الدكتورة زهيرة عابدين.. سيدة “العمل الخيري” الأولى
كانت حياة الطبيبة المصرية الرائدة زهيرة حسين عابدين، المولودة عام 1917، مكرسّة – بالكامل- للعمل الخيري، ولقد حرصت طيلة حياتها ألايشيد بها أحد، ولا يكتب عنها أحد، وكانت تنافح عن عملها الخيري والاجتماعي بسياج من السرية والكتمان،فقد كانت ترى أن “أصدق الأعمال هو ما يتم دون صخب”.
وُلدت زهيرة عابدين في أسرة ارستقراطية محافظة، فقد كان أبوها عضواً في مجلس الشيوخ أيام العهد الملكي، وغرس فيها منذ نعومة أظافرها حب الإسلام والتدين، فكانت تواظب على صلاة الفجر وهي في الخامسة من عمرها، كما حفظت القرآن الكريم.
وهي تقول عن تلك الفترة: “تعودت على صلاة الفجر يوميًّا وكان عمري خمس سنوات، وكنت أحفظ القرآن منذ طفولتي، حتى إنني عندما التحقت بمدرسة تبشيرية اسمها (سان ماري) أدخلوني في إحدى الحصص مع الأطفال كنيسة المدرسة لتأدية طقوس الصلاة والاستماع للتراتيل التي تتلوها الراهبات، إلا أنني وجدت لساني قد انعقد عن النطق، وقلبي انقبض بشدة، وشعرت بكره شديد لهذه المدرسة، وطلبت من والدي أن يلحقني بمدرسة أخرى؛ لأنني لن أذهب لهذه المدرسة مرة أخرى، واستجاب والدي لرغبتي، وألحقني بمدرسة السُنيّة رغم أنها بعيدة جدًّا عن منزلنا آنذاك”.
وُلدت زهيرة عابدين في أسرة ارستقراطية محافظة، فقد كان أبوها عضواً في مجلس الشيوخ أيام العهد الملكي، وغرس فيها منذ نعومة أظافرها حب الإسلام والتدين
وتتذكر أنها كانت حين لا تجد مكانًا للصلاة في مدرستها الجديدة، لم تمنعها شجاعتها من طلب توفير مكان للصلاة، واستجابت الناظرة وسمحت لـ “زهيرة” وزميلاتها بتنظيف إحدى الحجرات في جانب من فناء المدرسة، واتضح أنه كان مسجدًا، ولكنه أُغلق وأُعيد افتتاحه، وأصبح المسجد شعلة نشاط من صلاة، ودروس تحفيظ، وتجويد قرآن كريم، وبدأت “زهيرة” الصغيرة النابهة تدعو الضيوف من علماء الأزهر.
حصلت على الثانوية عام 1936، وكانت الأولى على مستوى القطر المصري، والتحقت بكلية الطب، وبعد تخرجها سافرت إلى بريطانيا للدراسة، وكانت أول طبيبة يسمح بتعيينها في هيئة التدريس بالجامعات المصرية إثر عودتها من إنجلترا سنة 1949، بعد نجاحها في اجتياز امتحان الزمالة بالجمعية الطبية بإنجلترا، وهي أول طبيبة عربية تحصل على هذه الشهادة.
وتذكر زهيرة عابدين عن مرحلتها الجامعية أنها كانت الطالبة المحجبة الوحيدة في الجامعة، في وقت كان الحجاب قد أصبح غريبًا حتى صار مستهجنًا، خاصة بين طالبات الجامعة اللواتي كن رهانًا مهما من رهانات دعاة التغريب.
حصلت على الثانوية عام 1936، وكانت الأولى على مستوى القطر المصري، والتحقت بكلية الطب، وبعد تخرجها سافرت إلى بريطانيا للدراسة، وكانت أول طبيبة يسمح بتعيينها في هيئة التدريس بالجامعات المصرية إثر عودتها من إنجلترا
وأسست عام 1957 “جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال”. ومن خلال هذه الجمعية، وبالجهود الذاتية، أنشأت عدة مشروعات منها معهد صحة الطفل ومركز القلب والروماتيزم، كما أنشأت منذ عام 1962 دوراً للطلبة الجامعيين المعوزين والمغتربين وأخرى للطالبات الجامعيات المغتربات من خارج القاهرة.
