نابغون

غيّبها التاريخ وأنصفها ابن خلدون وغينيس.. “فاطمة الفهرية”.. أول من شيّد جامعة في تاريخ الإنسانية

تقول موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية إن “أقدم مؤسسة تعليمية جامعية موجودة حالياً في العالم هي جامعة القرويين التي تأسست عام 859 ميلادية في مدينة فاس. وثمة عالم آخر مشهود له بالكفاءة هو محمد المنتصر بالله الكتاني، كتب أن جامعة القرويين تعد أقدم جامعة في العالم، “وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمئتي عام إلا تسع سنين، فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180. ثم تأسست جامعة بادوا سنة 1222م، ثم جامعة أكسفورد عام 1249م، ثم جامعة كمبريدج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة 1243م”.

ويرجع الفضل فى تأسيس هذه الجامعة العريقة لـ “فاطمة بنت محمد الفِهْرية القُرَشية”, امرأة مسلمة عربية، لُقبت بأم البنين، تعود أصولها إلى ذرية الصحابي الجليل عقبة بن نافع الفهري القرشي فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان.

فاطمة الفهرية, شخصية تاريخية خالدة في ذاكرة مدينة القيروان وتونس، ومدينة فاس في المغرب، والتاريخ التونسي والمغربي، أسست مع شقيقتها مريم الفهرية جامعة القرويين في المغرب عام 859 م، وتُعد أول جامعة في العالم، توفيت فاطمة حوالي سنة 265 ھ (878 م).

“سكنت فاطمة الفهرية عُدوة القرويين على مقربة من مكان الجامع الذي كُتب لها شرف تشييده. وبالرغم من أننا لم نجد لها ولا لوالدها ذكرا في معالم القيروان ولا في أعلام فاس، فإن عملها هذا كان كافيا لسردها ضمن الخالدين”.. هكذا يعبر أحد أكبر المؤرخين الذين عرفهم المغرب في التاريخ الحديث، إنه الراحل عبد الهادي التازي في بحثه التاريخي الذي نال به شهادة الدكتوراه وجائزة أفضل كتاب بالمغرب في ثمانينيات القرن العشرين.

يسجل عبد الهادي التازي في مقدمة المجلد الأول من كتابه أن جامع القرويين “يمتاز دون سائر مساجد العالم الإسلامي بأنه أول بيت لله تشيده فتاة مسلمة، فقد كان المعهود حتى ذلك التاريخ أن تقوم الدولة نفسها ببناء المساجد؛ العاهل أو من يمثله، وقد دخلت فاطمة التاريخ بفعلها العظيم هذا في مدينة تعد أول عاصمة للإسلام في هذه الديار”.

“الست” فاطمة تعمّر فاس

تتفق المصادر التاريخية على أن رحلة فاطمة الفهرية الطويلة نحو إقامة أول جامعة عرفتها البشرية في التاريخ، بدأت بشرائها بقعة أرضية تقع قرب بيتها بمدينة فاس. “وقد وقع اختيار الست فاطمة على حقل كان مما صار لأحد رجال الفضل من “هوارة” عندما نادى الإمام إدريس الثاني بتعمير العاصمة منذ نحو نصف قرن، ثم ورثه أبناؤه من بعده، وكان الثمن ستين أوقية، فدفعته فاطمة من مالها الحلال الطاهر وأخذت تستعد للبناء في جزء من الحقل”.

سعي فاطمة الفهرية لبناء جامع كبير وافق حاجة موضوعية، حيث نقرأ في كتاب المؤرخ عبد الهادي التازي أن من بين المهاجرين القيروانيين الذين التجؤوا إلى فاس منذ الأيام الأولى للإمام إدريس بن إدريس، كان هناك “فريق من أسرة فهرية لم يلبث أن التحقت به بقية أفراد الأسرة في أيام الإمام محيي الدين الأول، حفيد إدريس، ومن بين هؤلاء الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفهري القيرواني الذي أدركه أجله بعد وصوله، فترك ثروة طيبة لكريمتيه فاطمة أم البنين ومريم”.

هذا المؤرخ المتخصص يؤكد أن الأختين كانتا على جانب من العلم والفضل معا، “فقد تأثرتا بقول النبي عليه السلام “من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنة”. وعزمت كل منهما على تحقيق مشروعٍ ظَل إلى اليوم شاخصا ناطقا يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى الأبد”.

عندما كثر الوافدون على مدينة فاس أيام الإمام يحيى الذي امتد سلطانه وعظمت دولته وحسنت آثار أيامه، واستجدت فاس في العمران وبنيت بها الفنادق للتجار والحمامات.. ورحل إليها الفقهاء والعلماء وسائر الناس من الثغور القاصية، “أمست بالناس حاجة إلى مسجد جامع كبير، فإن جامع الأشياخ بالعدوة الشرقية، ومسجد الشرفاء بالعدوة الغربية، كلاهما أصبح لا يفي بحاجة الناس”.

تتفق المصادر التاريخية على أن رحلة فاطمة الفهرية الطويلة نحو إقامة أول جامعة عرفتها البشرية في التاريخ، بدأت بشرائها بقعة أرضية تقع قرب بيتها بمدينة فاس.

المكتبة

نَذَرَتْ لله صوما

يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه “شهيرات التونسيات” عن الطريقة التي سلكتها في بنائه، إنها “التزمت أن لا تأخذ التراب وغيره من مادة البناء إلا من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها، فحفرت كهوفاً في أعماقها وجعلتْ تستخرج الرمل الأصفر الجيد والجص والحجر لتبني به، تحرياً منها أن لا تدخل شبهة في تشييد المسجد”.

فيما يضيف الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني في كتابه “فاس عاصمة الأدارسة” أن الملوك والدول المتعاقبة على المغرب تنافسوا في توسيع بنائه ورصد الأموال للقيام به، “فزاد فيه أيام الدولة الزناتية أميرها أحمد بن أبي بكر من خُمس الغنائم عام 345، وزاد فيه أيام الدولة المرابطية علي بن يوسف بن تاشفين، ثم لم يزل يوسع ويجدد وتزداد أوقافه أيام دولة الموحدين ودولة المرينيين، إلى أيام دولتنا العلوية الحاضرة”.

إمبراطورية القرويين

المؤرخ المغربي الذي خصص أطروحته لنيل الدكتوراه لجامع القرويين الراحل عبد الهادي التازي، قال إنه إذا كانت المباني تقاس بمداخلها، “فإن للقرويين 18 بابا كانت مثلا في العظمة والروعة والإتقان، وفيها ما كان متلبسا بالأصفر مطرزا بالنقوش التي تحمل عبارات الشكر والثناء، وتسجل أسماء الصانعين”.

يضيف التازي في كتابه “جامع القرويين.. المسجد والجامعة بمدينة فاس” أن حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلته مستقلاً مالياً عن خزينة الدولة، بل إن الدولة اقترضت في مراحل تاريخية مختلفة من خزينة جامعة القرويين التي أفاضت منها على سائر مساجد فاس “وسَرَتْ أوقافها الزائدة حتى المسجد الأقصى بالقدس، وحتى الحرميْن الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة”.

ثراء جامع القرويين أفضى إلى بناء العديد من المدارس حوله ثم بالكراسي العلمية في مختلف أصناف العلوم الشرعية والأدب والرياضيات والفلك.. وقد ذكر محمد المنتصر الكتاني في كتابه “عاصمة الأدارسة” ما يزيد على عشرين مدرسة من المدارس التي أسست كفروع للقرويين في فاس.

كما اشتهرتْ جامعة القرويين بمكتبتها التي أنشئتْ كذلك في العصر المريني وضُمت إليها فيما بعد مكتبة السلطان الـمُوحدي يوسف بن عبد المؤمن لتضاهي مكتبة قرطبة التي كانت تحوي ما يزيد على 600 ألف مجلد من الكتب.

شُيّدت إلى جانب القرويين مجموعة من المدارس الداخلية لاستقبال الطلاب، توفرت على عدد من قاعات الدروس، “وقد طُرزت ووشيت بروائع الفسيفساء، وغدت لوحات فنية تسحر النظارة، مما جعل المختصين ينعتون إحداها بأعجوبة فاس”.

كما آوت جامعة القرويين آلاف الأسر من مختلف الجهات المغربية، وإليها يرجع الفضل في تجمع عدد من العشائر والقبائل والمدن المتباعدة في مدينة فاس، بل إنها أغرت طائفة كبرى من الأندلسيين والأفريقيين. ويضيف المؤرخ عبد الهادي التازي إلى جانب هؤلاء وأولئك “نفرا من الفرس والكرد والعجم وجدوا ضالتهم في الاقتراب منها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى