رشيد سليم خوري.. شاعر العروبة والوحدة والحضارة
أدب رشيد الخوري صورة صادقة لإسلام العروبة وعروبة الإسلام
هكذا كان قديس العروبة.. وسفير الأحرار العرب.. ولسان الشعر العربي المبين. وسيظل شاعر العروبة الكبير رشيد سليم الخوري، صوتاً منصفاً ومبدعاً أميناً، أينما حلّ ذكره، أو حلت ذكراه.. منتصرًا للحق والحقيقة في داره وعشيرته أو هجرته وغربته، أو نشأته أو نهايته.. يعتز بإبداعه المسلمون والنصارى، والعرب والعجم، وسيظل ديوانه مفخرة لكل دعاة الوحدة، وميثاقاً جامعًا لأنصار العروبة وبناة الحضارة والنهضة، وصناع التاريخ..
وتمثل عروبته نهراً صافياً، ورباطاً وافياً بين المسلمين والنصارى.. حيث يقول:
إني على دين العروبة واقف
قلبي على سبحاتها ولساني
“إنجيلي” الحب المقيم لأهلها
والذود عن حرماتها “فرقاني”
أرضيت “أحمد” و”المسيح” بثورتي
وحماستي وتسامحي وجناني
يا مسلمون ويا نصارى دينكم.
دين العروبة واحد لا اثنان
بيروتكم كدمشقكم، ودمشقكم.
كرياضكم، ورياضكم كعمان
ستجددون الملك من يمن إلى
مصر إلى شام إلى طهران
ولقد طفرت من هذه الأبيات عروبة الشاعر الكبير رشيد سليم الخوري، حتى أنها فاضت من العرب إلى الفرس… وما ذلك إلا أنه يعدل العروبة بالإسلام.. دين الإنسانية والحضارة الآمنة المطمئنة.
ولما أنشأ الفرنسيون مجلساً نيابياً زائفاً.. راعفاً.. في لبنان ناشهم القروي بسهامه قائلاً:
وطن تحيرت العبيد لذلّه
وأذلُّ منه، رئيسه والمجلسُ
جاد المفوض بالعليق فحمحموا
وثني عليهم بالشكيم فأبلسوا
في كل كرسي، تسنٌد نائب
متكتفٌ أعمي أصم أخرس
ولد رشيد سليم الخوري في 17/4/1887م بقرية بربارة من جبل لبنان، وورث شيئاً من الشعر عن أبيه وجده، وورث رخامة الصوت والغناء عن أهل قريته.
وقد توافق ذلك اليوم مع عيد الجلاء عن سوريه، فاعتبره القروي توافقاً ساراً.. وارتجل بعد ذلك:
إذا فاخر الناس بأعيادهم
فعيد ميلادي عيد الجلاء
وقد اخبره أصدقاؤه من المسلمين يوماً أن ذلك التاريخ (١٧ ابريل ) يوافق الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، عام مولد النبي صلي الله عليه وسلم… فاستنار وجه الشاعر القروي، ثم انطلقت أساريره، ثم بدا عليه ما يشبه ذهول الاستعجاب .
عُرف شاعرنا بالشاعر “القروي“.. كما عرف شقيقه “قيصر” بالشاعر “المدني” .. ويرجع لقب “القروي” إلى الناقد “قسطنطين الحداد” الذي أوسع رشيد الخوري نقدًا عندما صدر له أول دواوينه “رشيديات”… وكان مما نعته به لقب “الشاعر القروي”… فأعجب شاعرنا باللقب.. واتخذه علمًا عليه وإشارة إليه، على ما ذكر “البدوي الملثم” الشاعر “يعقوب العودات” .
وقد ترجم شاعرنا لنفسه في أول ديوانه.. فأشار إلى نسبه أنه رشيد سليم طنوس منصور حنا الخوري.. وكان أبوه معلمًا، ثم ترك التعليم وعمل بالتجارة.. وقد انحدر جده من قرية “الشور” في “المتن الأعلى” بجبل لبنان إلى البربارة وعمل بها حدادًا… وكان يمارس الطب الشعبي في ذلك الحين…
تولى رئاسة تحرير مجلة “الرابطة” لسان حال أدباء المهجر الأمريكي الجنوبي لمدة ثلاث سنوات، ثم رئاسة “العصبة الأندلسية ” عام 1958م، فكان رئيسها الثاني بعد مؤسسها الأول ميشال معلوف.
إلى المهجر
درس رشيد الخوري بمدرسة الفنون الأمريكية لمدة سنتين في صيدا، ثم درس بمدرسة سوق الغرب.. ثم أنهي دراسته بالكلية السورية الأنجيلية ببيروت.. والتي أصبحت الجامعة الأمريكية فيما بعد .. ثم عمل مدرسًا وتنقل بين مدارس المنطقة… واستمرت رحلته كمعلم سبع سنين.. إلى أن مات أبوه عام 1910 فأثقلت الديون كاهله، وناء حملاً بأشقائه الصغار الخمسة، فأجبرته الظروف على الهجرة إلى البرازيل عام 1912 في أول أغسطس إثر دعوة تلقاها من عمه “إسكندر” الذي كان ضابطاً بالجيش البرازيلي آنذاك، فترك دياره وهو يبكي ويقول:
نصحتك يا نفس لا تطمعي
وقلت حذار فلم تسمعي
فإن كنت تستسهلين الوداع
كما تدعين إذًا ودّعي
وتعرض بعد سفره لظروف شديدة القسوة، وعمل أعمالاً متدنية، بعد أن قام في كنف عمه في ولاية ميناس، ثم ارتحل إلى “ريو دي جانيرو” وامتهن عدة مهن بحثاً عن الرزق.. إلى أن افتتح ورشة صغيرة لروابط العنق، ولكنه سرعان ما أغلقها وأفلس…وكان في كل ذلك، يتحرق ألماً وشوقاً إلى وطنه، وفي ذلك يقول:
ناءٍ عن الأوطان يفصلني
عمّن أحب البر والبحر
في وحشة لا شيء يؤنسها
إلا أنا والوجد والشعر
حولي أعاجم يرطنون فما
للضاد عند لسانهم قدر
لو عاش بينهم ابن ساعدة
لقضى ولم يسمع له ذكر
ناس ولكن لا أنيس بهم
ومدينة لكنها قفر
أما أنا والغم يقتلني
صخر يحس وليتني صخر
وفي عام 1916 أصدر مجموعته الشعرية الثانية “القرويات”… فأضافها إلى “الرشيديات” التي سبقتها في الصدور.
وفي عام 1924 قدمت إليه أمه، وتبعها بنوها جميعًا.. واجتمع شمل الأسرة بمهجرها بالبرازيل.
عروبة صافية
ولما وقعت النكبة الكبرى1948… ودنس اليهود فلسطين، وقف وسط جمع من المهاجرين، تلاقوا في أحد الأعياد، وقد قدموا له التفاح تحية وتكرمة فقال:
أرى تفاح هذا العيد جمرا
ولو قطفوه من جنات عدن
وألمس ناعم الأزهار شوكًا
وانشق عطرها نتنًا بنتن
وما ذلك إلا لأنه بعرق العروبة ينبض، وبعيونها يرى، وبروحها يحيا، ويموت، ويراها عقدًا وعقيدة، كما أوضح بجلاء في مقدمة ديوانه حيث يقول: “تساهلنا في وطنيتنا شرٌ علينا من تعصبنا لأدياننا” ويقول: “العروبة دين الأمة الشامل”.
والدين في نظره: “إيمان ومحبة وتعاون وخير عميم”.
والطوائف: “طقوس وشقاق وشر مستطير”…
“فالعروبة معان تعمر بها القلوب، ومناقب حفلت بها سيرة أبطال العروبة”، و”العروبة روح حاتم، ومعن، والسموءل في كل نبيل عربي”، “وروح عنترة وطرفة أمرئ القيس، والأخطل والمتنبي في خيال كل شاعر عربي”…
“وروح خالد وأسامة وطارق وصلاح الدين ويوسف العظمة…على سيف كل جندي عربي”…
“وروح وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي… على قلب كل متسلط عربي”…
“العروبة دم زكي يجري في عروق جسد واحد… أعضاؤه الأقطار العربية وكل ما يعوق دورة هذا الدم.. يعرض الجسد كله للأخطار”…
ثم ينادي أبناء وطنه الأكارم قائلاً: “يا أبنا وطني.. لا يؤهلكم للاستقلال.. إلا الاستقلال نفسه، نفوسكم ضائعة، نفوسكم معضوبة.. أوجدوها أولاً، واستردوها… ثم أصلحوها”.
