د. مجدي سعيد يكتب: بالعلم تتلاشي الأساطير
على مدى قرون عدة كان أهل بيرو المحليين يتحدثون عن نهر يصل في شدة حرارته إلى درجة أنه يحرق، وربما يقتل، وتحكي أساطيرهم أن مجموعة من الغزاة الأسبان غامروا بالتوغل في الغابة المطيرة التي تضم ذلك النهر بين جنباتها بحثا عن الذهب، وأن القليل من رجالهم الذين عادوا، حكوا عن ماء مسموم، وثعابين تأكل البشر، ونهر يغلي في الأسفل.
فتنت تلك الأسطورة عالم الجيولوجيا البيروفي الشاب أندريس روزو Andres Ruzo حينما كان طفلا، فبدأ في التساؤل كما يشير تقرير للموقع الإخباري العلمي العالمي الشهير – Science Alert المنشور اليوم 23 ديسمبر 2018 إن كان هذا النهر حقيقة أم لا، ل كنه لم يعرف الإجابة على هذا – السؤال حتى حصل على درجة الدكتوراه في الطاقة الحرارية الأرضية من بلده بيرو.
وفقا للخبراء الذين تحدث إليهم أندريس روزو، كانت الإجابة بالإجماع “لا”، فبعد كل شيء، توجد أنهار ساخنة في العالم، ول كنها تكون مرتبطة بشكل عام بالبراكين، ولا يوجد براكين في ذلك الجزء من البلاد، لكن عندما رجع روزو إلى بيته سأل عائلته عن الأسطورة، فأخبرته والدته بأن النهر ليس موجودًا فقط، بل إنها هي وعمته سبحا فيه بالفعل في السابق. ول كي يستكشف الأمر بنفسه، دخل إلى غابات الأمازون المطيرة مع عمته في عام 2011 ، ورأى النهر الشهير بعينيه، ولدهشته، كان النهر ساخنا لما يقارب الغليان.
وقد تحدث روزو عن الأمر لـ TED في عام 2014 قائلا: “عندما رأيته، أمسكت على الفور بمقياس الحرارة الخاص بي”، كان متوسط درجة الحرارة في النهر 86 درجة مئوية، لم يكن يغلي ولكنه بالتأكيد قريب بما يكفي من درجة الغليان.. إنها ليست أسطورة”.
كان الجزء الأكثر إثارة للحيرة في الأمر هو الحجم ال كبير لهذا النهر، فالينابيع الساخنة ليست نادرة، والحمامات الحرارية تصل إلى درجات الحرارة هذه في أجزاء أخرى من العالم، ول كن لا شيء منها يقترب حتى من نطاق النهر، فهذا النهر يصل عرضه إلى 25 مترًا، ويصل عمقه إلى 6 أمتار، ويمتد حارًا لمسافة هائلة تصل إلى 6.24 كيلومتر، أضف ذلك إلى حقيقة أن النهر يبعد حوالي 700 كيلومتر عن أقرب بركان، وأن درجة الحرارة لم تكن منطقية. في الواقع، إنه النهر الوحيد من نوعه في أي مكان في العالم نعرفه. بإذن من الشامان المحلي، أمضى روزو السنوات الأخيرة في دراسة النهر، ودراسة النظام البيئي المحيط به، وتحليل مياهه في المختبر، على أمل معرفة ما يجري. لم يكن روزو بالطبع هو أول من اكتشف النهر، فالنهر معروف للسكان الأصليين منذ قرون ويسمونه بشاناي تيمبيشكا Shanay-timpishka ، ويعني النهر الذي “يغلي مع حرارة الشمس” كما أنه لم يكن أول من يتساءل عما جعل مياهه ساخنة جدا، لكن بحثه المدعوم جزئيا من منحة ناشيونال جيوغرافيك للناشئين الشباب يكشف في النهاية عن بعض أسراره، ويبين أن الشمس ليست هي التي تسبب غليان الماء، ول كن الينابيع الساخنة المغذية له.
وقد كشف التحليل ال كيميائي لمياهه أنها سقطت في الأصل كمطر. ويفترض روزو الآن أن هذا يحدث في أعلى منبع النهر ربما من مكان بعيد مثل سلسلة جبال الأنديز وعلى طول رحلته تتسرب المياه إلى الأرض، حيث تسخن من خلال الطاقة الأرضية للأرض، ليظهر في نهاية المطاف في الأمازون، في شكل نهر فوار، وهذا يعني أن النظام جزء من نظام حراري هيدرولوجي هائل، ليس له مثيل في أي مكان آخر على هذا ال كوكب. والأمر الأكثر إثارة هو أن روزو عمل مع علماء الأحياء سبنسر ويلز وجوناثان آيزن لدراسة تسلسل جينومات الميكروبات التي تعيش في النهر وحوله، واكتشفوا أنواعا جديدة قادرة على النجاة من الحرارة.
وكما أن النهر رائع، يمكن أن يكون مميتا أيضا، حيث يصبح الماء حارًا جدًا لدرجة أن روزو شاهد الحيوانات التي تسقط فيه تغلي ببطء حتى الموت، لذلك لم تعد الحيوانات تسبح فيه، وإلا ملأت المياه أفواهها ورئتيها، مما يؤدي إلى طهيها من الداخل إلى الخارج. مع ذلك، فالناس يسبحون بالفعل في النهر، كما تدعي أمه، ول كنهم يفعلون ذلك فقط بعد هطول الأمطار الغزيرة حيث تتسبب مياه الأمطار في تخفيف حرارته الهائلة بالماء البارد، وفي كثير من الأحيان، يستخدم الناس ماءه لصنع الشاي أو الطهي.
استمر روزو في دراسة النهر ومصدره، لكن تركيزه الأساسي الآن هو كيفية حماية النهر والأراضي المحيطة به ويسعى لكي تضمن الحكومة البيروفية وضع تدابير الحماية المناسبة، وفي فبراير من عام 2016 أصدر كتابه عن النهر بعنوان “النهر الفوار” آملا أن يساهم نشره في معرفة الناس عن النظام الفريد له، وأن تساهم تلك المعرفة في تحركهم من أجل حمايته. ول كي يأخذ زمام المبادرة في وضع بذرة الحركة المجتمعية لحماية تلك العجيبة الطبيعية، أسس روزو مبادرة “النهر الفوار The Boiling River ” مع ثلاثة من زملائه من الشباب، وأسس للمبادرة موقعا على الإنترنت، يقدم فيه ما هو متاح من معرفة علمية حول النهر وبيئته حتى الآن، وعن المجتمعات البشرية ومجتمعات الكائنات التي تعيش في بيئة النهر، وعن الأسباب التي تدعو لحماية تلك العجيبة، والأخطار التي تتهددها، وعن الأساليب التي يمكن للناس أن يساعدوا بها في حماية النهر ومحيطه الحيوي، سواء بالزيارة أو التبرع، أو من خلال ممارسة ما يسمى بعلوم المواطن Citizen Science بإرسال ما هو متاح في البيئات المختلفة في العالم من معلومات وصور حول الأنهار أو الينابيع الحارة لمقارنتها بما لدى فريق إدارة المبادرة من معلومات حول نهرهم، كما تتيح المبادرة على موقعها مصادر سمعية وبصرية حول النهر، ومنها حديث روزو في تيد TED وكتابه عنه، والتغطيات الإعلامية حوله، فضلا عن صور حفريات ثلاثية الأبعاد في بيئة النهر.
د. مجدي سعيد