تخصصت الدكتورة زهيرة عابدين في طب الأطفال والروماتيزم، وقدمت أبحاثًا علمية، بلغت 120 بحثاً نشر في مجلات علمية متخصصة عالمية، وكانت الطبيبة الوحيدة عالميا التي حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة “أدنبرة” عام 1980، كما كانت الطبيبة العربية الوحيدة التي حصلت على جائزة البرايت نورمال من الاتحاد النسائي الدولي عام 1992.
منحتها نقابة الأطباء عام 1990 لقب “أم أطباء مصر”، كما منحتها الدولة عام 1996 جائزتها التقديرية في العلوم الطبية التطبيقية، فتبرعت بقيمتها المادية لأوائل الخريجين المتميزين في طب الاطفال والدارسات العليا.
أسست أول كلية لطب البنات في الإمارات عام 1986، ووضعت مناهجها، وعكفت على إدارتها زهاء 7 أعوام. وساهمت في إنشاء جمعية الشابات المسلمات بالقاهرة، وتولت رئاستها، وأقامت وقفاً لتعليم مسلمي البوسنة.
في كل ميدان.. سهم
لم يكن علم د. زهيرة علمًا يقفعند حدود المعاملوالمختبرات، لكنه كان العلم الذي يتفاعل مع المجتمع من حوله، يؤمن به، ويحددمشاكله، ويسعى إلى حلها بكل ما آتاه الله تعالى؛ لذا لم يكن غريبًا أن تتبرعبالقيمة المادية لجوائز عدة حصلت عليها لغير القادرين، أو أوائل الخريجين أو بحوثالأطفال، ومن هذه الجوائز الجائزة التقديرية من مصر لعام 1996 في العلوم الطبيةالتطبيقية، ولم يكن غريبًا أيضًا أن تمنحها جامعة القاهرة لقب “أستاذ كرسي طبالمجتمع”، وبهذا كان لمصر على يد د. زهيرة السبق في ميدان هذا الفرع من العلوم فيالعالم كله.
وثمة نقطة مهمة في حياة هذه السيدة العظيمة، هي أنها رغم أعمالها الاجتماعية الرائدة ومؤسساتها المتعددة، وانغماسها في العمل الاجتماعي والثقاف، حافظت في ذات الوقت على موقعها كباحثة لها مكانتها المرموقة في الوسط العلمي،فللدكتورة زهيرة مدرسة علمية مرموقة تعلَّم على يديها الكثير ممن احتلوا مراكزجامعية مرموقة على مستوى الأستاذية، ولها من الأبحاث العلمية ما يربو على المئة وعشرين بحثًا منشورة في المجلاتالعلمية المتخصصة.
تخصصت في طب الأطفال والروماتيزم، وقدمت أبحاثًا علمية، بلغت 120 بحثاً نشر في مجلات علمية متخصصة عالمية، وكانت الطبيبة الوحيدة عالميا التي حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة “أدنبرة” عام 1980
كانت زهيرة عابدين ترمي في كل ميدان بسهم منسهام الخير،ومن هذه الأنشطة مشروعها الرائد “جمعية أصدقاء مرضى روماتيزمالقلب للأطفال”، التي تأسست عام 1957، واستطاعت من خلال التركيز الشديد على مكافحةمرض روماتيزم القلب بين الأطفال، أن تتحسن نسبة حالات القلب شديدة الوطأة في مصرخلال 20 سنة من 50% إلى أقل من 4%، وهو إنجاز نال تقدير العالم.
كما أنشأت من خلال الجمعية مركزًا للقلب والروماتيزم في منطقة “الهرم” أواخر خمسينيات القرن، وأسَّست له فروعًا ملحقة بالجامعات الإقليمية في كل من أسيوط،وطنطا، والزقازيق، والمنصورة، والإسكندرية.
وأقامت “معهد صحة الطفل”، وهو يحتل مبنى ضخمًا من عشرة طوابقبأحد أرقى أحياء القاهرة، بهدف رعاية الطفولة ووقايتها من أمراض ما قبل سن الرابعة،وعلى رأسها أمراض سوء التغذية، والنزلات المعوية، والجفاف، الشائعة بينالمعوزين من أبناء الوطن، وامتلأ هذا المعهد حاليًا بخدمات صحية واجتماعية، كماأقامت دارًا للطلبة الجامعيين المعوزين والمغتربين، لا تزال تعمل منذ عام 1962 حتى الآن.
وإيمانًا منها بأهمية التعليم والتربية كصمام أمان للمجتمعفقد أنشأت سلسلة مدارس الطلائع الإسلامية، وكان الهدف الأول منها هو تنشئة جيل صالحيعتمد على العلم والإيمان، وأكدت في لائحتها التعليمية اهتمامها الخاص بالتربيةوالأخلاقيات المستمدة من إيمان صادق بالله تعالى، وعلى الحب والتضحية والعطاء،وفرعا المدرسة الرئيسيان يضمان 3500 طالب وطالبة في المراحل المختلفة، ولا تزالانتعملان منذ 25 عامًا، وتُعَدّ هذه السلسلة من أوائل المدارس الإسلامية بمصر، فكانأن سار على فكرتها الكثيرون ممن أسهموا في بث القيم الفاضلة في المجتمع المصري منخلال التعليم.
والفرعان الآخران، هما مدرسة الطلائع بورتوفيق الإسلامية للغات (حوالي 600 تلميذ) وصلت الآن إلى المرحلة الثانوية العامة،وهي شامخة تعمل منذ منتصف الثمانينيات، وآخرها مدرسة 6 أكتوبر الإسلامية للغات. وامتد نشاطها في دول إسلامية أخرى، حيث أقامت وقفًا لتعليم أطفال البوسنة والهرسك.
عميدة مدى الحياة
كانت د. زهيرة تستشعر مسؤوليتها تجاه فئتين بوجه خاص، هما الأطباء والمرضى. وتشعر بالأمومة نحوهم؛ لذا فمن بين مراحل حياتها التي لا تُنسى، أن أُسندت إليها مهمة تأسيس أول كلية طب متطورة بدولة الإمارات العربية “كلية دبي الطبية للبنات” عام 1986، فوضعت مناهجها، وعكفت على إدارتها عميدة لها زهاء سبعة أعوام، نالت خلالها الكلية تقديرًا عالميًّا من الهيئات الطبية العالمية، ولا تزال المتخرجات في الكلية من الطبيبات المشهود لهن بالكفاءة، يشعرن بالفخر إذ تتلمذن على يد د. زهيرة، ويتذكرن مواقفها الحانية وأمومتها الصادقة، وليس أدل على هذا الاعتزاز من تمسكهن بها “عميدة شرفية” مدى حياتها.
قرب نهاية حياتها الحافلة بالعمل والعطاء، ورغم مصارعتها في السنوات العشر الأخيرة لمرض شديد، وتغيّبها في إنجلترا وأمريكا للعلاج، إلا أنها كانت تستثمر أوقات نقاهتها القصيرة في معاودة النشاط،
وكان الافتتاح الرسمي للكلية في شهر مارس 1988، بحضور الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، نائب حاكم دبي وزير المالية والصناعة وقتها، ودُعيّ للحفل علماء الطب من مختلف الجامعات، كذلك مسؤولو التعليم العالي من مختلف أنحاء العالم.
وفي سبتمبر 1991، تخرجت في الكلية أولى دفعاتها زهرات يانعات متفتحات انتشر أريجه وفاح عبقهن، ولقد حضر حفل التخرج محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي وزير الدفاع آنذاك، حيث قام بتسليم شهادات التخرج لخريجات الكلية، ما كان له عظيم الأثر في تدعيم الكلية محليا وعالميا.
وقرب نهاية حياتها الحافلة بالعمل والعطاء، ورغم مصارعتها في السنوات العشر الأخيرة لمرض شديد، وتغيّبها في إنجلترا وأمريكا للعلاج، إلا أنها كانت تستثمر أوقات نقاهتها القصيرة في معاودة النشاط، فقد كانت عازمة على مواصلة الكفاح حتى النهاية. وصعدت روحها إلى بارئها في السادس من مايو 2002، ومازالت أعمالها الخيرية تتحدث بفضلها حتى هذه اللحظة.