رجال الأعمال والمتاجرة بالعلم
العلم كمنتج بشري ليس منزه بالمطلق عن الخلل. وربما يقع التناقض في العلم فيما يخص الأفكار والاستنتاجات العلمية، وكذلك قد يقع التناقض في مسيرة العلم وتطوره عبر الزمن. من صور التناقض في التسلسل التاريخي للعلم أنه قبل عقود قليلة مضت كان العلماء والراصدين لتاريخ العلم يجزمون أن مستقبل العلم سوف يرتبط بما يسمى (العلوم الكبيرة Big Sciences). والمقصود أن ما تبقى من المجالات العلمية الكبرى قيد الدراسة وخصوصا في مجال علوم الفضاء والعلوم الذرية ومشروع الجينوم (الخريطة الوراثية البشرية) تحتاج لمجهود علمي فائق يستلزم صرف ميزانيات ضخمة جدا وتعاون عدد غفير من العلماء المتخصصين من جنسيات متعددة. أي أن المصاريف المالية والجهود العلمية لتنفيذ هذه الأبحاث المتقدمة في (العلوم الكبرى) هي خارج نطاق قدرات دولة بحد ذاتها ولا بد من تجمع الدول والمؤسسات البحثية الكبرى. خذ على سبيل المثال، الأبحاث العلمية في مجال فيزياء الجسيمات الأولية والتي تقوم بها CERN المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية.
إن أهم وأغلى تجربة في التاريخ هي تلك التي ينفذها مركز سيرن في مجال الفيزياء النووية وهو مشروع مصادم الهادرونات الكبير LCH الذي كلف حوالي 10 مليار دولار واشترك فيه عدة آلاف من العلماء من حوالي 100 دولة. وقل مثل ذلك عن الأبحاث المتطورة التي تقوم بها وكالة الفضاء الأوروبية التي تشترك بها وتمول أبحاثها 22 دولة، أو وكالة الفضاء الأمريكية ناسا التي تبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من 22 بليون دولار.
من منظور ما سبق كان يفترض أن أبرز الاكتشافات العلمية الحديثة وأهم الاختراعات التقنية المتطورة تكون من نتاج ومخرجات هذه المشاريع العلمية (الكبرى) متعددة الجنسيات والعابرة للقارات. وبما أن سيرة اكتشاف الفضاء انفتحت، فمن الغريب أن أكبر صاروخ تم تصنيعه في تاريخ البشرية ليس صاروخ وكالة ناسا (ساتورن 5) الذي أوصل الأمريكان للقمر ولا (بروتون M) عملاق صواريخ الفضاء السوفيتية ولا صاروخ وكالة الفضاء الأوروبية (آريان 6) ولكن هو الصاروخ (فالكون 9) من إنتاج (شركة تجارية) حديثة نسبيا تحمل اسم Space X والتي أنشأها رجل الأعمال الكندي المشهور إيلون ماسك. في مطلع عام 2020م أعلنت إحدى شركات إيلون ماسك الفضائية عن تخطيطها لإطلاق مركبة فضاء تحمل رجال عاديين (وليس رواد فضاء) وذلك في أواخر هذه السنة 2021. ويبدو أن (سباق غزو الفضاء) تحول من الدول الكبرى إلى التنافس بين رجال الأعمال وأصحاب المليارات لكسب سوق رحلات الفضاء السياحية. ولهذا لا غرابة أن تم بالفعل في الأيام القليلة الماضية تنفيذ رحلات فضاء كان رواد الفضاء فيها هم أكبر وأشهر رجال الأعمال الدوليين من مثل الأمريكي جيف بيزوس صاحب شركة أمازون وأغنى رجل في العالم، وكذلك الملياردير البريطاني المعروف ريتشارد برانسون صاحب شركة فيرجن.
ليس من المعلوم حتى الآن هل سوف يقتدى إيلون ماسك ثاني أغني رجل في العالم بمن سبقه من رجال الأعمال ويشارك بنفسه في أول رحلة فضاء لشركته التقنية الخاصة (عبر مركبتها الفضائية: سفينة النجم) بعد أن قام عام 2018م بإرسال واحدة من سياراته الكهربائية (تيسلا رودستر) إلى الفضاء في منظر مهيب سوف تخلده الذاكرة البشرية لفترة طويلة. لكن من شبه المؤكد أن إيلون ماسك سوف يستمر في منافسة ومزاحمة وكالات الفضاء الأمريكية والأوروبية في تحقيق الحلم الكبير بإرسال أول إنسان إلى كوكب المريخ. ولو تحقق هذا الأمر وبالفعل واستطاعت الشركات التجارية الخاصة التغلب على المؤسسات والمراكز البحثية (الكبرى) الدولية فإن مسيرة العلم تحولت من ظاهرة (العلوم الكبرى Big Sciences) إلى ظاهرة (خصخصة العلوم Science Privatization).
من الأبحاث العلمية المحورية التي تحولت من مجال العلوم الكبرى إلى مجال خصخصة العلوم، نجد أنه في مطلع التسعينيات من القرن الماضي تم الإعلان عن المشروع العلمي البالغ الأهمية والمتعلق بتحديد الخريطة الجينية البشرية. في بداية الأمر استلزم (مشروع الجينوم البشري) تضافر جهود العلماء من جميع أنحاء العالم وخصص له عبر السنين ميزانية مالية زادت عن ثلاثة بلايين دولار. ثم بعد ذلك حدثت المفاجأة الكبرى عندما نجحت (شركة تجارية) واحدة هي Celera Genomics بميزانية محدودة لا تزيد عن 300 مليون دولار، نجحت في أن تسبق جهود المؤسسات والمراكز البحثية الدولية الضخمة في تحقيق نشر مسودة الخريطة الجينية البشرية وذلك في صيف عام 2000 ميلادي.
وفي موضوع ذي صلة ومع مشروع آخر هائل من (العلوم الكبرى) والمتعلق بالجهود العلمية الحائرة منذ عقود طويلة في إنجاز حلم علماء الفيزياء وأهل الاقتصاد بإنتاج الطاقة الكهربائية من خلال ما يسمى مفاعلات الاندماج النووي الهيدروجيني. منذ عام 2007م يقام في جنوب فرنسا بناء مشروع (المفاعل النووي الحراري الدولي) ITER والذي يهدف لبناء أكبر مفاعل اندماج في العالم ويشترك في هذا المشروع الضخم حوالي 35 دولة وبميزانية خرافية تبلغ حوالي 16 مليار دولار. شركة Celera Genomics التجارية الأمريكية السابقة الذكر عندما فكرت بطريقة علمية غير تقليدية استطاعت اختصار الزمن بشكل هائل فيما يتعلق بمشروع الجينوم البشري. وعلى نفس النسق يتوقع بعض الخبراء أن تنجح الشركة التجارية الكندية General Fusion التي يدعمها الملياردير الأمريكي سابق الذكر جيف بيزوس في تحقيق إنجاز إنتاج الطاقة الكهربائية من مفاعلات الاندماج النووي الهيدروجيني في وقت أسرع من مشروع ITER بالرغم من أن رأسمال تلك الشركة التجارية التقنية لا يزيد عن 300 مليون دولار، ولكنها تمتك أفكار علمية إبداعية وفعّالة.
من هذا وذاك تتشكل مسيرة العلم والتقنية في المستقبل، وأن الرواد في مجال تطوير العلوم وحتى الأبحاث الطبية هي في الغالب الشركات التجارية والهيئات التقنية الربحية، في حين من المحتمل أن يتراجع بشكل تدريجي دور وإسهام مراكز الأبحاث في الجامعات والمؤسسات العلمية الدولية. من جانب قد يكون هذا الأمر مفيد من منظور أن حيوية القطاع الخاص وكفاءته العالية واستقلاليته سوف يساعد كما شاهدنا في تقدم هائل ومذهل في مسيرة العلم والتقنية. ولكن في المقابل يوجد قلق مشروع وتحفظ مبرر من أن استفراد رجال الأعمال والتجار بالاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية سوف يتسبب بشكل أو بآخر في استغلال البشرية لمصالح مادية رأسمالية متوحشة مشهورة ومتكررة في سلوك أصحاب الأموال. من صور الرأسمالية البغيضة و(المتاجرة) ليس فقط بالعلم وإنما بالبشر نجد أن شركة سيليرا Celera التي ساهمت في تسريع مشروع الجينوم البشري كما أشرنا له سابقا، طالبت أن تحصل على براءة اختراع على بعض الجينات البشرية ذات الأهمية الطبية. كما أنها حاولت في البداية الاحتفاظ بجزء من المعلومات والبيانات الوراثية التي توصلت لها لاستغلالها بشكل تجاري. ومن هنا ظهر جدال عنيف حول من له الأحقية في الادعاء بأنه يملك حق احتكار معلومات الجين البشري أو هل يقبل أن تصبح الشفرة الوراثية DNA كأي سلعة تجارية يصدر لها براءة اختراع؟. وهذا يقود للمخاوف من خطورة (المتاجرة بالعلم) بأن لا تتورع بعض الشركات التجارية البحتة التي تهدف للربح وعوائد الاستثمار أن تكسر القواعد الأخلاقية في الأبحاث الطبية وكذلك الأبحاث المثيرة للجدل مثل استنساخ البشر والأغذية المعدلة وراثيا.
وبالرغم من كل هذا القلق حول دور الشركات التجارية في مسيرة العلوم إلا أنه يجب ألا نغفل أن لعدد كبير منها دور حاسم جدا في إحداث ثورات عديدة ومتواصلة في تاريخ العلم. الأهم من ذلك أن العديد من جوائز نوبل التي تم منحها لاكتشافات علمية حصلت في مختبرات الشركات التجارية المهتمة بالعلوم، ومن ذلك مثلا أن شركة دو بونت الأمريكية وعملاق صناعة الكيماويات نال اثنان من العاملين في مختبراتها على جوائز نوبل في الكيمياء وهم بول فلوري عام 1974م وتشارلز بيدرسن عام 1987م، هذا بالإضافة أنه في مختبرات هذه الشركة تم اختراع مادة التفلون عديمة الالتصاق وألياف النايلون الحريرية أو ألياف الكيفلار المضادة لطلقات الرصاص. وفي مجال علم الفيزياء تمكن ثلاثة من علماء شركة مختبرات بيل Bell Labs المرموقة ليس فقط من اختراع الترانزستور، ولكن أيضا استحقاق الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1956 ميلادي.
العلم من رعاية الملوك إلى رعاية التجار
من توابع ونتائج الظاهرة الحديثة في تاريخ مسيرة العلم والمتعلقة (بخصخصة العلوم) حصول نقطة التغير التاريخية من خلال تحول دور الداعم والراعي patron والممول للعلم والعلماء من الملوك والأباطرة إلى التجار ورجال الأعمال. المستعرض لكتب تاريخ العلم وأخبار العلماء تتردد عليه العديد من الأسماء السياسية البارزة التي احتضنت العلماء ورعتهم من مثل الخليفة العباسي المأمون والخليفة الأندلسي عبد الرحمن الثالث والسلطان التركي محمود الغزنوي والسلطان السلجوقي جلال الدين ملك شاه والسلطان المغولي المسلم أولغ بيك. وكما هو معلوم تأثر ملك صقلية روجر الثاني كثيرا بالحضارة العربية وقد كان هو راعي العالم العربي الكبير الإدريسي، وكذلك كان على نفس النسق الإمبراطور الألماني فردريك الثاني الذي كان هو الآخر عاشقاً للحضارة العربية وراعي للعلوم. ومن أشهر ملوك وأباطرة أوروبا الذين سلكوا هذا المسلك في كفالة وتمويل العلوم الملك الأسباني ألفونسو العاشر والإمبراطور النمساوي رودولف الثاني والإمبراطور الروسي بطرس الكبير والإمبراطور الفرنسي لويس الرابع عشر والملك الإنجليزي تشارلز الثاني بينما يقف الإمبراطور والقائد الفرنسي نابليون بونابارت في مكانة خاصة وفريدة في هذا الشأن، فعدد ملحوظ من وزرائه هم في الأصل من كبار علماء فرنسا.
في العصر الحديث أصبح الدور الريادي في رعاية العلم والعلماء منوط بشكل متزايد للدعم المالي السخي من رجال الأعمال والأثرياء، بل إن بعض أهم الاكتشافات العلمية ساهم فيها رجال الأعمال وبدوافع إنسانية وذلك من خلال مؤسساتهم الخيرية وغير الربحية. فمثلا إمبراطور صناعة الحديد والصلب رجل الأعمال الأمريكي البارز أندرو كارنجي كان هو من موّل من خلال مؤسسته الخيرية أبحاث اكتشاف هرمون الأنسولين لعلاج مرض السكر وتحقيق جائزة نوبل في الطب لعام 1923 ميلادي. في حين أن الثري الأمريكي المشهور جون روكفلر ساهم من خلال مؤسسته الخيرية في تمويل الأبحاث المتعلقة باكتشاف تركيب جزئي DNA والأحماض النووية وتحقيق جائزة نوبل في الطب لعام 1962 ميلادي.
عبر القرن الماضي وحتى الآن ساهم المئات من كبار رجال الأعمال وفي جميع الدول بدعم الأبحاث العلمية وخصوصا في المجال الطبي، مما ساهم في إنجاز العديد من الاكتشافات العلمية الكبرى وتحقيق جوائز نوبل. يكفي أن نشير إلى أنه قبل عدة سنوات أتفق ثلاثة من أباطرة رجال الأعمال في أمريكا (وهم بيل غيتس ووارن بافيت وجورج سورس) على أن يتبرع كلا منهم بمبلغ يزيد عن ثلاثين بليون دولار لصالح الأعمال الخيرة وبالذات في مجال دعم الأبحاث الطبية. وبالرغم من كل ما يثار من لغط حول الملياردير الأمريكي بيل غيتس، فالحق يقال إن مؤسسة بيل غيتس الخيرية بلغ مجموع تبرعاتها المخصصة لمكافحة وباء كورونا حوالي 1750 مليون دولار وفي نفس المسار تبرع رجل الأعمال وعملاق صناعة السفن الأمريكي دانيال لودفيغ بمبلغ 2500 مليون دولار لأبحاث السرطان.
الغريب في الأمر أن التبرع بمثل هذه المبالغ المالية الضخمة ليس مقصوراً على الأبحاث الطبية التي تجد تعاطف متوقع، ولكن نجد أن بعض رجال الأعمال لديهم هوس بالعلوم البحتة كما هو حال رجال الأعمال الأمريكي جورج ميتشل الذي تبرع بمبلغ 360 مليون دولار لبناء مرصد فلكي متطور جدا مخصص لأبحاث الفضاء بينما مجال أعمال جورج ميتشل تحت الأرض في التنقيب عن الغاز والبترول.
الملياردير جورج ميتشل نموذج ومثال للمئات من رجال الأعمال عبر التاريخ ومن كل الشعوب الذين أنفقوا مئات، بل وحتى آلاف الملايين من الدولارات في مشاريع بحثية ليس لها أي صلة بمجال تجارتهم ولا ينتظرون من ذلك أي فائدة استثمارية مباشرة. ولهذا تتغير التسمية لمثل هؤلاء التجار عبر الزمن فهم في بداية شبابهم يعرفون بلقب (رواد الأعمال entrepreneur) وفي منتصف حياتهم المهنية هم (رجال الأعمال businessmen) بينما في أواخر حياتهم أحيانا يطلق عليهم لقب (السخي المحسن philanthropist). بكل الصدق والمصارحة الصورة النمطية عن التجار ورجال الأعمال سيئة، ولكن من يبدأ منهم حياته بالتحايل والجشع ثم يختمها بالبر والإحسان يصدق عليه الوصف الشعبي بأنه (النّهاب الوهّاب !!).