عقل جميل في جسد سقيم .. “نيلس فينسن”.. طبيب تحدى الإعاقة ابتكر علاجًا وفاز بنوبل للطب
دوّن العديد من ذوي الإعاقات أسماءهم بأحرف من ذهب في تاريخ الإنسانية، بفضل إنجازات حققوها في العديد من المجالات، ومن هؤلاءالطبيب الدنماركي المنحدر من جزر فارو “نيلس ريبرج فينسن” الذي تحدى مرض “نيمان بيك” (من الأمراض الوراثية النادرة التي تؤثر على قدر الجسم على نقل الدهون داخل الخلايا) وحقق إنجازات طبية أذهلت العالم، وقد حصد على إثرها العديد من الجوائز وعلى رأسها جائزة نوبل للطب.
المولد والنشأة
ولد “نيلس” في 15 ديسمبر 1860م في ثورسهافن بجزر فارو، وكان الثاني في الترتيب بين أربعة أبناء لهانس شتاينجريم فينسين (الذي تنحدر أسرته من أصول أيسلندية)، وزوجته يوهانه فرومان، التي ولدت ونشأت في أيسلندا.
انتقلت أسرته من أيسلندا إلى ثورسهافن سنة 1864، بعد أن تم تعيين والده في وظيفة مساعد مأمور لجزر فارو. وفي سنة 1864 – عندما كان فينسن الابن في الرابعة من عمره – تزوج أبوه من بريجيت كريستين فورمان – ابنة عم أمه – لينجب منها فيما بعد ستة أبناء.
تعليمه الأولي
تلقى “نيلس” تعليمه الأولي في ثورسهافن ثم انتقل سنة 1874 إلى مدرسة هيرلوفسهولم الداخلية بالدنمارك، التي كان شقيقه الأكبر أولاف تلميذًا بها أيضًا. وقد واجه “نيلس” – بعكس شقيقه الأكبر – صعوبات في مدرسة هيرلوفسهولم، لدرجة أن ناظر المدرسة قال إن نيلس “ولد ذو قلب طيب، ولكن مهارته وطاقته محدودتان”. ونظرًا لانخفاض معدلاته الدراسية في هيرلوفسهولم، التحق بمدرسة “ليروي سكولين” في العاصمة الأيسلندية ريكيافيك سنة 1876م، وهي المدرسة نفسها التي درس بها والده في صباه، وشهدت هذه المدرسة تحسنًا ملحوظًا في مستواه الدراسي.
دراسته للطب
في سنة 1882م انتقل “نيلس” إلى كوبنهاجن العاصمة لدراسة الطب بجامعة كوبنهاجن، حيث تخرج سنة 1890م، وعين في العام نفسه معيدًا بقسم التشريح بجامعة كوبنهاجن، لكنه ترك هذه الوظيفة عام 1893م ليكون أكثر تفرغًا لأبحاثه العلمية رغم أنه لم يتوقف عن إعطاء دروس خصوصية لطلبة الطب ساعدته على تدبير نفقات معيشته. وفي سنة 1898م منح فينسن درجة الأستاذية، وفي سنة 1899م حصل على وسام دانيبروغ من رتبة فارس.
تأسس معهد فينسن سنة 1896م، وتولى فينسن نفسه إدارته، ثم ضُم فيما بعد إلى مستشفى جامعة كوبنهاغن، وهو الآن مختبر مختص بأبحاث السرطان.
علم العلاج بالضوء
يقولُ “نيلس” عنْ نفسِهِ: “مرضِي كانَ مصدرَ إلهامِي؛ فبسبَبِهِ بدأتْ أبحاثِي عنِ الضوءِ، عانيتُ منْ فقرِ الدَّمِ والتعبِ والإرهاقِ، كنتُ أعيشُ في منزلٍ بشمالِ أوروبا، وبدأتُ أعتقدُ أنَّ الشمسَ قدْ تُساعدُني في تخفيفِ ألمي؛ لذا قضيتُ أكبرَ وقتٍ ممكنٍ مُعرَّضًا لأشعَّتِها، وكرجلِ طبٍّ، كنتُ متحمِّسًا بطبيعةِ الحالِ لمعرفةِ حدودِ الاستفادةِ منْ أشعَّةِ الشمسِ، بدأتُ في جمعِ الملحوظاتِ الممكنةِ، ومعَ الوقتِ ازدادَتْ قناعَتي بأنَّ للشمسِ تأثيرًا مُفيدًا ومهمًّا على الكائنِ الحيِّ.. ماذا كانَ ذلكَ التأثيرُ على وجهِ الدِّقَّة؟ لمْ أكنْ أعلمُ إجابةً لذلكَ السؤالِ؛ لذا قررتُ السعيَ وراءَ ذلكَ المجهولِ، والإجابةَ عنْ كلِّ التساؤلاتِ المُمْكنةِ”.
“في ذلكَ التوقيتِ، لم تُكنْ هناكَ نظريةٌ واحدةٌ ذات موثوقيةٍ علميةٍ يُمكنُها تقديمُ حقائقَ دامغةٍ حولَ فائدةِ أشعةِ الشمسِ للكائناتِ الحيةِ، فقطْ كانَ هناكَ التاريخُ الطويلُ الذي ينطوي على عدةِ مُمارساتٍ طبيةٍ قديمةٍ موروثةٍ من الصينيينَ وقدماءِ المصريينَ، الذينَ كانوا يستخدمونَ مزيجًا منَ الدهاناتِ المكوَّنةِ منَ النباتاتِ لعلاجِ بعضِ الأمراضِ، معَ تعريضِ المريضِ لضوءِ الشمسِ، لمْ تُدوَّنْ نتائجُ واضحةٌ لتلكَ التجاربِ؛ وبالتالي لم يُعوَّلْ على استخدامِ تلكَ الوسيلةِ بوصفِها طريقةَ علاجٍ فعالةً في ذلكَ الزَّمانِ”.
“كانتِ المُهِمة التي ألقاها القَدَرُ على عاتِقِ “نيلس” هيَ وضع أساسٍ لتلكَ العمليةِ، وبناء نظريةٍ مُحكَمَة دامغةٍ لاستخدامِ الشمسِ، أوِ الضوءِ عمومًا، كوسيلةٍ مُعتمدةٍ لعلاجِ بعضِ الأمراضِ، وهوَ الأمرُ الذي نجحَ فيهِ الطبيبُ الدنماركيّ ليُصبحَ أبًا شرعيًّا للطريقةِ التي تُسمَّى حاليًّا بالعلاجِ بالضوءِ”.
تحفيز الأنسجة
باستخدامِ تجارِبَ بسيطةٍ، أثبتَ “فينسن” أنَّ انكسارَ أشعَّةِ الشمسِ على الجلدِ لهُ تأثيرٌ قويٌّ على تحفيزِ الأنسجةِ، ذلكَ التأثيرُ يتدرَّجُ منَ التحفيزِ إلى القُدرةِ على تدميرِ الخَلايا، بدأَ العَالِمُ المريضُ بدراسةِ تأثيرِ تركيزِ الأشعَّةِ الشمسيةِ على مناطقَ معيَّنةٍ منْ جلدِ المرضى، لينجحَ في علاجِ بعضِ الأمراضِ الجلديةِ التي استعصتْ على طُرُقِ العلاجِ التقليديةِ، مثلَ مرضِ الذئبةِ الشائعةِ، وهوَ مرضٌ جلديٌّ ينجُمُ عنْ مُهاجمةِ جهازِ المناعةِ للجسمِ، ويتسبَّبُ في حُدوثِ التهاباتٍ وتقرُّحاتٍ في جلدِ الإنسانِ.
والآنَ؛ وبفضلِ أبحاثِ “نيسن” الرائدةِ المُؤسِّسةِ لعلمِ العلاجِ بالضوء، يَعرِفُ العلماءُ أنَّ للضوءِ طاقةً قادرةً على الشفاءِ منْ بضعةِ أمراضٍ منْ ضمنِها اضطراباتُ النومِ، وبعضُ أمراضِ الجلدِ، والتئام الجروحِ، وتحسينُ الدورةِ الدموية.
حصوله على جائزة نوبل في الطب
حصل فينسن على جائزة نوبل في الطب عام 1903 “تقديرًا لإسهاماته في علاج الأمراض، وخاصةً داء الذئبة باستخدام الأشعة الضوئية المركزة، فاتحًا مجالًا جديدًا في العلوم الطبية”، غير أنه لم يتمكن من حضور مراسم التكريم التي أقيمت له في استكهولم في 10 ديسمبر 1903؛ إذ أنه كان في ذلك الوقت قعيد كرسيه المتحرك في منزله يتلقى التهنئة من أصدقائه ومن العاملين لديه، وقد قام فينسن بالتبرع بخمسين ألف كرونة من مبلغ الجائزة لمعهد فينسن (الذي أنشأه في كوبنهاغن عام 1896 لدراسة مرض الذئبة الحمراء) و60 ألف كرونة لمصحة أقامها هو أيضًا لمرضى القلب والكبد.
الأبحاث والمؤلفات
- تأثير الضوء على الجلد
- دراسة عن استخدام أشعة الضوء الكيميائي المركز في الطب، ترجم البحثان السابقان إلى الألمانية بعد قليل من صدورهما.
- العلاج بالضوء – صدر بالفرنسية عام 1899
كما اهتم في مرحلة لاحقة بالتأثيرات الصحية لملح الطعام، ودرس الأنظمة الغذائية قليلة الصوديوم، ونشر نتائج ذلك البحث تحت عنوان “تراكم الملح في الكائن الحي سنة 1904.
الجوائز والتكريمات
- وسام دانيبروج من رتبة فارس عام 1899م.
- وسام الصليب الفضي.
- جائزة كاميرون من جامعة إدنبرة.
- اختير عضوًا شرفيًا في العديد من الجمعيات الطبية بالدول الإسكندنافية وأيسلندا وروسيا وألمانيا وغيرها.
- كما كرم فينسن بتسمية مختبر فينسن بمستشفى جامعة كوبنهاجن باسمه، وأنشئ نصب تذكاري باسمه في ثورسهافن، وسمي أحد شوارع المدينة الرئيسية باسمه.
- كما أنشأ النحات رودلف تيغنر نصبًا تذكاريًا لفينسن أزيح عنه الستار في كوبنهاجن سنة 1909، وسمي النصب “نحو النور”، رمزًا لنظرية فينسن العلمية الرائدة التي تقول بقدرة ضوء الشمس على شفاء الأمراض.
الإصابة بداء “نيمان بيك”
يُعد داء “نيمان بيك” من الأمراض الوراثية النادرة التي تؤثر على قدر الجسم على نقل الدهون (الكوليسترول والشحميات) داخل الخلايا، حيث تُصاب هذه الخلايا بالعطب ثم تموت بمرور الوقت، ويمكن أن يؤثر داء “نيمان بيك” على المخ والأعصاب والكبد والطحال النقي العظمي، بالإضافة إلى تأثيره على الرئتين في الحالات الخطرة.
ويعاني المصابون بهذه الحالة من أعراض تتعلق بالفقدان التدريجي لوظائف الأعصاب والمخ والأعضاء الأخرى.
يمكن أن تحدث الإصابة بداء “نيمان بيك” في أي مرحلة عمرية، ولكنه يصيب الأطفال بشكلٍ رئيس، ولا يوجد علاج معروف له، كما أنه يكون مميتًا في بعض الأحيان، ويركز العلاج على مساعدة المرضى على التعايش مع أعراضهم.
عانى فينسن ابتداء من عام 1883م من داء “بيك” الذي أدى إلى تدهور صحته وتضخم مضطرد في كبده وقلبه وطحاله واستسقاء ببطنه، مما أدى إلى خلل في وظائف هذه الأعضاء وجعل سنواته الأخيرة معاناة متصلة، حيث عاش سنواته الأخيرة على كرسي متحرك، وتم إجراء بزل (شكل من أشكال الإجراءات التي تتم لأخذ العينات من السوائل في الجسم) للاستسقاء عدة مرات وصلت إلى 18 مرة، وفي النهاية أودى ذلك المرض بحياته في سن مبكرة. لكن مرضه العضال – وإن كان قد أقعده عن الحركة والحياة الطبيعية – فإنه لم يكن عائقًا أمام قيامه بعمل إضافات علمية ملموسة إلى الطب.
وفاته
توفي فينسن في كوبنهاجن في 24 سبتمبر 1904.