(تاكيو أوساهيرا).. أبو النهضة اليابانية
كان (تاكيو أوساهيرا) منذ طفولته يتابع بشغف أخبار الدول المتقدمة والتي سبقت بلاده (اليابان) في التقدم العلمي والتكنولوجي, فضلا عن النهضة الاقتصادية وبصفة خاصة التجربة الألمانية وما أحدثته من تغيير كبير في الحياة الصناعية في ألمانيا. كان يتسال دائما عن سر تقدم الغرب عن الشرق، الى ان وجد اجابه بسيطة وهي المحرك والميكانيكا. فيقول (إذا عرفت كيف تصنعه، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها).
كان يعتقد بأن النهضة الاقتصادية هذه تنبع من عظمة المحرك، فكان مولعاً باختراع المحرك، وكان ينظر إليه بإجلال وإكبار ويحلم باللحظة التي يكبر فيها ليحقق حلمه ويصنع محركاً في اليابان، كان يعتقد بأن النهضة الصناعية اليابانية ستأتي من المحرك أيضاً.
الميكانيكا التطبيقية
كلما كان “أوساهيرا” يكبر، كان حلمه يكبر معه، وعندما وصل إلى المرحلة الجامعية اختار التخصص الأقرب إلى شغفه وهو اختصاص “الميكانيكا التطبيقية” وتفوق فيها، وكان هذا التفوق نابعاً من شغفه القديم الذي لم يفارقه منذ طفولته.
ونتيجة لتفوقه وتميزه في تخصصه أرسلته اليابان مع مجموعة من طلاب الجامعة في بعثة علمية لدراسة “أصول الميكانيكا العلمية” في جامعة “هامبورغ” الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وهنا يقول: “ذهبت إلى جامعة هامبورغ بألمانيا وأنا أحمل حلمي الخاص الذي لا ينفك عني أبداً، والذي خالج روحي وعقلي، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً”.
وصل “أوساهيرا” مع زملائه في البعثة الدراسية إلى الجامعة، وهناك بدلاً من أن ينزل إلى المختبرات والمصانع وجد نفسه في القاعات الدراسية منكباً على الكتب، وهو لم يكن يريد ذلك، وإنما كان يريد النزول بشكل مباشر إلى المصنع ليصنع محركاً بيده.
ظل “أوساهيرا” يتابع دراسته ويتفوق فيها، ويحلم أن يحقق حلمه، وفي يوم من الأيام سمع عن معرض للمحركات الإيطالية سيقام في مدينة “هامبورغ”، فذهب إلى المعرض لمشاهدة المحركات الحديثة.
في المعرض وجد “أوساهيرا” محركاً نال إعجابه بشدة وأراد شراءه، لكنه لم يكن يملك سوى مرتبه الشهري، والذي بالكاد يكفي ثمناً لهذا المحرك، ولكن نتيجة لرغبته الشديدة في الوصول إلى ما يريد قام بشراء المحرك وأنفق عليه مرتبه الشهري الذي لم يكن يملك غيره، وأخذه معه إلى المنزل.
عندما وصل إلى المنزل أحضر ورقة وقلماً وبدأ بفك قطع المحرك قطعة قطعة، فأخذ يرسم القطعة التي قام بفكها، ثم يضع عليها رقماً، إلى أن انتهى من فك جميع أجزاء المحرك ورسمها وترقيمها، ثم أعاد تجميعها من البداية، فاستغرق هذا العمل معه 3 أيام كان يعمل خلالها 18ساعة يومياً، وعندما انتهى من تجميع كل أجزاء المحرك، أداره فعمل المحرك كما في السابق، وهنا شعر بسعادة غامرة.
وذهب مسرعاً إلى رئيس بعثته وأخبره بما فعل، فأثنى عليه وعلى إنجازه وأعطاه محركاً آخر وقال له: خطوتك الثانية هي القيام بتصليح هذا المحرك، فهذا المحرك معطل، فأخذ “أوساهيرا” هذا المحرك وذهب به مسرعاً إلى منزله والعزيمة تلهب حماسه وشغفه، وقام بنفس العملية السابقة، فبدأ بتفكيك جميع أجزاء المحرك قطعةً قطعة، وبعد فك كل قطعة يقوم برسمها وترقيمها، وخلال عمله هذا وجد 3 قطع متهالكة ومتآكلة، فقام بأدواته البسيطة بإصلاح تلك القطع، ثم أعاد تركيب أجزاء المحرك، وكانت كل خطوة يقوم بها تحفزه على عمل الخطوة الثانية.
استغرق منه هذا العمل 10 أيام ليكتمل، وعند انتهائه أدار المحرك وإذ به يعمل، فعاد إلى رئيس البعثة، فأثنى عليه مرة أخرى وأرشده إلى الخطوة التالية، وأخبره بأنه وصل إلى المرحلة التي تؤهله لأن يصنع قطع المحرك بنفسه، ثم يقوم بتركيبها.
وهنا كان التحدي أمام “أوساهيرا” فقد تزامن ذلك مع رسالة الدكتوراه التي يجب أن يقدمها، لكنه بدلاً من أن يبدأ العمل عليها، ترك كل ذلك وقرر أن يتبع شغفه للوصول إلى هدفه، فقرر أن يتعلم صهر المعادن، فالتحق بمصانع صهر الحديد والنحاس والألمنيوم، وبدلاً من تقديم رسالة الدكتوراه قام بارتداء بدلة العمال الزرقاء وصار يعمل ليل نهار، وبقي على هذه الحال مدة 9 سنوات.
وبعد فترة من الزمن علم إمبراطور اليابان بأمره، فأرسل إليه مبلغ 5000 جنيه ذهبي كهدية له، تقديراً لجهوده واجتهاده، فاشترى بها الأدوات والمعدات اللازمة لصناعة المحركات وشحنها إلى “ناكازاكي” ثم عاد إليها مع زملائه في البعثة الدراسية، ولكن جميع زملائه عندما عادوا كانوا يحملون شهادات الدكتوراه، أما هو فكان يحمل معه المحرك فقط.
وهنا علم الإمبراطور بقصته وطلب مقابلته، ولكنه قال: لا أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كامل في اليابان.
كان “أوساهيرا” قد قضى 9 سنوات في ألمانيا وهو يحاول أن يصنع المحرك، ولم يحصل فيها على شهادة الدكتوراه، كما أنه عمل فيها في عدة مصانع، وخلال هذه الفترة لم يجنِ المال، بل أنفق كل ما يملك، ومع ذلك فإن شغفه كان يمنعه من أن يتوقف قبل تحقيق حلمه، فتابع عمله في اليابان، وكلفه ذلك 9 سنوات أخرى من حياته.
بعد كل تلك الفترة طلب “أوساهيرا” أن يقابل الإمبراطور، وذهب “أوساهيرا” مع مساعده إلى قصر الإمبراطور، وقد كانا يحملان معهما 10 محركات صنعت في اليابان بشكل كامل، فأدار المحركات فعملت جميعها بأداء مذهل، فقال الإمبراطور: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، إنه صوت تشغيل محركات يابانية الصنع، فقام بشكر “أوساهيرا” ومكافأته والثناء عليه، وعاد “أوساهيرا” إلى منزله لينام 10ساعات متواصلة، وقد كانت تلك الليلة هي المرة الأولى التي ينام فيها 10ساعات كاملة منذ أن اشترى أول محرك قبل 18 عاماً.
كانت “لتاكيو أوساهيرا” رؤية واضحة وخطوات ثابتة تقوده للوصول إلى شغفه وإلى تحقيق هدفه الذي طالما عمل من أجله، هذا الشغف ظل يلازمه كأنفاسه التي بين جنبيه طيلة ثماني عشرة سنة.
ولم يذهب سعيه نحو شغفه هباءً منثوراً فقد بقي اسمه محفوظاً في ذاكرة التاريخ كرجل خدم بلاده وسعى لرفعته ونهضته، حتى وصل إلى ما يريد، ولا تزال اليابان تذكر قصة أوساهيرا”، الرجل الذي خدم اليابان وسعى لتحقيق حلم طفولته وحبه منذ الصغر، فنجح وأبدع حين عرف كيف يستثمر شغفه ويدرس في الاختصاص الذي يساعده على تحقيقه ثم يعمل في المسار المهني الذي يحققه، وتخليداً لقصته العظيمة ابتُكِر المثل الياباني: اعمل 9 ساعات، 8 لأجلك، وساعة من أجل اليابان.
يقول: (ذهبت إلى ألمانيا فإذا بهم يدرسونني الكتب والنظريات، ولكني أريد أن أمتلك القدرة على تصنيع المحركات، وأن أعرف كيف أتعامل معها، فمكثت في حيرة أنظر إلى المحركات، وكأنني طفل أمام لعبة جميلة، ولكنها شديدة التعقيد، حتى سمعت عن معرض للمحركات الإيطالية، فأخذت كل ما أملكه من المال، وذهبت إلى ذلك المعرض، واشتريت محركاً مستعملاً، وذهبت به إلى بيتي، ثم شرعت في تفكيكه، وقلت إذا فككته قطعة قطعة، ثم استطعت إعادته؛ فإن ذلك يعني أني سوف أمتلك المعرفة اللازمة للتعامل مع هذه المحركات).
ثم يكمل قائلاً: (وكنت أفتح المحركات وأفككها، ثم أرسم كل قطعة رسماً دقيقاً، وقد يستغرق ذلك مني يوماً كاملاً من أوله إلى آخره. كنت اتناول في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. استطعت تفكيك المحرك ثم أعدت تركيبه، فلما أعدته وبدأت تشغيله بنجاح، فرحت حتى كاد قلبي أن يقف من الفرح. بعدها أخبرت رئيس بعثتي بأني قد بدأت الطريق، فأعطاني محركاً عاطلاً فأصلحته بنجاح، وقال لي: (لا بد الآن أن تصنع لنا محركاً كاملاً من صنع يدك). بعد ذلك قال رئيس البعثة: (عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً).
(ولكي أستطيع أن أفعل ذلك، التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، وذلك بدلاً من أن أعد رسالة دكتوراه كما أراد مني أساتذتي الألمان. وتحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن الغربي. كنت أطيع أوامره وكأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل مع أنني من أسرة ساموراي، والأسرة السامورائية هي من أشرف وأعرق الأسر في اليابان. يخدمها الناس ولاتخدم الناس. ولكنني كنت أخدم اليابان. وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.
قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة).
ويكمل قصته قائلاً: (ثم سمع بي (ميكادو) إمبراطور اليابان، ورغب في رؤيتي، فقلت في نفسي: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنعا كاملاً للمحركات. واستغرق ذلك منّي تسع سنوات، وبعد تسع سنوات كاملة، أخذت عشر محركات، وذهبت بها إلى الإمبراطور، وقلت له : هذه محركات يابانية مئة بالمئة. أدرناها فاشتغلت. ابتسم الميكادو وقال: (هذه أعذب معزوفة سمعتها في حياتي، صوت المحركات اليابانية الخالصة).
هكذا ملكنا الموديول، وهو سر قوة الغرب نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب).