ربيع العمر

“عكس اتجاه شيخوخة البشر”.. التلاعب بالشيخوخة وإطالة الأعمار

العديد من الكتب المسطَّرة حول شيخوخة الناس العاديين لم تتناول تعقيدات هذا الموضوع بشكل جيد. فهذه الكتب، اللهم باستثناء واحد أو اثنين، قام بتأليفها مراسلون صحفيون قابلوا بعض اختصاصيي بيولوجية الشيخوخة، أو ألّفها علماء في الطب الحيوي استهواهم موضوع الشيخوخة من دون أن يتمتعوا بمؤهلات مهنية كافية أو التزام راسخ بهذا المجال. ويقع كتاب, (عكس اتجاه شيخوخة البشر Reversing Human ging ) في هذا الصنف الأخير. وبالنظر إلى نقص الإحاطة الكاملة بتعقيدات بيولوجية الشيخوخة كثيرا ما جَهِلَ المؤلفون غير المحترفين مطباتها العديدة، وقد يتجاهلون بدائل الفرضيات التي يقدمونها كحقائق.

يتفق معظم اختصاصيي بيولوجيا الشيخوخة لا على وجوب احتواء الخلايا على عدّادات متعددة للأحداث البيولوجية فحسب وإنما أيضا على أن هذه العدادات تُحدِّد الحد الأقصى لعمر المتعضية الفعال، ولا تحدد عوارض السوء العشوائية للتبدلات المرتبطة بالسن. وفي كتابه بعنوان عكس اتجاه شيخوخة البشر يطلق <M. فوسيل>، الذي هو في الأصل مختص بالبيولوجيا العصبية، العنان لتخميناته إلى أقصاها وذلك بصدد تعداد الأحداث الجزيئية. فهو يركز على الاكتشاف الحالي والمهم لآلية يبدو أنها تحدد عدد المرات التي تتكاثر بها الخلية، ويشير إلى أن فهما إضافيا لهذه الآلية ولكيفية التعامل معها قد يسمح لنا بزيادة أعمارنا زيادة ذات شأن.

ابتدأت القصة العلمية التي تعزز تخمينات فوسيل قبل 35 سنة، وكان ذلك في معهد ويستار للتشريح والبيولوجيا بفيلادلفيا حين أظهرتُ و S .P. مورهيد أنه خلافا للاعتقاد الذي كان شائعا حينذاك ومسلّما به في البيولوجيا الخلوية، ليس للخلايا جميعها إمكانية الخلود. فمستنبتات الأرومات الليفية (الفيبروبلاست) للجنين البشري المكتمل السوي تنقسم نحو 50 مرة لا أكثر، وتموت في نهاية المطاف الخلايا الأخيرة مسجِّلة بذلك نهاية المجموعة الخلوية الحية في أنبوب الاختبار. لقد وجدنا أن المجموعات الخلوية غير السوية، أو السرطانية، هي وحدها الخالدة. فقد كان المختصون ببيولوجية الشيخوخة إلى حين ظهور اكتشافنا يعتقدون أن الشيخوخة لا دخل لها بالأحداث التي تتم داخل الخلايا الفرادى.

ومنذ تم نشر مكتشفاتنا، شرع العلماء ببحث الآلية الجزيئية التي تقرر الحد الإكثاري replicative limit للخلايا السوية البشرية والحيوانية. ففي السنوات القليلة الماضية توصل الباحثون إلى الاعتقاد بأن الجواب يكمن في التيلومير (القُسَيْم الانتهائي) telomere، الذي هو امتداد يضم آلاف التتاليات النيوكليوتيدية المتكررة nucleotide sequences repeated للشكل TTAGGG حيث T وA وG تمثل الحروف الكيميائية في الكود (الراموز) الجيني]، والذي يقع في نهايتي جميع الصبغيات (الكروموسومات) البشرية البالغ عددها 46 صبغيا. ففي كل انقسام خلوي تضيع بعض تتاليات التيلومير إلى أن يَقْدَح الامتداد المُتقاصر أحداثا يكون من شأنها أن تؤدي إلى إيقاف الانقسام في الخلية. أما الخلايا الخالدة فتولّد إنزيما يسمى تيلوميراز telomerase يقوم بإضافة تتاليات جديدة إلى الصبغي في كل مرة يتم فيها الانقسام الخلوي، وبذلك يصان طول التيلومير السابق الذكر بشكل ثابت. وقد أكدتْ القياسات الحساسة الحالية وجود كميات صغيرة جدا من الإنزيم تيلوميراز في خلايا الأجنة والنسج التي تنقسم خلاياها بانتظام.

لقد أقنعتْ هذه القصة المثيرة فوسيل بأن العلم اكتشف الآلية التي تُحدِّد تقدم العمر، وأن الساعة الجزيئية molecular clock سرعان ما يمكن إرجاعها إلى الوراء. لكنني أعتقد أن فوسيل قد بالغ في تفسير هذا الاكتشاف، كما أعتقد أن تقاصر التيلومير يمكن أن يخبرنا بالشيء الكثير عن الحدود القصوى لعمر الإنسان، ولكنه لا يعلمنا إلا القليل عن الشيخوخة.

لقد شغل بالي على الدوام ما سيمتلكه البشر من قوة هائلة إذا عرفنا في يوم ما كيف نتلاعب بالشيخوخة أو نطيل أعمارنا، فمن غير الواضح ما إذا كان في مقدور الناس أن يتحملوا التبدلات النفسانية والاقتصادية والطبية والثقافية التي ستصاحب الأعمار الطويلة إلى حد كبير فيما لو ثبت إمكان ذلك فِزْيولوجيّا. هذا ويقدم فوسيل نظرة شاملة غنية عن قناعته الفكرية بأن البشر سيستفيدون من هذه الاستطاعة الرائعة. ولكن العديد من الكُتّاب والفلاسفة لا يتفقون معه. فمع أن الشيخوخة والموت يضعان نهاية لحياة مواطنين أخيار، فإنهما يُنهيان كذلك حياة طغاة وقتلة وأعداد غفيرة من أناس غير مرغوب فيهم. ونشير أيضا إلى أن الكثير من الإبادة الجماعية المستمرة على كوكبنا، وما يتبع ذلك من آلام يعانيها البشر بسببها، قد تعود إلى التضخم السكاني الذي يشكل ظاهرة لا يبدو بالإمكان تخفيفها. وهكذا فإن إطالة حياة الناس في أحد المجتمعات التي ترزح تحت إرهاق مواردها الشاملة تُعتبر في رأي الكثيرين أمرا غير معقول. وفي نهاية الأمر، إذا كان الثمن الذي لابد من دفعه لقاء النتائج المفيدة للشيخوخة والموت هو أنه يشمل كل فرد، فعلينا جميعا أن ندفع هذا الثمن كما فعلنا على الدوام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى