التواصل مع المجتمع – المقدمة
في بلداننا العربية، كثيرا ما نسمع شكاوى من أن نتائج البحث العلمي تبقى حبيسة رفوف المكتبات وأسوار الجامعات، وأن الحكومات وواضعي السياسات لا يقيمون وزناً كبيرا وثقة في علماء البلد ويأتون بالخبراء من الخارج، وأن ما ينفق على البحث العلمي رغم ضعفه، ليس له مردود اقتصادي واجتماعي كبير، وأن مستوى البحث العلمي ضعيف كماً وكيفاً، … الخ.
من المسؤول عن هذا؟
من المؤكد أن للحكومات الدور الأكبر لعدم وجود سياسة علمية ومشروع نهضوي حقيقي في بلداننا العربية. ولكن، تقع المسؤولية أيضاً علينا نحن كعلميين. نحن من يجب أن نقول للآخرين، ها أنا ذا.
يجب أن نتحرر من ثقافة التشكي ورمي المسؤولية على الآخرين، ونعترف بتقصيرنا في أداء دورنا في المجتمع والدولة، ثم مطالبتنا بحقوقنا من موقف قوة.
احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.
لنفرض وجود مصنع ينتج منتجات حيوية وعلى درجة عالية من الجودة. تسعى الإدارة فيه لزيادة الإنتاج وجودته وتجلب له الخبراء والفنيين من كل مكان. منتجات هذا المصنع تحفظ في مخازن بداخله، إلا قليلا مما يستهلك. والسبب أنه لا توجد وسائل مواصلات تنقل تلك المنتجات للمستخدمين. وسائل المواصلات قد تكون شاحنات، أو قطارات، أو سفن، أو طائرات…، ولابد من وجود تجار وإعلانات وعروض لتلك البضائع، ولابد من معرفة احتياجات المستهلك ومحاولة إيجاد المنتجات المناسبة لهذه الاحتياجات، ثم أخذ رأيه لتطوير المنتج…، إذن بدون وجود مستهلك تصل إليه بضاعة تنفعه ويستفيد منها، فليس هناك فائدة من وجود ذلك المصنع للمجتمع، وبالتالي لن يهتم أحد بوجوده ولن يمول أحد مشاريعه..
الأمر نفسه ينطبق على انتاج البحوث داخل الجامعات، فمهما كانت كثيرة وذات نوعية عالية فلن تحقق أهميتها دون وجود أساليب للتواصل بين الجامعات والباحثين والمجتمع والذي هو المستهلك لنتائج هذا العلم، تواصل مع الممولين والمستخدمين ومتخذي القرارات وواضعي السياسات والمنفذين والداعمين وكل فئات المجتمع والدولة ….
من هنا، فلكي نصبح علميين ناجحين ومؤثرين، نحتاج أن نكون أكثر فاعلية في توصيل نتائج أبحاثنا إلى المجتمع العلمي، وعرضها ومناقشتها مع غير العلماء، سواء كانوا طلاباً أو جمهوراً، أو وسائل إعلام، أو واضعي السياسات، أو أصحاب مصانع وشركات، برامج توعوية، أو حتى تغريدة تكتبها لتعلن فيها عن انجاز علمي لك، …الخ. إن أي شخص يمارس العلوم يجب أن يشارك بشكل من الأشكال في التواصل العلمي. وعليه، فإن اكتساب مهارات التواصل هذه أساسية لك لتكون علمياً ناجحا.
والمسؤولية الأكبر تقع على الجامعات ومراكز البحوث في خلق قنوات التواصل مع المجتمع والتعرف على احتياجاته ووضع برامج لهذا الغرض ينخرط فيها الباحثون وغيرهم.
بعكس مهارات التواصل الداخلي، بين العلماء المتخصصين في المجال والتي أفردنا لها الجزء الأول من هذا الكتاب (مقالات التواصل الداخلي)، فإن مهارات التواصل الخارجي مع غير المتخصصين لا تجد اهتماما بها لدى كثير من العلميين ومؤسساتهم، فقلّ ما تجد جامعة أو مؤسسة توفر لمنتسبيها برامج لتزويدهم بمهارات التواصل مع المجتمع خارج أسوار المجتمع العلمي، مما يؤدي إلى حبسهم داخل صوامع المعلومات وضعف المعرفة والثقافة العلمية بين عامة الناس في المجتمع، وبالتالي عدم اقتناع وتقدير المجتمع وواضعي السياسات لما يقوم به العلميون. وهو تقصير بيّن في أداء تلك الجامعات والمؤسسات البحثية.
يجب أن لا نغفل عن حقيقة أن المجتمع العلمي بأفراده ومؤسساته هو جزء لا يتجزأ من المجتمع الكبير، وأنه جانب من جوانب الحياة فيه، وبالتالي فإن الارتباط بينهما عضوي وحيوي، وأن المسؤولية الأخلاقية تحتم على هذا المجتمع العلمي أن يخدم مجتمعه وأن لا يكتفي بطلب التمويل والتقدير من الناس دون أن يقدم لهم الخدمات، من توعية ومعايشة للمشكلات ووضع الحلول لها، وأن لا تكون معظم البحوث هي في خدمة برامج ومشكلات علمية لمجموعات بحثية أجنبية، الهدف منها الحصول على النشر وعدد الاقتباسات والترقيات لصالح الباحث ومؤسسته وتقييمها العالمي، وليس للمجتمع الذي يحتضنه هو وجامعته نصيب في أولوياته، ومرة أخرى، هو تقصير بيّن من الجامعات التي لا تزرع في منتسبيها روح العطاء والانتماء ولا تسعى لإيجاد قنوات التأثير والتأثر بالمجتمع المحلي.
يظن بعض العلميين أن هناك أشخاص آخرين مهمتهم توصيل نتائج البحوث والعلم إلى غير المتخصصين، لأن الباحثين، كما يقولون، يقضون معظم وقتهم في البحث وإنتاج العلم الفعلي. على الرغم من أن وجهة النظر هذه مفهومة، إلا إنها تفتقر إلى فهم معنى التواصل العلمي وأهميته. فالتواصل العلمي هو نشاط معقد مع العديد من الجهات مثل: العلماء الآخرين سواء داخل مجال تخصص الباحث أو خارجه، الجمهور بجميع فئاته، ووسائل الإعلام بكافة أنواعها التقليدية وغير التقليدية، ومع صانعي السياسات ومنفذيها، وغيرهم. إن هذه النظرة القاصرة للتواصل العلمي تقلل من أداء الشخص العلمي ومسؤوليته تجاه نفسه والآخرين.
نعم تجاه نفسه، صحيح أن العلم والبحث أساسه الشغف والبحث عن الحقيقة، ولكن هو أيضاً مهنة يجب أن نحافظ عليها ونوفر لها ولنا التمويل اللازم، ولكي تقنع المجتمع بتمويل وظيفتك وبحثك لابد أن تدرك أنت أولاً وتوصل للآخرين أهمية هذا البحث ومردوده الاقتصادي والاجتماعي. هذا من ناحية، ومن الناحية النفسية، كل واحد منا يحب أن يتكلم عن بحوثه وأهميتها وما يقوم به إلى الآخرين، سواء كانوا عائلته وأصدقائه ومن يعرف أو غيرهم، ليشعر بأهميته وما يقوم به ويحقق التقدير الذاتي لنفسه، وهذا يحتاج أنواع من التواصل كلٍ بحسبه.
أما المسئولية الأخلاقية على كل من يحمل العلم، فهي واجب توصيله لمن لا يحمله وحماية الناس من الإشاعات والمفاهيم المغلوطة التي تصل إليهم من غير العلماء.
حوار وليس توصيل من طرف واحد
ليس المقصود بأن على العلميين توصيل بحوثهم والتقدم العلمي للمجتمع في اتجاه واحد، بل يجب أن يكون هدفهم هو انشاء حوار هادف مع غير العلميين في المجتمع، للمساهمة في إيجاد مجتمع يفهم العلم بشكل أفضل ويعيش تحدياته ويتعاون ويتشارك فيه، مجتمع يكون العلم فيه جزء لا يتجزأ من ثقافته، وليس فقط نشر المعلومات العلمية فيه.
هذا التشارك والحوار العلمي مع غير العلميين يطورنا كعلميين، يطور مهارات التنظيم والتواصل لدينا. سنتعلم كيف نتواصل مع مختلف الفئات مما ينعكس على حسن أدائنا الأكاديمي في المحاضرات للطلاب وللمجتمع العلمي، بل وحتى في مهارات العمل كفريق، وهو ما نحتاجه في حياتنا الأكاديمية والعملية.
بعض العلميين يعتبرون أنفسهم أنهم مشغولون جدا، وليس لديهم وقت للتواصل والتشارك مع غير العلميين، أو لديهم اعتقاد خاطئ أن هذه المشاركة ليس لها مردود يتناسب مع الجهد الكبير المبذول. ولكن، تطوير مبادرات تواصل علمي فعّالة وملتزمة، لها فوائد معتبرة لجميع الأطراف. كما أننا كعلميين لدينا التزام ضمني للمساعدة في إنشاء وبناء مجتمع علمي التفكير يتجاوز المعرفة الأساسية للحقائق، ولديه القدرة للمشاركة في نقاشات ذات معنى عن أهداف ووسائل العلم. ومن الفوائد أيضاً، توليد الثقة المعرفية والأخلاقية العامة، وتوليد القبول الاجتماعي، وتعزيز مشاركة المجتمع في السياسة العلمية والعامة.
يظن الكثير من العلميين أنهم لا يتواصلون، والحقيقة، أنهم يتواصلون بأشكال متعددة مع الآخرين، وإن لم يدركوا ذلك تماماً، فمثلاً هم يكتبون الأوراق الأكاديمية وينشرونها في المجلات ويقدمون العروض العلمية في المؤتمرات ويلقون المحاضرات على طلاب سواء من داخل أو خارج التخصص، وهم يقدمون طلبات التمويل للجهات المعنية لنيل المنح لتمويل أبحاثهم أو الانخراط في دراسات عليا متعمقة لهم، وقد ينخرطون في أنشطة توعوية أو يتحدثون إلى وسائل الإعلام حول موضوع معين أو يكتبون مقالا علمياً مبسطاً لغير المتخصصين، بل إنه يمكن اعتبار ما يكتبه أحدهم على منصات التواصل الاجتماعي حول بحث له هو نوع من التواصل العلمي.
ومرة أخرى، من المهم جداً أن نستوعب أننا جزء لا يتجزأ من المجتمع وأن واجبنا المهني والأخلاقي يحتم علينا أن نعطي المجتمع، الذي نحن جزء منه، كما نحب أن يعطينا سواء التمويل أو التقدير.
إذن أيها العلمي الكريم، أنت تتواصل بأشكال مختلفة، ولكن المطلوب استيعاب ذلك ومحاولة تطوير مهاراتك في أنواع التواصل المختلفة، سواء التواصل الداخلي والذي خصصنا له الجزء الأول من هذا الكتاب، أو التواصل الخارجي الذي سيركز عليه هذا الجزء.
في هذا الجزء من الكتاب والذي سننشره بداية على هيئة مقالات، سنحاول تسليط الضوء على بعض أوجه ومهارات التواصل الخارجي، تواصل العلميين مع غير المتخصصين، أهدافه، أنواعه، ووسائله.