عبرات

تمبل جراندين.. كيف اقتحمت عقبة “التوحد” وتخصصت في سلوك الحيوان؟

ماري تمبل جراندين Mary Temple Grandin إحدى العالمات الأمريكيات التي اشتهرت باقتحام العقبات وتحقيق الإنجازات في مضمارين، أولهما مجال رفع الوعي بمرض التوحد باعتبارها أحد الذين عانوا منه، وثانيهما مجال تخصصها العلمي في سلوكيات الحيوانات وبشكل خاص التعامل الأخلاقي مع الماشية من تربيتها إلى ذبحها. ولدت تمبل جراندين عام 1947 في بوسطن، ماساتشوستس بالولايات المتحدة لأسرة شديدة الثراء. انفصل والدا جراندين وهي في سن الخامسة عشرة. عانت تيمبل من صعوبات النطق حتى سن الثالثة والنصف، لكنها كانت محظوظة بالحصول على علاج مبكر لهذه العلة. لم يتم تشخيص إصابة جراندين رسميا بالتوحد حتى سن البلوغ.

عندما كانت تبلغ من العمر عامين، كان التشخيص الرسمي الوحيد الذي أُعطي لجراندين هو “تلف الدماغ”، وهو اكتشاف تم تأكيده لاحقا من خلال التصوير الدماغي في جامعة يوتا عندما بلغت 64 عاما في عام 2010. وبينما كانت جراندين لا تزال في منتصف سن المراهقة، صادفت والدتها قائمة مرجعية تشخيصية لمرض التوحد.

وبعد مراجعة القائمة المرجعية، افترضت والدتها أن أعراض ابنتها يمكن تفسيرها بشكل أفضل من خلال الاضطراب وتم تحديدها لاحقا على أنها مصابة بالتوحد، لكن التشخيص الرسمي تأكيده فقط عندما كانت جراندين في الأربعينيات من عمرها.تعتبر جراندين نفسها محظوظة لأنها حصلت على مرشدين داعمين منذ المدرسة الابتدائية فصاعدا.

مع ذلك، تقول إن المدرسة الإعدادية والثانوية كانت أكثر الأوقات غير السارة في حياتها. كانت النصيحة الطبية في ذلك الوقت لتشخيص مرض التوحد هي التوصية بإيداع المصاب به في مؤسسة، وهو الإجراء الذي تسبب في انقسام مرير في الرأي بين والديها.

كان والدها حريصا على اتباع هذه النصيحة بينما عارضت والدتها بشدة الفكرة لأنها من المحتمل أن تجعلها غير قادرة على رؤية ابنتها مرة أخرى.

في المدارس الإعدادية والثانوية التي تعلمت فيها، كانت شخصية غريبة الأطوار، ومن ثم فقد تعرضت للسخرية والتنمر والمضايقة من زميلاتها، حتى أنها طردت من إحدى تلك المدارس وهي في سنة الرابعة عشرة لأنها ألقت كتابا على زميلة لها كانت قد سخرت منها، وعنما نقلتها أمها إلى مدرسة ريفية داخلية مخصصة للأطفال الذين يعانون من مشكلات سلوكية، وهناك كما تحي في مذكراتها التقت بالشخصية التي كانت لها مفعول السحر في حياتها، وهو مدرس العلوم ويليام كارلوك، وهو المدرس الذي كان يعمل في ناسا، والذي أصبح مرشدها والذي ساعدها بشكل كبير في بناء ثقتها بنفسها، وشجع فيها اهتمامها بالعلوم، وغرس فيها الحلم بأن تصبح عالمة، ومن ثم خلق عندها الحافز على مواصلة الدراسة. وبالفعل، وبعد تخرجها من المدرسة في عام 1966، ذهبت لدراسة علم النفس البشري من كلية فرانكلين بيرس عام 1970، ثم درست الماجستير في علم الحيوان من كلية ولاية أريزونا عام 1975، ثم على درجة الدكتوراه في نفس التخصص من جامعة إلينوي في إربانا عام 1989.

واليوم تعد جراندين من العلماء البارزين والمستشهد بهم على نطاق واسع في مجال المعاملة الإنسانية للماشية، كما حازت شهرة عالمية كمتحدثة حول مرض التوحد أيضا، وفي هذا الصدد يقول ستيف سيلبرمان في كتابه، NeuroTribes، أن تمبل جراندين قد ساعدت في كسر سنوات من العار والوصم لأنها كانت واحدة من أوائل البالغين الذين كشفوا علنا عن إصابتهم بالتوحد.وإضافة لأحاديها فقد ألفت جراندين عدة كتب من واقع خبراتها وتأملاتها وقراءاتها كمريضة بـ”التوحد”، حيث صدر كتابها الأول عام 1986 وحمل عنوان “النشوء: موسومة بالتوحد Emergence: Labeled Autisitic” والذي كتب عنه الدكتور أوليفر ستوك أنه كتاب غير مسبوق لأنه لم يكن هناك من قبل سرد داخلي للمصابين بالتوحد. بينما قال عالم النفس الأمريكي برنارد ريملاند في مقدمته للكتاب “إن قدرة تمبل على نقل مشاعرها ومخاوفها العميقة للقارئ، إلى جانب قدرتها على شرح العمليات العقلية، ستمنح القارئ فكرة عن مرض التوحد لم يتمكن سوى عدد قليل جدا من تحقيقه”.

أما كتابها التالي، “التفكير بالصور Thinking in Pictures”، فقد نُشر عام 1995، وقد كتب طبيب الأعصاب أوليفر ساكس في نهاية مقدمته أن الكتاب قدم “جسرا بين عالمنا وعالمها، يسمح لنا بإلقاء نظرة على نوع مختلف تماما من العقل”.

في كتاباتها المبكرة، كانت جراندين تصف نفسها بأنها مصابة بالتوحد متعافية، لكنها تخلت عن هذا التوصيف في كتاباتها اللاحقة، وقد كتب ستيف سيلبرمان موضحا أنه “أصبح من الواضح لها أنها لم تتعافى، ولكنها تعلمت بعد جهد كبير التكيف مع الأعراف الاجتماعية للأشخاص من حولها”، وقد كان سيلبرمان هو أول من دعا جراندين للحديث في المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية للتوحد (ASA).

وبناءً على تجربتها الشخصية، دعت جراندين إلى التدخل المبكر لمعالجة مرض التوحد وثمنت دور المعلمين الداعمين، الذين يمكنهم توجيه اهتمامات الطفل المصاب بالتوحد في اتجاهات مثمرة. وتعزو جراندين نجاحها كمصممة إنسانية لمنشئات تربية وذبح الماشية إلى قدرتها على تذكر التفاصيل، وهي سمة من سمات ذاكرتها البصرية. وتقارن ذاكرتها بالأفلام الكاملة الموجودة في رأسها، والتي يمكن إعادة تشغيلها حسب الرغبة، مما يسمح لها بملاحظة التفاصيل الصغيرة.في عام 1980 نشرت جراندين أول مقالتين علميتين لها عن سلوك الأبقار، وكانت من أوائل العلماء الذين ذكروا أن الحيوانات حساسة للمشتتات البصرية في التعامل مع المرافق مثل الظلال والسلاسل المتدلية وغيرها من التفاصيل البيئية التي لا يلاحظها معظم الناس. وفي عام 1993، قامت بتحرير الطبعة الأولى من كتابها “التعامل مع الثروة الحيوانية ونقلها Livestock Handling and Transport”، وخلال حياتها الأكاديمية طورت جراندين فكرها وقدمت أساليب عملية جديدة تحقق رفاهية الماشية سواء في منشئات التربية أو الذبح، ونشرت نتائج عملها وفريقها البحثي في جامعة ولاية كولورادو في أكثر من 60 ورقة بحثية نشرت في الدوريات العلمية المتخصصة.

كان لتجارب جراندين المباشرة مع القلق الناتج عن الشعور بالتهديد من كل شيء في محيطها، والرفض والخوف، الفضل في تحفيز عملها العلمي والعملي من أجل التعامل الإنساني مع الماشية. وقد علمتها رؤيتها الثاقبة لعقول الماشية أن تقدر التغييرات في التفاصيل التي تكون الحيوانات حساسة لها بشكل خاص وأن تستخدم مهاراتها في التصور لتصميم معدات مدروسة وإنسانية للتعامل مع الحيوانات.نالت جراندين طوال حياتها المديدة العديد من التكريمات والجوائز سواء عن أعمالها في التوعية بالتوحد أو رفاهية الحيوان، كما تم استضافتها وتناولتها العديد من الأفلام الوثائقية. وإذا كان لنا أن ننظر إلى مفاصل محورية مكنت “تمبل جراندين” الطفلة من تجاوز المحن والصعوبات التي مرت بها في حياتها فإننا لابد أن نتوقف على دور الأم في حرصها على توفير البيئة التعليمية المناسبة لها، وعلى دور معلم العلوم في المرحلة الثانوية الذي استطاع أن ينتشلها من الوهدة النفسية التي أوقعها فيها التنمر والسخرية الإيذاء اللفظي الذي تعرضت له، والذي استطاع أن يأخذ بيدها وأن يوجهها إلى حب العلوم.

د. مجدي سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى