باحثة لبنانيّة تتمكن من تصمّم أوّل دائرة متكاملة في الولايات المتحدة الأمريكية
“علّمني لبنان أن أكون صلباً”، هذه المقولة للعالم “لآرديم باتابوتيان”، الأرمنيّ اللبنانيّ والحائز على جائزة نوبل للعام 2021, مقولة جعلت الباحثة والعالمة اللبنانية (ميشيلّا رستم), تستحضر مشاعرها, الأمر الذي ساعدها ودعمها أثناء رحلتها العلمية بالولايات المتحدة الأمريكية، سواء في الحياة أو في العلوم. على حد قولها.
حين وقعت الحرب الأهلية اللبنانيةعام 1975م, اضطرت أسرة “ميشيلّا بطرس رستم” إلى تسريبها من المدرسة وهى فى المرحلة الثانويّة. وإذ لم تُتح لهما فرصة العودة إلى المدرسة، علمتها أسرتها هي وشقيقها على تقدير العلم وجعله من أولويّاتهما. تقول “ميشيلاُ”, لطالما ردّدا لنا: “علمُكما سبيلُ نجاحكما مدى الحياة”. وهذا العام، بعد قرابة نصف قرن على الحرب وعبورها المحيط نحو النصف الآخر من العالم، أتيحت لـ “ميشيلاُ” فرصة تصميم أوّل رقاقة دوائر متكاملة (Integrated Circuit) من الألف إلى الياء.
في العام 2019، غادرت “ميشيلاُ” لبنان برفقة أسرتها سعياً وراء تحقيق حلمها، محتفظة في وجدانها بالإيمان العظيم الذي يميّز الشعب اللبناني. كانت أوّل فرد في عائلتها يقدم على خطوة الدّراسة في الخارج، حاملة معها ذكريات ضيعتها/ قريتها “ممنع” في عكار- شمال لبنان. وها قد وصلت إلى بلد جديد، وكانت على استعداد لبدء فصل جديد من حياتها كعضو في قسم مينغ هشيه (Ming Hsieh) للهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب في جامعة جنوب كاليفورنيا (USC Viterbi).
انضمت ميشيلّا إلى مختبر الدّوائر التناظريّة والراديويّة المتكاملة والنّظم الميكروويّة والموجات الكهرومغناطيسيّة (ACME) تحت إشراف البروفيسور قسطنطين سيديريس، حيث تعمل على مشاريع التطبيقات اللّاسلكيّة والطبيّة الحيويّة.
كان عامها الأوّل مملوءاً بالتحدّيات، وسرعان ما انطلقت في العمل على أبحاثها. باشرت العمل في مشروع مختبرها للأقراص الذكيّة. في أثناء تنقّل الأقراص عبر الجهاز الهضميّ للمريض، تجمع عادةً البيانات الآنيّة وترسلها لاسلكياً خارج الجسم، فتُتيح هذه التقنيّة فرصة تشخيص المريض في أيّ مكان وزمان من دون الحاجة إلى الخضوع لإجراءات جراحيّة تستغرق وقتاً طويلاً كتنظير القولون أو لاختبارات التصوير الشعاعيّة.
لكنّ الرقاقة التي صممتها تمنح هذه الأقراص قدرة لم تحظَ بها يوماً. ركّزت على تطوير الجانب المتعلّق بتمركز الأقراص؛ أي مدى سهولة عثور الأطباء على القرص في داخل الجسم أثناء هضمه. فكلّما ازدادت دقّة تحديد موقع القرص، ازدادت معها فرصة التوصّل إلى تشخيص أفضل.
وتُعدّ التقنية الجديدة التي ساهمت ميشيلّا في تطويرها لتحديد موقع القرص الأقلّ استهلاكاً للطّاقة، والأكثر دقّة على الإطلاق. فباستخدام الرقاقة التي تم تصميمها، يُمكن تحديد موقع القرص في داخل الجسم بدقّة تبلغ 1 ملّيمتر. ينتج من ذلك ببساطة أدقّ قرص ذكيّ سبق أن صُمّم!
إنّ تصميم رقائق الدّوائر المتكاملة عمليّة معقّدة تستغرق وقتاً طويلاً، لكنّها عمليّة وقعتُ ميشيلّا في حبّها؛ وهي تبدأ بتصميم على مستوى النّظام لكتلة الدّوائر التي تشكّل الرّقاقة، ثمّ نتابع بعمليّات محاكاة المخطّطات وخريطة الهيكلة، وما بعد خريطة الهيكلة والمحاكاة العامّة. بالنسبة إليّها، إنّ خريطة الهيكلة هي أكثر المراحل متعة في العمليّة، وهي تعتبرها فنّاً بذاتها، يتطلّب كمّاً من الصبر والإبداع. وأخيراً، تصبح الرّقاقة جاهزة للإرسال إلى المصنع للتصنيع.
