المهندسة السعودية (سمية الدبّاغ).. قدرة على معالجة قضايا الهوية والانتماء من خلال الأعمال المعمارية
ثمة خلاصة ثبتتها المعمارية السعودية (سميّة جعفر الدبّاغ) عن الهوية والاستلهامات وبعض المشاريع مفادها: “العمارة، جزء لا يتجزّأ من ثقافة المجتمع، وبمثابة مرآة عاكسة لأحوال المكان الذي تحلّ فيه والعصر والناس”. وقد ترجمت (الدباغ) هذه المفاهيم من خلال بعض المشاريع مثل: مركز مليحة للآثار في الشارقة، ومسجد قرقاش في دبي، بدولة الإمارات العربيّة المتحدة، والمُكرّمين بجوائز عالميّة، ومتحف العين قيد الإنشاء. يرجع إلأى المهندسة الدبّاغ، فضل إرساء نسق جديد في العمارة بمنطقة الخليج أخيراً، ولقب المرأة الأولى التي تصمّم جامعاً.
الوعي بـ “الشكل”
كان والدها (عليه رحمة الله) داعماً لتعليم المرأة؛ والأمر ليس مفاجئاً لأن ذريته كانت مؤلفة من ستّة أفراد، في عدادهم خمس بنات. اهتمام سمية بالعمارة زُرع خلال مرحلة الطفولة في جدة، ومع الزيارات المتكرّرة إلى الطائف، كانت تبهرها جبال الحجاز المجاورة الرائعة، بتشكيلاتها الصخريّة، والجيولوجيا في المنطقة. وقد مدّتها بالوعي بـ “الشكل”، وكيف يمكن أن يؤثّر الأخير في الأشخاص الذين يختبرونه؟ في سنّ الثالثة عشرة، انتقلت عائلتها إلى المملكة المتحدة. هناك، في المدن البريطانية الحديثة، حلّت المباني محل الجبال، وشعرت بتأثير هذه الأشكال في تجربة الوجود في المدينة. بذا، بدأ اهتمامها بهندسة العمارة.
سؤال الهوية
منحتها سنوات التكوين في أوروبا أساساً متيناً في التعليم العامّ، كما في تعلّم العمارة، وأوضحت لها التأثير الذي يمكن أن يُحدثه الشكل المبني في حياة الناس. لكن، لمجرّد العودة إلى منطقة الخليج، أدركت سمية غياب النهج المذكور عن عمارة مدننا؛ فقد وجدت أن هندسة العمارة كانت مُسيّرة غالباً بشكل تجاري عوضاً أن تقودها التجربة البشريّة. فهمت حينها أن للعمارة القدرة على معالجة قضايا الهوية والسياق والانتماء للمكان وجعل مدننا ذات صلة بثقافتنا ومناخنا وعصرنا.
سعودية، بقيم عربيّة وبثقافة عربيّة وغربيّة
قضت عاماً في باريس بعد التخرّج في الجامعة، فكانت الفترة محوريّة لها؛ هناك كانت مرّة أخرى في مواجهة غير مألوفة، مع ثقافة أخرى ولغة أخرى كان يجب عليها التكيّف معها. زادت هذه التجربة من شوقها وفضولها للتواصل مع جذورها وإيجاد هويتها الخاصّة. بالمقابل، منحتها دولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبارها بوتقة ينصهر فيها العديد من الثقافات، فرصة التعبير عن نفسها: سعودية، بقيم عربيّة وبثقافة عربيّة وغربيّة.
تأسيس شركة Dabbagh Architects
أسّست (سمية الدباغ) شركة Dabbagh Architects زمن الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، في عام 2008. تعتقد أن الأزمة المذكورة أدّت إلى وقفة طبيعية لإعادة التفكير، على الصعيد العالمي، فقد جعلت المستجدّات الاقتصاديّة المشاريع تتحوّل من التجارة إلى الثقافة.
في عام 2012، كانت شركة Dabbagh Architects محظوظة بتكليفها بتصميم مركز مليحة للآثار، بإمارة الشارقة. كان هذا المشروع، الذي دُشّن عام 2016، أحد المشاريع القليلة التي تناولت التجربة البشريّة والاستمراريّة والسياق. ثمّ، أصبح مثالاً لما يمكن أن تحقّقه العمارة، فقد ابتكر نهجاً جديداً ونادراً لهندسة العمارة، في ذلك الوقت. لناحية الشركة، كان النجاح إيجابيّاً، ما فتح الأبواب أمام مشاريع ثقافيّة أخرى في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ممتنّة شديد الامتنان لأنّها أنشأت فريق عمل رائعاً، ولفرص العمل العديدة في مشاريع عظيمة، التي أُتيحت لها على مدار الأعوام الأربعة عشرة الفائتة.
كان شغف فريق علم الآثار، خلال الزيارة الأولى للموقع مُلهماً للغاية؛ فقد شعرت بأن القبر الماثل من العصر البرونزي التاريخي يجب أن يحتلّ مركز الصدارة، من دون أن يطغى عليه المبنى. تعتقد أن هذا النهج أسهم في نجاح المشروع؛ فقد كان المبنى قادراً على خلق حوار مع الجبال المحيطة والصحراء، بالإضافة إلى تاريخ المكان. كرمّ المشروع ذكرى مليحة وأعادها إلى مجتمعها.
لائحة اليونيسكو
وقع الاختيار على الحجر الرملي الأحمر لكسوة البناء، وذلك لتحقيق التناغم مع الرمال حمراء اللون المحيطة به. أضف إلى ذلك، يعكس الحجر المذكور ضوء الشمس بالطريقة عينها التي يمكن للضوء في أوقات مختلفة من اليوم أن يغمّق لون الرمال. وقت الغروب، مثلاً، يضيء اللون البرتقالي الغامق البناء، تماماً مثل الحجر الرملي الأحمر العائد إلى الصخور الأحفورية. كما يرجع اختيار الحجر الرملي، بشكل متعّمد، ليكون متميّزاً عن القبر المشيّد من الحجر الجيري البيج الفاتح. سمح اختيار المواد للمبنى بجعله يندمج بمحيطه، مع ميزة رئيسة يحملها القبر للزائر.
مسجد محمد قرقاش
تتحدّث عن لحظة خاصّة في حياتها شعرتِ بها، مع إتمام عمارة مسجد المرحوم محمد عبد الخالق قرقاش بدبي؛ تقول: “يُمثّل إنجاز أي مشروع من مشاريعنا حدثاً مُميّزاً للغاية لفريق العمل، خصوصاً أنّه في مهنة العمارة، يتخذ كلّ من التصميم والبناء دورة زمنيّة طويلة للغاية، فقد يستغرق الأمر من أربعة إلى خمسة أعوام، منذ وضع الرسومات الأوّلية حتى الوقت الذي يمكن المشي فيه داخل المشروع، بعد أن كان الأخير مجرّد رؤية في العقل. لحظة ميلاد المشروع ساحرة حقّاً؛ أي عندما تصبح الرؤية حقيقة ويتخذ المبنى حياةً خاصّةً به. كان القصد من مسجد قرقاش أن يكون وليد عصره، مع إعادة جوهر القيم الإسلاميّة إلى مقدّمة عقول الناس، ما يخلق مساحةً هادئةً وتؤهّل الإنسان للعبادة.”
متحف العين
تشعر بامتياز كبير لاختيارها لتصميم مشروع عمارة متحف العين الفريد؛ فهذا الموقع هو جزء من المنطقة العازلة المُصنّفة من منظّمة اليونيسكو للتراث العالمي، كما يجاور الموقع واحة العين التي يرجع تاريخها إلى 7000 عام خلت. يحتوي المشروع على مبنيين رئيسيين مهمّين، على الصعيد التاريخي: مبنى حصن السلطان المبني من الطوب اللبني في عام 1910، ومتحف العين الوطني، وهو أول متحف في الإمارات العربية المتحدة (بناه المغفور له الشيخ زايد، في عام 1971). المشروع هو بمثابة ملحق كبير للمتحف الحالي، مع الحفاظ على الهياكل القائمة وإعادة تأهيلها، ما يتيح فرصة فريدة لتصميم مبنى، وجعله يدخل في حوار مع المناظر الطبيعيّة، والمعالم الثقافيّة التي تسبق وجوده. تعدّ كلّ هذه العناصر جزءاً من نظام متماسك هادف إلى الحفاظ على الهويّة الثقافيّة المحلّية وإبراز تاريخ الإمارات وتراثها.
مستقبل العمارة والتصميم في الخليج
تقول سمية “ثمة تحوّل في المنطقة، لناحية النهج المتبع في العمارة والتصميم. مع المزيد من ممارسات الشركات المحلية، مثل: Dabbagh Architects، يكبر الوعي بالتأثير الذي يمكن أن تحدثه هندسة العمارة في مدننا ومجتمعاتنا. لقد بدأنا في رؤية المزيد من المشاريع، التي تُعالج القضايا ذات الصلة مثل: الهويّة والسياق والاستدامة. تعكس المشاريع مثل مركز مليحة الأثري ومسجد قرقاش قيمنا عوضاً عن عكس القيم المستعارة من الثقافات الأخرى. نتيجة لذلك، نشهد على هندسة معمارية ناشئة جديدة في المنطقة ونفخر بأن نكون جزءاً من بدايتها. هندسة العمارة، التي نأمل أن تخلق أماكن للمجتمع، بصورة تجعل مدننا تعكس قيمنا وثقافتنا. المدن التي تخلق إحساساً قوياً بالهوية والانتماء وتردّد صدى شعوبها”.
في عام 2009، كانت سمية جزءاً من الفريق الذي أنشأ فرع RIBA الخليجي. وفي عام 2015، بعد أن كانت جزءاً من اللجنة، تم انتخابها رئيسة لفترتين متتاليتين (2015 – 2019). خلال فترة خدمتها في RIBA، وجدت توافقاً تامّاً بين أهداف الفرع ورسالتها وأهدافها الشخصيّة؛ تتمثّل أهداف فرع الخليج في زيادة الوعي بالقيم الأساسية التي حدّدتها RIBA للمهنة والمساعدة في تحسين معايير ممارسات العمارة في منطقة الخليج. سمحت لها هذه المواءمة بأن تصبح صوت المهنيين الخليجيين، مع هدف متمثّل باستبدال بالنموذج الحالي الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على استيراد المواهب في المنطقة، نموذج آخر يُشجّع مجموعة محلّية مستدامة من المهندسين المعماريين المحترفين المحليين.