إنها نعم النظرة لبناء الذات الحضارية في طريق الإقلاع والانعتاق….، وبروح هذه الأمة، التي إليها ينتمي، وبها يحتمي.. يقول رشيد الخوري:
أنجبتنا أمة ما برحت
تنجب الأبطال من قبل “ثمود”
زرعوا الأرض سيوفًا وقنا
ثم رووها بإحسان الوجوه
رقصوا الخيل على الطعن كما
رقصوا الطير على خفق البنود
كل يوم يكشف العلم لهم
أثرًا عن ذلك الماضي البعيد
كلما قيل انطوت أعلامهم
وانطووا هبوا إلى مجد جديد
كالنجوم الزهر في أفلاكها
أبدًا بين هُوىّ وصعود
لما يضرنا راحة بعد العنا
فالكرى يغمض أجفان الأسود
وسنعلي ما بنى أجدادنا
بالمطايا الغر والعزم الحديد
وحدة وتوحيد
وعلى درب العروبة الجامع للديار والأقطار والأنصار.. سار وهو يمقت كل خارج عليه، أو حائد عنه، حتى أنه كان يرى في حب الأوطان العربية دينًا يجمع الفرقاء والخلطاء، فيقول، ناعيًا على “الدروز” تعصبهم المقيت:
إن كان للدين الدروز تعصبوا
أرنا التعصب أنت للأوطان
أين التراث تراث أبطال الحمى
أين البقية من بني عدنان
لا تنكروها، فالدم العربي قد
جلت أصالته عن النكران
فهي عروبة الدم والتراث، والأرض والميراث، والرفات والأجداث.. لذلك أحبه العرب بجميع أطيافهم وطوائفهم، وكانت مقالته موضع التقدير، والإصغاء لمّا وجه كلماته إلى الزعيم الدرزي “سلطان باشا الأطرش” في ثورته ضد الفرنسيين عام 1925م قائلاً:
فتى الهيجاء لا تعتب علينا
وأحسن عذرنا تحسن صنيعا
تمرستم بها أيام كنا
نمارس في سلاسلنا الخضوعا
فأوقدتم لها جثثاً وهاما
وأوقدنا المباخر والشموعا
إذا حاولت منع الضيم فاضرب
بسيف محمد واهجى يسوعا
ويحلق رشيد الخوري مع عروبته في سماه، ويصل إنصافه إلى منتهاه ويبلغ صدقه مداه، حين يقول، متماهيا مع ثورة أهل لبنان ضد المستعمر اللعين:
فيا حملاً وديعًا لم يخــــــلّف
سوانا في الورى حمــلاً وديعـا
أحبوا بعضكم بعضًا… وعظنا
بها دئبًا، فما نجّت قطيعًا
غضبت لذات طوق حين بيعـــت
ولم تغضب لشعبـك حيـن بيـعا
ألا أنزلت انجيلاً جديدًا
يعلمنا إباءً لا خنوعاً
أجرنا من عذاب النير لا من
عذاب النار إن تك مستطيعاً
ثم يستنهض أهل بلده لبنان، ويزكي ثورة شعبها التي هبت بزعامة زعيم الدروز سلطان باشا الأطرش عام ١٩٢٥ م ويستنفرهم أن يؤججوا نارها ويقدحوا أوارها… فيصيح:
ويا لبنان مات بنوك موتاً
وكنت أظنهم هجعوا هجوعا
ألم ترهم ونار الحرب تصلي
كان دماءهم جمدت صقيعا
بدت لك فرصة لتعبش حراً
فحاذر أن تكون لعا مضيعا
وما لك بعد هذا اليوم يوم
إن لم تستطع، لن تستطيعا
لذا فإنه ينطق بلسان عربي مبين ، رادعاً هؤلاء الشعوبيين الإنفصاليين في الفكر والعقل والجسد.. والأرض والعرض والتراب.. فيقول :
حتّام تحسبها أضغاث أحلام.
(سبح لربك وانحر) أنت في الشام
من يبك عهد الموامي والدمي فأنا
والحمد لله قد حطمت أصنامي
شغلت قلبي بحب المصطفي وغدت
عروبتي مثلي الأعلي وإسلامي
ضارباً بجذوره في المدنية والعروبة والقومية التي أنبتتها شجرة الحضارة والإسلام ..
وكان ينشد هذه القصيدة علي مسرح الجامعة السورية ليلة ٢٥ ابريل عام ١٩٥٩م ..
ولذلك طرح الكاتب الفلسطيني محمد صالح يونس (وكان صديقاً للقروي ) سؤالاً هاماً عقب رحيله قائلاً: ” كان السؤال الذي شغل أصدقاء الشاعر القروي وغمرهم، إذا ماكان الشاعر رشيد سليم الخوري، وهو النصراني المولد والمنشأ، قد توفي وهو علي دين الإسلام ؟!، وهل كان صحيحاً ما تردد قبل سنوات من رحيله، من أنه أشهر إسلامه أمام المفتي ونطق بالشهادتين؟!”
خاصة وأنه قد ترك وصية بخط يده قبل رحيله بسبع سنوات وأوصي فيها أن تقرأ الفاتحه علي روحه وجثمانه.
وقد ظل داعيًا إلى هذه الوحدة، حتى اشتط به القول، فصاح منكرًا على منكريها، قائلاً:
سلامٌ على كفر يوحد بيننا
وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وإن كان المعنى مفهومًا، إلا أننا لا نقر الشاعر بحال على ما ذهب إليه، وإن كنا نشاركه مقصده الأسمى من وحدة عربية عزيزة أبية..كان ينشدها في كل لمحة ونفس وهو يصرخ، عبر تهنئته بأحد أعياد المسلمين:
صيامًا إلى أن يقطر السيف بالدم
وصمتًا إلى أن يصدح الحق يا فمي
أكرّمُ هذا العيد تكريم شاعر
يتيه بآيات النبي المعظم
ولكنني أصبوا إلى عيد أمة
محررة الأعناق من رق أعجمي
أفطر وأحرار الحمى في مجاعة
وعيدٌ وأبطال الجهاد بمأتم
إلى علم من نسج “عيسى” “أحمد”
و”آمنة” في ظله أخت “مريم”
وذلك حين أسهم شاعرنا رشيد الخوري، من مهجره في أحد أحفال المسلمين بالمولد النبوي الشريف، صلى الله عليه وسلم على صاحبه المصطفى الأمين. وظل طوافاً بعروبيته وحضارته، ومجده التليد.. يستقرئه ويستنطقه الأخبار والآثار.. في أرض العروبة..ومجاهل البرازيل، ويحبه على كل حالاته، ويفنى في حبه فناء ما بعده فناء.
قالوا أتعشقه وهذي حــاله
يا حبذا وطني على حالاتــه
العيش حلو في سبيل رقيــه
والموت أحلى في سبيل حياته
ونراه وهو يحيىّ فردوس العرب المفقود.. “الأندلس” يرثى فيقول:
خبرينا كيف نقريك السلاما
طيب النشر كأنفاس الخزامي
والشذا المحيي بسوريا العظاما
غادر الشام وبيروت وهاما
في بلاد حرة لم تحن هاما
وأنوف لم يقبلن الرغاما
خبرينا كيف نقريك السلاما
يا ابنة الزهراء يا أندلسية
لم تزل فيك من المجد بقية
لمعت فيها السيوف المشرقية
ضاربات بزنود عربية
فعلى مثلك لا تكفي التحية
بأكف لم يجردن حساما
خبرينا كيف نقريك السلاما
وظل الشاعر القروي الكبير.. رشيد سليم الخوري يحمل وطنه في قلبه، منذ حملته الباخرة التي أقلته في شهر آب أغسطس عام 1913 إلى ذلك المهجر الاضطراري بالبرازيل،
فنعي وطنه و أحبابه باكياً شاجيا فقال:
نأت عنك الأحبة والديار
فدمعك والأسي وطن وجار
وعاش في ذلك المهجر ما عاش، وهو شاعر شرقي عربي خالص، وقد أنبتته صحارى الشرق، ولوّحت منازعه وأفكاره شمس مبادئها المثلى، فإذا هو شاعر عربي في مذهبه وأسلوبه، وفارس عربي في مزاجه وعنفوانه.
قبر في وطني لا قصر في غربتي
وبعز عروبته.. دعا إلى مقاطعة المستعمر المحتل الأثيم..
وبشرف عروبته.. عاش قضية فلسطين شحمًا ولحمًا ودمًا..
وبصدق عروبته.. آثر الجيش المصري بالقرش الذي يروي غلته ويسد جوعته…
وبهمّ عروبته.. رأى في نكبتها.. نكبة تفوق موت أمه التي ولدته..
وبيان ذلك.. أن الشاعر القروي الكبير رشيد سليم الخوري كان من أوائل الداعين إلى تبني سياسة المقاطعة للغاصب المحتل، وكان يرى في الزعيم الهندي غاندي، مثله الأعلى، في ذلك..
فالتحرر من الاستعمار، إنما يعني التحرر من كل ما قدمت أياديه، وفي ذلك يقول القروي: “وها أنذا منذ عام 1950 – أي بعد ميلاد دولة الشيطان – إسرائيل – أتعلل بما عندي من قديم الثياب، وقد بات أكثرها زرياً، عسى أن يصدق حلمي بالرجوع قريباً إلى وطني.. فاصطنع جديدي مما تنسج بلادي ولو أنه خشن”… وذلك في إطار دعوته إلى مقاطعة المنسوجات الإنجليزية والفرنسية…
ومثلما كان شعره الوجداني والعاطفي يحمل هديل الحمام العاشق، كان شعره الوطني القومي يحمل ومض البرق الصاعق… حيث يقول عن نفسه في أبلغ تصوير، وأنقذ تعبير: ” ما أعد ذاتي إلا خلية في جسد أمتي، فأمتي: أنا مكثرًا.. ووطني : أنا مكبرًا”.
ثم يقول: ” إن إيماني بالعروبة، كإيماني بالله، لا يأتيه الشك من سبيل… فالمستقبل لنا… والتفاؤل بالنصر نصر مقدم… والاستسلام والقنوط موت لذلك… ورغم بلائه أكثر من أربعين عامًا، يذوق آلام الغربة ومرارتها .. إلا أنه قد انطلق زئيره مهيبًا برفاقه أن يعود إلى أرض رباطهم الأصيل.. فالأمور لا تستقيم إلا بعودة الجنود إلى أرض الجدود… يقول:
ردوا إلى الوطن القديم ترابه
هذا أقـل البر يا غُيّابـه
ذاك الإهاب الغض تحت نيابكم
بالأمس كان إهابه وثيابه
تتعجبون لضعفه ولو انكـم
فيه لكنتم جنده وحرابـه
سلبت مهاجركم غداة رحيله
عنه حجاه وعزمه و شبابه
ليت الأحبة عند إزماع النوى
للغرب أغلق دونهم أبوابه
وعندما جمع الموسرون والشعراء والأدباء بعضًا من المال ليشتروا له دارًا في غربته، تأويه وتتناسب مع صيته الذي ذاع، واسمه الذي شرق وغرب… رفض ذلك رفضًا شديداً، بعزة وإباء وشمم، ورد المبلغ، وكان حوالي ثلاثين ألف ليرة لبنانية، وقال لهم: “مرادنا أكبر من ذلك، والذي نطلب لأوطاننا يجل عن الجزاء مهما عظم، أن نرضي الله والضمير في هذا الجهاد، وهل نحن خير من هؤلاء الشهداء الذين لم ينالوا من خدمة الوطن غير الذكر الجميل، وقد بذلوا أغلى مما بذلنا..”.
وعندئذ قرر المتبرعون طباعة دواوينه بهذا المبلغ…
وهب معظم المطبوع من هذا الديوان.. لكي يباع لحساب قضية فلسطين.. وقال الشاعر القروي إذ ذاك قولته المشهورة: “إن أمنيتي بعد هذه السن التي بلغتها هي قبر في وطني، لا قصر في غربتي، فالكفاف يكفيني، والغنى لا يفتننى”
وعندما أرسل الشاعر دواوينه السبعة، بعد هذا الجمع والطبع الأنيق إلى سماحة الشيخ “أحمد حسن الباقوري”، وزير الأوقاف المصري آنذاك (ت في 25/8/1985) أرسل “الباقوري” إليه شيكاً بمبلغ 200 جنيه مصري وكان القروي في أمس الحاجة إلى ذلك المبلغ حينئذ، غير أنه رد الشيك .. شاكراً “للباقوري” صنيعه الرفيع، ومعتذرًا عن قبوله، وحوله إلى صندوق تبرعات الجيش المصري عام 1955م.
هذا .. وهو الذي يكدح اللقمة بالكد والجهد حيث قال :
وإني لفي الستين ما زلت مكرها
لأجل كفافي ان أكد وأتعبا
وعندما تلقى دعوة رسمية من سوريا عام 1958 وكانت حينئذ الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، لبى الدعوة وركب البحر في طريقه إليها ونظم قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
بنت العروبة هيئي كفني
أنا عائد لأموت في وطني
أأجود من خلف البحار له
بالروح، ثم أضن بالبدن
وكان في استقبال القروي لدى عودته جمع غفير من الكتاب والمفكرين والشعراء والصحافيين بينهم الأديب الكبير فؤاد الشايب.. ولما أبصر القروي.. وسمعه يقول ذلك.. قال له.. كلاّ.. كلاّ ..
بنت العروبة هيئي سكني
أنا عائد لأعيش في وطني
فقد عاش غربته وهو يواسي نفسه كل صباح .. ويعدها بالعودة إلي أحضان الوطن الأم فيقول:
سأقضي بنفسي حقوق العلا
وأرجع فأنتظري مرجعي
ويبكت نفسه علي ذلك الترحال المجهد، والنأي المبعد .. فيقول
سفر نهايته سفر
مثل النسيم فلا مفر
ضجر السري والسير منى
والبواخر والقطر
حتام أبقي دائماً
حول البسيطة كالقمر
وعندما توفيت أمه أرسل إليه الأستاذ “عبد اللطيف الخشن” صاحب جريدة “العلم العربي” يعزيه، فأرسل القروي إليه.. إن أمي الحقيقية هي فلسطين، وإن نكبتها كان لها وقع عليّ أشد من وقع نبأة وفاة أمي، فإن نكبتها لا يماثلها لدى نكبة ما، في الأرض ولا في السماء”.
ولهذا… قال الشاعر “البدوي المثلم”: لو أتيح لي أن أؤرخ للقضية الفلسطينية جملة وتفصيلاً، لسجلت اسم الشاعر القروي ولقلت: “هذا الشاعر عمل لفلسطين ما لم يعمله الآلاف من الملايين”.
ومثلما كان القروي ينبض عروبة وحماسة ووطنية، كان كذلك يقطر إنسانية… ورحمة ورأفة، ويلخص ذلك بقوله الخالد: “أما والله لو كنت شاعراً فرنسياً، أو أنكليزياً، لحبست النفس على التبشير بالسلام، ووقفت القلم على الدعوة إلى الرأفة، والرحمة والحنان”.
ومن أجل هذا الهم العربي، والنبض الحضاري الإنساني، الضارب في عمق التاريخ، المنطلق إلى عنان السماء.. المجتمع على خلق الله أجمعين…
عاش رشيد سليم الخوري (1887 – 1984) مسلمًا قياده إلى ربه، وولاءه لأمته ووطنه.. مناجيًا مولاه..
يا رب إنك صاحب الأمر
وأنا إليك موكل أمري
من لي سواك إذا الهموم طمت
وتلاعبت بسفينة العمر
مُرْها تطعك فطالما سكنت
طوعاً لأمرك لجة البحر
شكراً على ما سرني وعلى
ما ساءني شكراً على شكر
ما لي جميل أرتجي معه
أجرًا وعفوا لي سوى صبري
وعلى حياض هذه العروبة الماجدة، والأرومة الخالدة… صنع شاعرنا سياجًا من الأخلاق الحامية، والشمائل الواقية، وتمثلها طوال حياته.. حتى أنه ليجيب عدوه قائلاً:
تحيّر بي عدوي إذ تجنى
عليّ فما سألت عن التجني
وقابل بين ما ألقاه منه
وما يلقى من الإحسان مني
يبالغ في الخصام وفي التجافي
فأغرق في الأناة وفي التأني
إلى أن ضاق بالبغضاء ذرع
وحسّن ظنه بي حُسن ظني
فلي أم حنون أرضعتني
لبان الحب من صدر أحن
على بسماتها فتحت عيني
ومن لثماتها روّيت سني
كما كانت تناغيني أناغي
وما كانت تغنيني أغني
سقاني حبها فوق احتياجي
ففاض على الورى ما فاض مني
ذلك لأنه لا يصلح أن يكون ثائرًا في سبيل المبادئ والمثل العليا، من لم يكن إنسانًا بكل عمق وصدق الإنسانية، ولا يصح أن يكون حرًا في أمة مستعبدة، ما لم يعش آلام المستعبدين وعذاباتهم،
والشاعر القروي يرى أن: ” الشاعر الوطني الحر في أمة مستعبدة ما هو إلا الشاعر الإنساني قبل أي شيء سواه، لأن هذه المبادئ التي يسبّح لها ويصلي في محرابها، ويجاهد في سبيلها، ليست معبوده وطنه فحسب، بل هو معبودة الأوطان جميعًا.
إن الذي يغضب لحق هضم في الصين، أولى به أن يناضل لدفع حيف نزل ببلاده.
إن الحرية هي الحياة بمعناها الشريف، وهي أول حقوق الإنسان.
ولذلك .. فالسلام والتعايش الإنساني… لا معنى لهما ما لم ينزل عليهم الناس سواسية.. ويدين القوي بتلك المعاني والقيم، قبل أن يدين بها الضعيف…
والقروي ينظر إلى تلك المبادئ الإنسانية… التي قلب معناها ومبناها الاستعمار وقوى الاستبداد…. فيقول:
أما السـلام، فإننـــا أعداؤه
حتى يديـــن بحبه أقوانا
لم يعترف حــرٌ بإنسانيـــة
إلا إذا اعترفــت به إنسانا
فهو ابن بيت كريم المحتد والمولد..صفيّ النفس والحس…
وهو ابن لغة.. كان يراها لغة أهل الجنة، وهو ابن عروبة كان يراها عقيدة وفطرة.. خلق عليها.. ويموت عليها… وهو ابن بيئة يرى نبعها الدفاق.. هو نبع الحضارة الإسلامية الفياض.
ومن جميل نفسه، ومن ريّق حسه، كانت هذه المعاني الصافية الشافية…
وبهذا المنزع ومن هذا النبع..تروّت وأرْوَت كل دواوين القروي (الرشيديات – القرويات – الأعاصير – الزمازم – الأزاهير – موجات قصيرة – زوايا الشباب).
وهو الرجل الذي جمع تجربته بكل ما فيها ، في هذا البيت النافذ :
لقد صعدت إلي روحي علي جبل
مما تهدم من روحي ومن جسدي
وإن ينس دارس، أو يجهل باحث، فإنه لا ينسى أبدًا تحية الشاعر القروي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مولده المبارك..صادحًا مادحًا..
عيد البرية عيد المولد النبوي
في المشرقين له والمغربين دوي
عيد النبي ابن عبد الله من طلعت
شمس الهدى من قرانه العلوي
بدا من الفقر نوراً للورى وهدى
يا للتمدن عم الكون من بدوي
يا فاتح الأرض ميداناً لقوته
صارت بلادك ميداناً لكي قوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم
لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة
فبلغوه سلام الشاعر القروي
وتحية بتحية.. وعروبة بعروبة.. وحضارة بحضارة.. نزجي التحايا الطيبات.. لشاعر العروبة.. في الغربة والأوبة.. رشيد سليم الخوري الذي عاد إلى كورته الأولى “البربارة” عام 1958، في عهد الوحدة بين مصر وسوريا.. وبقريته تلك لقى ربه في 28 أغسطس عام 1984 ، عن عمر يناهز 97عاما، ليواري الشاعر في الثرى، ويتألق شعره في الثريا، كواحد من المتفردين من الشعراء المسيحيين في العقيدة، المسلمين في الحضارة والعروبة والإبداع.. الذي كانوا يعدون الخروج عن هذا المنزع الصراح..خروجاً إلى الكفر البواح، وهذه آثار القروي وأمثاله شاهدًا أمينًا.. ودليلاً مبينًا… على إسلام العروبة وعروبة الإسلام…
وكان القروي كما رثاه الشاعر الفيلسوف “إيليا أبو ماضي”… حياة تسري في الحياة، وروحًا تسري بين الأرواح – حيث يقول أبو ماضي: ”
وإذا نظرت إلى الجبال لمحته فالشاعر القروي طود إباء
من كان يحلم بالغدير فإنني شاهدته في كل قطرة مـاء
صارت إليك تحيتي ولو انني خيرت كنت تحيتي ورجائي
وسيظل يتردد في سمع الزمان طويلا.. ذلكم النداء الناعي الذي أطلقه الخوري في أمة العرب والاسلام قائلاً :
” أيها المسلمون.. أيها العرب.. يولد النبي علي ألسنتكم كل عام مرة .. ويموت في قلوبكم وعقولكم وأفعالكم كل يوم ألف مرة
ولو ولد في أرواحكم وقلوبكم.. لولدتم معه.. ولكان كل واحدٍ منكم محمداً صغيراً ”
ولعل أبلغ ما كتب بعد رحيله، ما كتبه صديقه محمد صالح يوسف قائلاً: ” كان آخر ما تلاه القروي علي مسامعي، قصيدة تتضمن آيات من القرآن الكريم، جعل مطلعها ” اقتربت الساعة وانشق القمر …
وكنت قد أخذت تلك القصيدة الرباعية ، والتي جعل الشطر الأخير منها آية قرانية، ثم جاء صيف ١٩٨٢ م، واجتاح العدو الصهيوني لبنان، وكانت القصيدة من ضمن ركام مخيم (عين الحلوة ) فلم تنج مكتبتي و أوراقي من زبانية الغزاة، وضاعت القصيدة ولم أجدها في ديوان القروي، ولم يعد في ذاكرتي غير قوله:
آيات ربك ليس يعرف قدرها
من ليس يفرق في الحجي عن غيره
لا تقعدوا معهم إذا هزءوا بها
(حتي يخوضوا في حديث غيره)
وهذا هو قديس القومية العربية الصادق، وراهب الحضارة الإسلامية الصدوق، ونذير العروبة العملاق.. في زمن عزّ فيه نسب العروبة الأصيل.
وكان حقًا، كما قال الشاعر الكبير “بدوي الجبل”: لقد رشقت عطور القومية العربية حين رشفت ديوانك… وأدرت على سريرتي ألحانًا عذبة حين أدرت ألحانك…
وما اختصر حُسن في الدنيا بأحلى مما اختصرت به الروضة في قارورة عطر، ولا بأندى مما أوجزت به القومية العربية في هذا الشعر..
فكبرياؤها مجلوة في كبريائك، وحياؤها منور في زهدك وحيائك، وعنفوانها محتدم بمجدك وإبائك… فأنت دنيا في وجدان…. وأمة في إنسان….
المراجــع:
- الأدب في البرازيل، شاكر مصطفى، عالم المعرفة، الكويت، مايو 1986م.
- التجديد في شعر المهجر، محمد مصطفى هدارة، القاهرة، 1957م.
- العروبة في شعر المهاجر الأمريكي الجنوبي، عبد الرحيم محمود زلط، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1972م.
- القروي الشاعر الثائر، د. عمر الدقاق، دار الأنوار، بيروت، 1971م.
- الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية، البدوي الملثم، بيروت، 1956م.
- أدب المهجر، عيسى الناعوري، دار المعارف، مصر، 1959م.
- أشعار وشعراء من المهجر، محمد عبد الغني حسن، كتاب الهلال، العدد 266، القاهرة، فبراير 1973م.
- دواني القطوف في تاريخ معلوف، عيسى إسكندر معلوف، المطبعة العثمانية، لبنان، بعبدا، 1907 – 1908م.
- ديوان القروي، رشيد سليم الخوري، مطبعة صفدي التجارية، اسطنبول، 1952م.
- شعراء المعالفة، رياض معلوف، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1962م.
- القروي شاعر العروبة، أكرم زعيتر ، مجلة الدوحة ، عدد ١٠٧ قطر
- في الهواء الطلق، أمين نخلة، بدون تاريخ
- الاتجاه الاسلامي في شعر القروي ، محمد صالح يونس ، مجلة التواصل ، العدد ١٥ ، ٢٠٠٧ ، جمعية الدعوة الاسلاميه، ليبيا