تقول ميشيلّا: “لقد زوّدني هذا المشروع بخبرة عظيمة ومهارات واسعة في تصميم الكتل التناظريّة والمختلطة الإشارات والمحاكاة الكهرومغناطيسيّة وتصميم الدّوائر المطبوعة، إضافة إلى مهارات الاختبار والتحقّق. وتُعتبر كلّ منها مهارات عمليّة لا تنحصر أهميّتها بمستقبلنا فقط، بل يشتدّ الطلب عليها كذلك. وما يحفّزني هو مجرّد التفكير بأنّ لهذا القرص القدرة على تطوير الاختبار والتشخيص من نقطة الرعاية. بالنسبة إليّ، هنا تكمن القيمة الحقيقيّة للهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب: وهي القدرة على معالجة المشاكل التي تواجهها البشرية والتأثير فيها”. تستطرد ميشيلّا, “ولكن ليس البحث وحده ما يحفّزني. فبالنسبة إليّ، هناك الكثير على المحكّ”.
في لبنان، يكاد يغيب قطاع الدّوائر المتكاملة عن سوق العمل. وهدف ميشيلّا أن تستخدم خبرتها الدراسيّة الاستثنائيّة لدعم الطلّاب اللّبنانيّين الشّباب ومساعدة بلدها. فالحياة في لبنان قد تكون مملوءة بالتحديّات وبما هو غير متوقّع. وتعلمت ميشيلّا من كونها لبنانيّة أن تكون قويّة لكي تواجه أيّ تحدٍّ، كما تعلمت أيضاً أن تكون مرنة للتكيّف مع الصعاب. تقول “لكنّني لست بمفردي؛ فالشّباب اللّبنانيّ جميعه يتحلّى بهذه العقليّة. إنّه لا يحتاج سوى لبعض الدّعم وفرصة لإبراز ما لديه من قدرات”.
لم يكن لـ ميشيلّا بلوغ هذه المرحلة في مسيرتها المهنيّة من دون دعم مرشدها البروفيسور “سيديريس”. فعلى الرّغم من جدول أعماله الضيّق، إنّه حاضر دوماً لتحفيزها. تقول “إنّني ممتنّة فعلاً لثقته وتوجيهه. فلولا نصائحه وتعليماته الواضحة والثّاقبة، لما بلغ قرصي مرحلته الأخيرة. فلقد رعى بيئة صحيّة وآمنة في (ACME) تدعم عملي”.
كان انضمامها إلى (USC) وفرع الهندسة الكهربائيّة وهندسة الحاسوب (ECE) أفضل قرار في حياتها أقدمت عليه (على حد قولها).
نصيحتها
وهنا تنصح ميشيلّا كل باحث وطالب علم قائلة: “كونوا أمناء، أكاديميّين، حاذقين، شجعان وطموحين. ثابروا في الطريق الذي اخترتموه، وقودوا بشغفٍ وتفانٍ حتى تحقّقوا أهدافكم المنشودة. إنّني أتطلّع إلى المستقبل لتحقيق إنجازات كبيرة والمساهمة في المجتمع البحثي. السّماء حدودنا. فثابروا”.
حول ميشيلّا بطرس رستم:
حائزة على منحة أننبرغ (Annenberg Fellow) وطالبة دكتوراه في السنة الثالثة في مختبر (ACME) للبروفيسور قسطنطين سيديريس.
قُبِل بحثها بعنوان “Wireless Frequency-Division Multiplexed 3D Magnetic Localization for Low Power Sub-mm Precision Capsule Endoscopy” في مؤتمر الدّوائر المتكاملة المخصّصة (CICC 2022) لجمعيّة مهندسي الكهرباء والإلكترونيّات (IEEE).
وهي حائزة على المنحة (Cadence Women in Technology) الدّراسيّة للنّساء في التّكنولوجيا للعام 2021 التي تدعم النّساء اللّواتي يُعتَبرن رائدات مستقبليّات في مجال التّكنولوجيا، كما كانت مرشدة في برنامج (SHINE) في جامعة (USC Viterbi) لطلّاب المدارس الثّانويّة المهتمّين بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيّات.