مهن ابداعية

“الفواخري”.. أقدم مهن التاريخ الإنساني

كانت المهن والحرف قديمًا تتم بشكل يدوي، فكان الإنسان هو الآلة وهو العقل وهو اليد العاملة التي تقوم بأداء كافة الأعمال الخاصة بالمِهنة، ومن هذه المهن مهنة الفواخري، والتي تعد من أقدم الحِرف التي عرفها الإنسان، والتي شهدت ارتقاء الإنسان من البدائية المفرطة إلى التقدم والرقي، حتى إن الدارس لها يمكنه أن يفهم تطور الجنس البشري عبر العصور المختلفة، من خلال درجة دقة صناعتها وزخرفتها.

“صناعة الفخار”.. حرفة لازمت الإنسان، وتعود إلى عصر ما قبل الأسرات في مصر، وكان المصري القديم أول من اهتم بها، ووصل إلى درجة عالية فيها من الدقة والكمال، بداية من أواني الأطعمة وأدوات الزينة، حتى توابيت الموتى، لذا رفعوا صانع الفخار “الفخراني” إلى أرفع مكانة يمكن أن يصل إليها عامل بسيط، فقد صوروا الإله “خنوم” – إله الخلق عند الفراعنة – وهو يجلس على عجلة الفخار ليشكل الإنسان.

موسم الجمع

قديمًا كان المصريون ينتظرون موسم الفيضان بفارغ الصبر، وبمجرد وصول الطمي، يسارعون بتجميعه وتقديمه لصانعي الفخار لتصنيع الأواني والمستلزمات المنزلية والكهنوتية، ثم يتم حرقها ليتغير لونها طبقًا لنوع الطمي الذي صُنعت منه، فالرواسب الطينية تتحول إلي اللون البني أو الأحمر، ورواسب الهضاب الجيرية يتحول لونها إلى اللون القرنفلي أو الأحمر الخفيف، وإذا زادت عملية الحرق يختلف اللون باختلاف قوة الحرارة، فتتحول إلى اللون السنجابي أو الرصاصي أو الأرجواني أو الرمادي الضارب إلى الخضرة، وللأسف بعد بناء السد العالي اختفت هذه الرواسب تمامًا.

التنقية من الشوائب

تبدأ صناعة الفخار بتنقية الطين من الشوائب العالقة به، ثم يقوم العامل بطحنه جيدًا بقدمه، يتم إضافة بعض التبن أو الروث المسحوق إذا كان الطمي دهنيًا، ثم يبدأ في تشكيل الأواني، وما عثر عليه من أشكال في المقابر الفرعونية يظهر لنا مدى التطور والتنوع في تشكيل “الطمي” عبر العصور، فكانت في البداية بسيطة تتناسب مع مطالب الحياة اليومية، فتشكلت على هيئة طواجن للطبخ، وأواني للتخزين، وأقداح ومغارف ذات المقابض الطويلة والقصيرة.

تجفيف الأواني

تجفيف الأواني الطينية تعد أهم خطوات صناعة الفخار، فإذا فشلت تلك العملية بالتعرض للهواء أو الحرارة – وهو مازال رطبًا – تلف وتشقق، خاصة إذا كان مصنوعًا من طمي دقيق المسام، لذلك يضطرون لتجفيفه تدريجيًا بطريقة طبيعية حتى يصبح مستعدًا للحرق، وكان العامل يقوم بحرقها على الأرض ويشعل فيها النار، ثم يغطيها بروث الحيوانات ليحفظ الحرارة، ثم بدأ في بناء الأفران التي تتكون من ثلاثة أجزاء، وهي بيت النار، وغرفة الرص، والمدخنة، وبعد خروج الأواني من الأفران يقوم بدهانها بطلاء يلتصق بها تمامًا ولا ينفصل عنها؛ لأن نسبة انكماشه تتساوى مع نسبة انكماش الإناء نفسه.

ومن أغرب الأشكال التي عثر عليها في القبور الفرعونية، الأواني المزدوجة ذات البزبوز، والتي تشكلت على هيئة حيوانات وأسماك وطيور، ويبدو أنها كانت تُصنع يدويًا أو بطريقة القوالب، وإن كان علماء الآثار اختلفوا حول الفترة التي استخدم فيها المصري القديم الدولاب لصنع الأواني الفخارية، فقال البعض إن أول استخدام له كان لصنع الجرار الفرعوني الذي أنتجه المصنع الملكي في عهد الأسرة الأولى، وقال البعض الآخر إن بداية استخدامه يرجع إلى عهد “خع خموي” في الأسرة الثانية؛ هذا الدولاب كان عبارة عن فخدة مستديرة يوضع الطين عليها أثناء تشكيله، لا يزيد ارتفاعه عن 40 سم، وقرص لا يزيد ارتفاعه عن 35 سم، وكانت تدار باليد بمحور رأسي أو عمودي.

الفخار في العصر القبطي

في العصر القبطي، اعتمد فن الفخار على الأشكال التي كانت موجودة في مصر الفرعونية، مع إضافة رموز تعبر عن المعتقد المسيحي كعنقود العنب، والصلبان، ليصبح الفخار القبطي فنًا له خصوصيته التي تميزه كأسلوب وسط بين الأساليب الأخرى، وأهم أنواع الفخار الذي عُثر عليه الفخار البني العادي، والأحمر الذي تحتوي طينته على مركبات الحديد التي تعطيه هذا اللون، والرمادي والسنجابي والبرتقالي المصفر اللون، التي تصنع من “طينة” لها لون رمادي مائل إلى السُمرة.

صناعة الفخار في العصر الإسلامي

أما في العصر الإسلامي، فقد اكتسبت صناعة الفخار في مصر صفات جديدة، ولعل ما سجله الرحالة الفارسي “ناصري خسرو قبادياني” في القرن الحادي عشر الميلادي يظهر ذلك، فقد قال: “ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع، فهو لطيف وشفاف، ويصنعون منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها”، كما تعتبر الكسرات الفخارية والخزفية التي عُثر عليها في أطلال مدينة الفسطاط دليلاً حيًا على ذلك.

بداية التراجع

ولــكــن كـــان للتطور والــحــداثــة تــأثــيــره الــســلــبــي عــلــى مــثــل هــذه الصناعة التقليدية، حيث بـــدأت الصناعات الحرفية التقليدية تشهد تراجعًا مــلــحــوظــًا أثــمــره تــطــور الصناعات الحديثة ومواكبة العالم لعمليات التصنيع الإلكتروني بخاصة في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، فبدأ الركود يشوب صناعة الأواني الفخارية وبات العطاء المستمر من قبل الحرفيين ينضب ويتوارى شيئًا فشيئًا حتى بدا واضحًا وجليًا منذ العقد الثالث للقرن الماضي، وبقي عدد بسيط من أولئك الصناع المهرة بل والفنانين المبدعين يجابه ويحارب من أجل بقاء حرفته وحرفة أجداده، بعضهم عمد إلى شراء آلات حديثة، والبعض الآخر أصر أن يستمر بإبداع الصناعة التقليدية من أوان وأباريق وقوارير وصحون مزينة بألوان زاهية، وأخرى تصلح كأركان وزوايــا ديكور رائع في جنبات المنزل والحدائق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى