نابغون

تركي السديري.. ملك الصحافة السعودية

(عندما نَسقط في هوة الفقد، يأتي دور الذكريات لتنتشلنا من الألم وتضمّد جرح الفراق، بقدر. هذه الذكريات تأخذنا الى عوالم انتهت، ولا عودة فيها إلا عبر محطات الذاكرة التي تُحيي من فقدناه ويأبى الزمن والموت أن يمسحاها، ورغم قسوة الموت ووطأة ألم الفراق إلا أن هذه الذكريات تعيد بعضا من حياة عشناها مع من أحببنا. هذه الذكريات لا يمكننا التحكم فها بناءً على مسارها الزمني لكنها تقفز فجأة إلى السطح ونعيش لحظاتها ثم يظهر سواها…).

بهذه الكلمات النابضة بالمشاعر الفياضة، صدرت الدكتورة هند بنت تركي السديري أستاذة الأدب الإنجليزي كتابها الماتع، (كان هنا) عن والدها الراحل تركي السديري. لم تشأ “هند” أن يكون كتاب (كان هنا) سيرة ذاتية لوالدها؛ بل اعتبرته شرياناً يمتدّ بين أب وابنته. بهذا التوضيح الرقيق مهّدت الابنة لكتابها، وصدّرته بإهداء رهيف كتبت تقول: “ترحل بجسدك، ويبقى بيننا حبل الذكريات إلى أن ألحق بك”، وتخلع الكاتبة هنا عباءة الباحث الأكاديمي، وتتحرر من هند الأستاذة الأكاديمية، وتواصل في الكتاب سرد ذكرياتها ومواقفها مع والدها رحمه الله.

تركي السديري.. ملك الصحافة السعودية

كان عليه رحمة الله صحفياً لامعاً ساهم بمقالاته الجريئة والصريحة، ومواقفه الشجاعة، والدور النقدي الذي كانت توليه صحيفة الرياض عندما كان رئيساً لتحريرها؛ في الوقوف بصلابة أمام محاولات البعض لجرّ المجتمع السعودية تجاه الأزمات الفكرية والمعارك الجانبية، دون أن ينتقص من دور الكثيرين الذين ساهموا أيضاً بأدوار وفعاليات إيجابية مهمة.

ونظرا للخدمات الجليلة التى قدمها للمملكة ولصحافتها وإعلامها، أطلق عليه العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز لقب “ملك الصحافة، ترك “السديري” إرثًا مهنيًا ثريًا امتد لأكثر من 40 سنة، كان فيها بمنزلة “الأب الروحي” لصحيفة الرياض، حتى أصبحت في عهده معلماً بارزاً وصورة مشرقة للصحافة السعودية.

ولد تركي بن عبد الله بن ناصر السديري عام 1363 هـ الموافق 1944م بمدينة الغاط التابعة لمنطقة الرياض وتلقى تعليمه بمدينة الرياض، عمل رئساً لتحرير جريدة الرياض منذ عام 1394 وحتى قبول استقالته بتاريخ 16 شوال 1436، كما شغل منصب رئيس هيئة الصحفيين السعوديين واتحاد الصحافة الخليجية.

تركي السديري.. صانع الصحافة الرياضية الخليجية

في فترة مبكرة من حياته حرص الكاتب الراحل تركي السديري على تكريس وقته وجهده على قراءة مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وعدد كبير من الروائيين العرب لتنتقل به السفينة إلى الأدب الروسي الذي أبحر فيه فقد قرأ لدستوفسكي وبوشكين وتيشيخوف، كما اهتم بالروايات الفرنسية وبالأدب الأمريكي وخاصة الأدب الزنجي.

وكان لذلك الكم الهائل من الروايات العالمية دور مهم وفعال في صناعة تركي السديري الصحفي المثقف والكاتب اللامع، الذي انعكست ثقافته الأدبية على كتاباته الرياضية في الجزيرة واليمامة والرياض، التي تميزت بأسلوب فريد من نوعها وبالتالي تفوقت على مقالات الكثيرين من الكتاب الرياضيين في ذلك الوقت. لهذا وصفه الصحفي المصري الكبير حسن المستكاوي بأنه “صانع الصحافة الرياضية الخليجية”، وأول من قرئ له وخشي منافسته من نخبة إعلام مصر الرياضي والفرعوني وشبه ريشته بالقوة وصمود أبو الهول وخفرع..

