القمر |
تشبه مسيرتي العلمية إلى حد ما مسيرة البروفسور الطريقي. لقد كنت منذ نعومة أظفاري شغوفاً بالعلم (لا بالعلامات) وبالتفكير النقدي (لا بالحفظ عن ظهر قلب)، وأن أصل إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه في العلم والعلوم. فمنذ كنت في المرحلة الابتدائية كان هدفي أن أصل إلى الدكتوراه. حصلت على البكالوريوس في الهندسة، لكنني لم أكتفِ بذلك، وأصررت على المتابعة للحصول على الدكتوراه. واجهت مصاعب كثيرة في الطريق إلى ذلك، لكن هدفي المتمثل في الحصول على الدكتوراه لم يغب عن ناظري. ذهبت إلى ألمانيا (الغربية وقتها) وتفاجأت بأن علي للحصول على الماجستير أن أعيد دراسة كثير من المواد التي درستها في البكالوريوس. كان اختصاص الهندسة الطبية حينها جديداً في ألمانيا، وكان هناك قسم اسمه “معهد الهندسة الطبية الحيوية والسيبرنيتيك الحيوي” افتُتح حديثاً في جامعة كارلسروه، فقررت التسجيل للماجستير فيه. كان يرأس القسم بروفسور طبيب تخصص في الولايات المتحدة في السيبرنيتيك الحيوي. وفي أول محاضرة له سأل الطلاب: لماذا اخترتم هذا الاختصاص؟ كانت الأجوبة مختلفة باختلاف مشارب الطلاب، لكنه فاجأنا بقوله: لقد اخترتم هذا الاختصاص لأن فيه كلمة “طبية”!
استمتعت بدراسة هذا الاختصاص، خصوصاً أن فيه كثيراً من المواد الدراسية الجديدة علي، وربما كان هذا سبب اختياري للاختصاص. كانت أطروحة الماجستير حول نمذجة المشي الإنساني لأغراض التحفيز الكهربي الوظيفي (FES) (لتمكين المشلولين من المشي).
تابعت الدكتوراه في مجال هندسة السلامة، وكان هذا الاختصاص الأكاديمي أيضاً جديداً في ألمانيا في حينه، وكانت الجامعة التي حصلت فيها على الدكتوراه هي الوحيدة في ألمانيا التي فيها كلية لهندسة السلامة. وكانت أطروحتي للدكتوراه حول تطوير مفهوم شامل لسلامة الأجهزة الطبية في المستشفيات، حيث كان في حينه قانون للأجهزة الطبية وسلامتها قيد الإعداد والمراجعة في ألمانيا (الغربية حينها) ليتم بعد ذلك المصادقة عليه في البرلمان. عانيت في البداية كثيراً؛ لأن فلسفة هندسة السلامة تختلف عن فلسفة الهندسة التقليدية التي درسناها في كثير من الوجوه. ولكنني نجحت أيضاً في استيعاب هذه الفلسفة الجديدة بعون الله وبالمثابرة.
عملت بعد الدكتوراه كباحث علمي مع بروفسور مشهور في مشروع بحثي عن سلامة الجراحة الكهربائية. وأتذكر أنه طلب مني مراجعة كتاب صدر حديثاً في حينه في الولايات المتحدة عن الجراحة الكهربائية، وكانت دار النشر قد طلبت منا مراجعة وتقييم الكتاب. استمتعت بمراجعة الكتاب الذي كان شاملاً من جميع الأوجه، لكن جملة قصيرة فيه كان مفعولها لدي كمفعول إلقاء حجر في بركة ماء. كان مؤلف الكتاب يقول في هذه الجملة ما مؤداه أن المراجع تقول أن كامل الماء في منطقة الشراطة الكهربائية يجب أن يتبخر لتحدث الشراطة، لكنه يعتقد أن تبخر أقل من ذلك بكثير (خمسة أو حتى واحد بالمئة) كافٍ لحدوث الشراطة، لأن كثافة الماء أكبر بألف وستمئة مرة من كثافة البخار. رجعت إلى البروفسور وقلت له أن كلام مؤلف الكتاب صحيح لو كانت الشراطة الكهربائية تحدث نتيجة تبخر الماء تحت الضغط الجوي. إلا أنني أعتقد أنها لا تحدث تحت الضغط الجوي، فالشراطة التقليدية بالمشرط العادي تحدث نتيجة تطبيق ضغط أكبر بكثير من الضغط الجوي (القوة المطبقة من اليد على المشرط مقسومة على سطح التماس بين المشرط والجلد). وقلت إنني أعتقد أن ضغطاً مماثلاً لذلك يجب أن يُطبَّق من خلال الشراطة الكهربائية ليحدث القطع كما في الشراطة التقليدية بالمشرط. تناقشنا كثيراً، لكنه في النهاية اقتنع بفكرتي، وكتبنا ملخصاً لمقالة علمية أرسلناه لمؤتمر سنوي للهندسة الطبية وكان عنوانه “كيف تعمل الجراحة الكهربائية حقاً”، فما كان من المشرف على المؤتمر إلا أن اتصل بالبروفسور وقال له ما هذا العنوان المستفز، أتظن أنه لا أحد يعرف كيف تعمل الجراحة الكهربائية؟ حاول البروفسور أن يشرح له الموضوع، لكن المشرف على المؤتمر أصر على تغيير العنوان لكي يتم قبول المقالة، فتم ذلك. ونتيجة لذلك، أصر مديري على أن يكون لدينا برهان تجريبي على نظريتنا. وكان هناك في جامعة آخن في ألمانيا قسم للتصوير الشليري (schlieren photography)، وهذه التقنية تستطيع التقاط صور يتضح فيها اختلاف الضغوط والكثافات. صوّرنا الشراطة الكهربائية بهذه التقنية وحصلنا على صور تثبت أن هناك ضغطاً أكبر من الضغط الجوي تحدث نتيجة له الشراطة الكهربائية، وقدمنا هذه الصور في المؤتمر المذكور.
لقد ذكرت القصة أعلاه لتأكيد ما ذكره البروفسور الطريقي في كتابه عن المصاعب التي يواجهها كل ذي فكر ناقد ويأتي بجديد.
أتمنى للبروفسور الطريقي كل التوفيق وطول العمر وتمام الصحة، وأن يستمر في العطاء في مسيرته للتخفيف من معاناة المتعبين، لأن هذا هو المغزى والغرض من الهندسة الطبية، ومن العلم عموماً.