“شارع تركي السديري”

كرّس الصحفي السعودي الكبير “تركي السديري” عمره لمدينته وجريدته (الرياض) التي تسمّت بها، وقدم لها طيلة 40 سنة من عمره وتصبب عرقه فداءً لها، ليثري الصحافة السعودية ويشكّل منعطفاً مهماً في تاريخها، ولأن الذاكرة الوفية لا تنسى الرموز، أطلق على أحد شوارع العاصمة السعودية اسم تركي السديري. وتأتي هذه اللفتة الطيبة من قيادة المملكة، لتؤكد أن الرياض لم تغفل عن وميض سيرة عاطاء أولادها، وعطائهم الفياض. وفي هذا السياق صرّح ابنه مازن لوسائل إعلام سعودية قائلاً: “تغمرنا السعادة دون شك ونحن نتشرف بهذه اللفتة وبتسمية أحد شوارع مدينتنا باسم الوالد، وتلقينا الخبر ببهجة وحبور وهو تخليد لذكرى تركي السديري”.

وأكد مازن السديري أن الوطن لم ينسَ جهود والده، إذ يرى أن ما يفعله الإنسان لوطنه لا يمحى، ووصف تسمية أحد شوارع مدينة الرياض باسم والده بمكرمة وفاء من المسؤولين، ويعتقد (مازن) أن والده كان له دور في تأسيس وتعزيز الوعي في المجتمع بواسطة الصحافة. وأكد الابن، على أن والده كان محباً لمدينة الرياض وتعلّق بها وقضى عمره بها، بعدما انتقل لها من منطقة الغاط وهو صغير، ويعتبر هذا امتدادا لحبه للعاصمة وارتباطه بها كمدينة وجريدة.

إنجازات تركي السديري

بدأ السديري مسيرته في عالم الصحافة بالكتابة في جريدة الجزيرة، حتى انتقل كمحرر رياضي في جريدة الرياض، وتتدرج فيما بعد من محرر رياضي إلى سكرتيراً بعدة أقسام، كان بدايتها للمحليات ثم للتحرير، فيما بعد أصبح رئيساً لتحرير جريدة الرياض، قاده طموحه وثقته بنفسه بالإضافة إلى صرامته نحو تحقيق الأفضل ومواكبة الأحداث بما يتناسب ومكانة وطنه، حاول السديري إضفاء صبغة أدبية على التغطيات الرياضية. كان صارماً بكل القضايا التي تتعلق بالعمل فقد يعاقب المقصر ويكافئ المتميز بسخاء، ففي عام 1972، بدأ يكتب عاموده الصحفي المعنون بـ (لقاء) واستمر ينشر هذا العمود قرابة 4 عقود.

وبقي برئاسة تحرير جريدة الرياض 4 عقود حيث استلم رئاسة التحرير في سنة 1974، وقد طوّر السديري جريدة الرياض حيث أصبحت تصدر طبعاتها بالألوان وزاد عدد صفحاتها وملحقاتها وفتح لها مكاتب في عدة عواصم عربية وعالمية.

في سنة 2005، تم انتخابه كأول رئيس لاتحاد الصحافة الخليجية وبقي فيها حتى وفاته سنة 2017، فضلا عن ذلك فقد كان عضواً في مجلس إدارة مؤسسة اليمامة الصحفية، وفي رئاسة اللجنة التأسيسية لهيئة الصحفيين السعوديين والتي انتخب لرئاستها دورتين.

التكريم المستحق

وفي تعليقه على تسمية أحد شوارع مدينة الرياض باسم “تركي السديري” كتب الصحفى السعودية خالد بن حمد المالك- رئيس تحرير الجزيرة السعودية- تحت عنوان: (التكريم المستحق): “أسعدني تسمية أحد شوارع مدينة الرياض باسم الزميل تركي العبدالله السديري رحمه الله، وسعادتي تأتي من تثميني لدور تركي في خدمة مدينة الرياض بدفق قلمه، ونبض قلبه، حباً واهتماماً للمدينة الجميلة التي عشقها، ومنحها من جهده وعمله إعلامياً ووطنياً، ووظّف الصحيفة التي كان يرأس تحريرها وتأخذ من اسم المدينة اسماً لها لمتابعة كل حراك فيها، وكل منجز تم بالتحليل والقراءة، بما استحق عليها أن يطلق اسمه على أحد شوارعها”.

وأردف خالد المالك: “مثل هذا التكريم يحفّز المكرَّم، ويمتد التحفيز إلى غيره ممن يستحقون التكريم، ويلقي بظلاله على كل مواطن يعمل من أجل خدمة وطنه، وبالتالي يكون تكريمه مبادرة مستحقة، تثميناً للعطاءات الكبيرة، والأعمال المهمة التي كانت لها دلالاتها في تعزيز مكانة الوطن، والذب عنه في كل محفل وميدان ومناسبة”.

المسيرة العملية لـ تركي السديري

تولى الراحل تركي السديري رئاسة تحرير جريدة (الرياض) سنة 1974 عندما كان في الثلاثين من عمره، واستمر في منصبه 41 عاما، وفي عام 1972 بدأ عموده الصحافي (لقاء) في العدد 2300، وهو العمود الأطول عمرا في تاريخ الصحافة السعودية؛ إذ استمر نحو 43 عامًا. انتخب كأول رئيس لاتحاد الصحافة الخليجية منذ عام 2005 وحتى وفاته في 14 مايو 2017 ، كما كان عضواً في مجلس إدارة مؤسسة اليمامة الصحفية، وفي رئاسة اللجنة التأسيسية لهيئة الصحفيين السعوديين، كما انتخب رئيسا للهيئة دورتين.

الحوار الأخير

عندما سأله موقع “سبق” في حواره الأخير قبل أن تتدهور حالته الصحية، عن ماذا بقي من الصحفي تركي السديري بعد أكثر من ٥٠ عاماً من الكتابة والصحافة والتفاعل اليومي مع الناس، كان جوابه بسيطاً ومعبراً: “كما بدأ، تبقّى منه القارئ والمتابع للأحداث؛ لكن الفرق أن تركي الشاب كانت تنقصه الخبرة والدراية، وتركي المسنّ اليوم كأنه يعرف إلى أين تتجه الأحداث”.

وبسؤال (سبق) عن رأيه السابق في أن “الصحافة مثل الدنيا واسعة مغرية وغامضة، مهنة فيها إيهام الخلود ونكد المفاجآت، فيها وقار الأكاديمي وابتذال الملاهي الليلية”، قال: “نعم لا تزال، وكل يوم، ومع تطور وسائل التواصل والانتشار؛ فإن عبارتي هذه تتأكد”.

في ذات الحوار قال لـ”سبق” عن طفولته: “ليس فيها ما يُذكر، ولم تُتَحْ أمامي آفاق للشغب أو للأحلام؛ فما كان هناك سوى خيالات وأمانٍ بعيدة الوصول.. أنا ابن قرية في الأساس؛ لذلك فأنا عاشق للزراعة والنخيل مثل الكثير من أبناء جيلي، الذين انتقلوا من قراهم إلى الرياض في طفولتهم، وحينها لم تكن الرياض متقدمة كثيراً عن القرية، كانت قرية أخرى كبيرة ومختلفة. كنت أعيش مع أمي -رحمها الله- بإمكانات جداً محدودة، ولا أرى آفاقاً تشجعني، كنت يتيماً، وإخوتي يعملون في مدن بعيدة، ولم أعرف عنهم شيئاً حتى بلغ عمري ١٣ عاماً؛ حينها تَعَرّفت إلى أخي الذي كان بمثابة والدي محمد، رحمه الله”.

مؤلفات تركي السديري

يعتبر السديري إلى جانب عمله الصحفي قاصاً، وقد كتب القصة بلغة خاصة تعتمد على الرمزية، والبوح الذاتي، ويظهر تمكنه من القراءة الواسعة، وتمكنه من طرح الأسئلة، ومن مؤلفاته:

  • حادي بادي (قصص قصيرة)، نادي الرياض الأدبي، الطبعة الأولى، 1412هـ/1991م.
  • ناقة العوني، (قصص قصيرة)، الفرزدق، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ/1994م.
  • الإسلام والرياضة (بحث عن الرياضة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) 1433هـ/2012م.
  • أوراق من حقيبة صحافي. صدر عام 2021 عن نادي الرياض الأدبي.

الجوائز

حصل السديري على جائزة الصحافة العربية فئة أفضل عمود صحفي، وحصل عليها في حفل كبير أقيم في دبي بعد أن اختير من بين العديد من مشاركات الكتاب الخليجيين والعرب.

وفاة تركي السديري

أصيب تركي السديري بسرطان المعدة قبل ثلاثة عقود من وفاته، إلا أنه واجه المرض وحرص بعدها على تناول طعامه كالأرز والخضار مسلوقة وبكميات قليلة. وتوفي يوم الأحد 18 شعبان 1438 هـ الموافق 14 مايو 2017م عن عمر 73 سنة.

صدر عنه: كتاب (كان هنا). تأليف ابنته الدكتورة هند بنت تركي السديري. صدر عام 2022.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى